ملامح الفلسفة الصوفيّة

ملامح الفلسفة الصوفيّة

ملامح الفلسفة الصوفية

د. وفاء أحمد السوافطة

 

لا أدّعي أن الطور الفلسفي، الذي ارتقى إليه التصوف الإسلامي، بزغ مستقلاً عن التطورات والأحداث التي كانت تمهّد لظهوره، وتدفع باتجاه تميّزه طوراً ذا ملامح محددة. فمثل ما كان التصوف الإسلامي يجد بواكيره، ومنابعه، الزمانية والمكانية، في زهد وحكمة السابقين؛ جاء الطور الفلسفي، أيضاً، منتمياً لذات الجدلية، معبـِّراً عن تطوّر مضموني للتصوف الإسلامي، وإن كانت بواكير هذه الفلسفات قد بدأت، بشكل فطري، أقرب ما تكون إلى الخَطَرات، في المرحلة الزُهدية السابقة. فالحارث المحاسبي (ت243هـ/ 857م)، الذي ينتمي للمرحلة الزهدية، يعتبر في نظر كثير من المتصوفة، رائد علم الكلام الصوفي، أو متكلّم الصوفية؛ كما أن ذا النون المصري (ت 245هـ/ 859م) يعتبر رائد علم المعرفة الصوفي([1]).

فهذه البدايات شكّلت النواة الفلسفية لظهور نظرياتٍ شبه متكاملة (كلامية ومعرفية)، على الرغم من أن أصحابها، وحتى ناقديهم من المتأخرين، لا يعتبرون المتصوفة من أرباب النظر الفلسفي، بل هم من أهل السلوك والأحوال، وعلم السلوك والأحوال علمٌ لا يقيّد باللغة، ولا يُقاس بالمنطق، ولا تحصره السطور، حسب ما يرى أهله([2])؛ وهذا ما جعل شيوخ التصوف ينتقدون أولئك الذين عبّروا، في السطور، عمّا يجول في الصدور، فوقعوا في كمائن اللغة، والتعبـير، والإشارة والتأويل، والتفسير؛ وأوقعوا هذا العلم اللدني بين أيدي المستخفّين، والنقّاد، والمعترضين، والفلاسفة. فهذا الشبلي يصف من أجاب عن علم التوحيد بالعبارة بأنه ملحد “… ومن أشار إليه فهو ثنوي، ومن أومأ إليه فهو عابد وثن، ومن نطق فيه فهو غافل ” ([3]).

وفعلاً، فقد كانت المرحلة، التي عبّر فيها المتصوفة عن مواجيدهم وأحوالهم بلغة فلسفية، من أخطر المراحل التي دخل فيها التصوف، وإن كانت من أغناها فكراً، وأكثرها اقتراباً من كمال النظرية الفلسفية. فقد مثّلت لنا النماذجُ الصوفيةُ العظيمةُ الفهمَ الصوفيَّ المتعمّقَ للإسلام؛ كالحلاج، وابن الفارض، وابن عربي، وعبد الكريم الجيلي، وابن مسرّة. وحتى أن بعضهم، كالسهروردي القتيل مثّل قدرة عظيمة على استلهام التجربة الفلسفية الإنسانية عامة؛ فلم تخلُ كتاباته من تأثّر بتراث الحكمة الإنساني في كافة العصور السابقة([4]). فهل كان التصوف فلسفة؟ أو هل يمكن أن نعتبر ” الفلسفة ” طوراً من أطوار التصوف، واكب تطوّر مضامينه؟

كان التصوف الإسلامي من أبرز العلوم التي تمحورت حول النص القرآني والسنّة النبوية. فقد جاءت هذه العلوم ـ وهي تشمل، أيضاً، الفقه، والكلام (أي الفلسفة)([5]) ـ نتيجة طبيعية لتفاعل الوحي الإلهي مع العقل البشري. وقد ظل التصوف يتوازى مع هذه العلوم، تارةً، ويتوحّد معها، تارةً أخرى، في علاقة جدلية، تحكّمت فيها عواملُ خارجيةٌ، خاصةٌ بالظروف الاجتماعية والثقافية والسياسية؛ وأخرى داخليةٌ، لها صلةٌ وثقى بالأفراد الذين حملوا هذا العلم الديني، وبطبيعة الثقافات التي يصدرون عنها([6]).

لقد حتـّمت عوامل عدّة تطوّر الفكر الإسلامي عامة، والفكر الصوفي خاصة. ولعل أهم عاملين، من هذه العوامل، هما: 

ـ أولاً، خضوع الفكر، بشكل عام، لعوامل توالد داخلية، تمثّلت في صراع الفرق الإسلامية، وحواراتها الفلسفية، حول قضايا: الصفات والأسماء، وخلق القرآن…ألخ. 

ـ وثانياً، تأثّر الفكر الإسلامي، بالامتزاج الثقافي مع ثقافات الشعوب والأمم المجاورة، وخاصة، تلك التي خضعت للحكم الإسلامي، أثناء انتشار الفتوحات الإسلامية في شتّى الاتجاهات. لكن أياً، من هذين العاملين، لم يستطع، وحده، أن يقدّم نموذجاً فلسفياً فكرياً، متأصّلاً، يتسم بالريادة، وبتجاوز حدود كل منهما على انفراد؛ إذ إن الفِرَق الإسلامية لم تستطع أن تتعمّق في باطن الآيات القرآنية، أو الأحاديث النبوية، لتصل إلى ” الروح العام “، الذي ينظُم هذه الآيات والأحاديث، التي تصدر عنه. بل إن تعمقهم الساذج، والمتعدد – في آنٍ واحد – أوردهم موارد الاختلاف والحيرة والتناقض، كما هو مثال المعتزلة. والفلاسفة الإسلاميون، الذين تأثروا باليونان، كالكندي وابن سينا والفارابي، كانوا توفيقيين، هدفوا إلى تطويع الفكر الإسلامي، بمفاهيمه المختلفة، لقواعد الفلسفة والمنطق اليونانيين. وقد وجدت هذه العلوم صدىً واسعاً، في البدايات، قبل أن تتعرّض للتدهور، أو الجمود، في الفترة منذ القرن العاشر الهجري حتى الآن. فالفقه واجه محنة التحجّر والانغلاق على بعض الآراء الفقهية؛ وعلم الكلام تورّط في اللعبة السياسية، وقضايا الصراعات العقائدية، التي أدت إلى القول بخلق القرآن([7])، والتعطيل لصفات الله U([8]).

ملامح الفلسفة الصوفية:

أما الفلسفة الصوفية، خاصة، فقد مرّت في مراحل مختلفة، تشبه، إلى حدٍّ كبير، المراحل التي مرّت بها الفلسفة الإسلامية، عامة، وهي مراحل: البدايات، التي تميزت بالبحث عن الهوية الفلسفية؛ والنضوج، حيث الوصول إلى قمم فلسفية متميزة بآرائها؛ ثم الخمول عندما لجأ اللاحقون إلى استعادة آراء السابقين. لكن التصوف، بمرونته المتحركة تلك، كان أقل هذه العلوم تضرّراً، فلم يتعرّض للانقراض، أو الجمود، بل تعرّض للتشتّت عن المركز ـ مثلّث: (الكوفة، والبصرة، وخراسان)، وذلك بتشكيل نظامه الطُرُقي، الذي انتشر، في مرحلةٍ لاحقةٍ، في كافة أنحاء العالم الإسلامي.

وبعد أن تجاوز التصوف طور الزهد والتقشّف، انعكست الأحداث التي شهدها العالم الإسلامي على مضامين التصوف. ففي حين تطوّر الفكر الإسلامي ككل، وتجاوز فطريته، وتمحوره حول حرفية النصوص الدينية، وتوسّعت العلوم الدينية باتجاهات شتّى، كان لابد للتصوف من أن يدخل طوراً جديداً، وهو الطور الفلسفي العرفاني. 

لقد جاء التصوف، وأطلق قدرات العقل البشري، الذي اصطبغ بالنفحة النبوية، بحيث تحسّ فيه، دائماً النبض الوحيوي، مما أشكل فهم طبيعة الفكر الصوفي، على بعض الدارسين، فانحازوا، في فهمهم لهذا الفكر، إلى الجانب العقلاني منه، رغم تشديد شيوخ التصوف على ألوهية المصدر؛ كما انحاز آخرون إلى البعد الروحاني للتصوف، فأنكروا عليه هذا التناسق العقلاني، الذي تتصف ـ أو يفترض أن تتصف ـ به فلسفته.

إن التصوف قد أثمر فلسفةً مثيرة للجدل، والتشكيك في منبعها أو مصدرها. وحتى الموضوعات التي طرحها على بساط البحث والتفكير، أثارت ردود فعل متباينة. فبعضهم رفض اعتبار التصوف ” فلسفة ” ذات تميّزٍ نظري وموضوعي. فهذا أحمد صبحي يعتبر أن هذا الفكر ينفرد عن مظاهر الفكر الإنساني الأخرى بميزتين: 

أولاً، بكون التصوف تجربةً ذاتيةً، منهجها الذوق، مما ينجم عنه تفاوت التجارب الصوفية، وفقاً لمقام كل صوفي، واستعداده الروحي؛ 

ثانياً، بكون ” التناقض نسق التصوف “، مشيراً إلى ما يكتنف بعض عبارات الصوفية من الغموض، أو التناقض الظاهري، أو الخروج على مقتضى ميزان المنطق السطحي، كقول بعضهم: ” حقيقة الحرية في كمال العبودية ” ([9]).

وليس أصحاب النظر، من المتكلمين والفلاسفة، هم وحدهم الذين لا يعترفون بكون التصوف لا يُعدّ من الفلسفة؛ بل إن المتصوفة أنفسهم يترفّعون عن الفلسفة، ويعتبرون علومهم أسمى من علوم العقل المقيّد. فالشيخ عبد الكريم القشيري يقول: “… علم اليقين، على موجب اصطلاحهم – يعني المتصوفة – ما كان بشرط البرهان؛ وعين اليقين ما كان بحكم البيان؛ وحق اليقين ما كان بنعت العيان.  فعلم اليقين لأرباب العقول، وعين اليقين لأصحاب العلوم، وحق اليقين لأصحاب المعارف”([10]). ولا يقتصر الأمر على كون هؤلاء المتصوفة لا يعترفون بنسبة علومهم إلى العقل والفلسفة؛ بل إن هناك شروطاً عدة يرى بعض المفكرين أنها لا تنطبق على آراء المتصوفة، حتى يصحّ اعتبارها “فلسفة”، منها:

1 ـ عدم اعتراف التصوف بالعقل، ومكوّناته، ونظمه، ومنطقه، كما يرى بعض هؤلاء المفكرين([11]).

2 ـ اتهامهم التصوف بعدم الأخذ بالشمول. وبالتالي، إباحته لاختلاف التجربة الفردية عن غيرها. ولذلك، تُشكِّل كلُ تجربةٍ فرديةٍ حقيقةً متكاملة، لا يجوز إغفالها، أو الانتقاص منها، حسب ما يراه شيوخهم([12]).

3 ـ الوصول إلى الحقيقة لا يتم بالأداة العامة الشائعة بين الناس (حس، عقل)، ولا يخضع للجدلية الإسلامية (حس، عقل، وحي)؛ بل لهم تفسيرهم الخاص لمنطق الوحي، بأنه الإلهام الرباني المخصّص لبعض المجتهدين، وهو ما يُعرف بالكشـف الصـوفي([13]).

4 ـ إضافة إلى ذلك، فإن ” الرؤية ” الصوفية، في تصوّر بعض المفكّرين لا تعترف بوجود الأشياء خارج الذهن؛ بل تعتبر الوجود مجرد وهم، أو خدعة، أو حجاب، لا يقصد بذاته، وإنما هو وسيلة وهدف لما بعده([14]).

والحقيقة أن الشروط السابق ذكرها واهيةٌ، إذا عرضناها على المنطق والواقع. فهل عدم اعتراف المفكر، أو عدم ثقته بالعقل يخرجه من دائرة الفلاسفة؟. إذن، فماذا نحن صانعون بفلسفة بيرجسون، الذي لا يثق إلا بالمعرفية الحدسية، لا العقلية؟!([15]) وإذا رفضنا الفلسفة التي لا تعترف بوجود الأشياء خارج الذهن، واعتبار الوجود وهماً وخيالاً، فكيف نقبل فلسفة أفلاطون الذي اعتبر ما في الوجود مجرد ظِلالٍ للنار المقدسة خارج الكهف؟ ([16])، وكيف نقبل بوجود فلسفات هندية أو صينية، مع أن الأولى ترتكز على فلسفة الروح، لا العقل؛ والثانية تدور حول فلسفة التربية المدنية([17]). أما التفاوت في المعرفة، أو العرفان، أو الإلهام، فهذا أمر لا يخرج عن دائرة الفلسفة، أولاً، ولا يخالف جدلية الإسلام، بعد ذلك. فالفلاسفة قضوا سنوات طويلة في اختبار درجات المعرفة المباشرة وغير المباشرة، كما هو شأن ديكارت([18])، وليس الأمر قصرٌ على مفكري التصوف. 

كما أن الإسلام ذاته، ومن خلال نصوصه اليقينية، يجعل للمسلمين درجات ودركات ” معرفية “، من مثل قوله تعالى: {. : ، : .   }([19])؛ ومن مثلِ حديثِ الرسولﷺ حول الإحسان: } الإحسانُ أن تعبدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فهو يراك {([20]). فهل معرفة من يصل إلى درجةٍ يكاد يكون فيها قد رأى الله (مادة معرفته) رؤيةً عيانية، كمعرفة من يكتفي بإعلان شهادته بأن ” لا إله إلا الله “، وأن محمداً رسول الله، لسانياً فقط؟!

إن الفلسفة الصوفية أثبتت حضورها في الفكر الإسلامي. وما فتئت المدارس الصوفية تخرّج لنا مفكرين وأدباء نهلوا من معين تلك الفلسفة. فلا أحد يستطيع أن ينكر فلسفة ابن سينا، والفارابي، والغزالي، وابن عربي، والسهروردي، وابن عطاء الله السكندري، ومحمد إقبال…ألخ. إلا إذا أردنا أن نتجاهل مرحلةً مهمةً من مراحل الفكر الإسلامي والإنساني. لكن الأمر الذي علينا أن نسلّم به، في هذا الحقل المعرفي، هو أن التصوف كان يجمع ما بين فلسفات متعددة ونظم فكرية مختلفة، منها ما ينكر دور العقل بتاتاً كالحلاج؛ ومنها ما يثبته تماماً كالمحاسبي؛ ومنها ما يوفق ما بين الاثنين كأبي الحسن الشاذلي.

وكذلك، فقد استخدم مصطلح “الفلسفة” للتعبير عن منظومات فكرية متباينة، بعضها ينطلق من قواعد العقل، وبعضها يعتمد الحس والتجربة، وبعضها يأخذ بالحدس والشعور… وبالتالي، تعددت الفلسفات، وتعريفاتها، بتعدد الفلاسفة. فهي جهدٌ بشريٌ، اكتسب محتوىً متنوعاً، عبر التاريخ، انسجاماً مع البيئة الاجتماعية لكل عصر. فالإطار اليوناني للفلسفة ـ مثلاً ـ، احتوى على عدة تيارات فكرية، داخل منظومته: فاحتوى على مادية “هيروقليطس”، ومثالية ” أفلاطون “، وعقلانية ” أرسطو”.

إذن، فما يميز أية فلسفة هو مسلماتها الأولية التي تنطلق منها، ومنهاجها المعرفي، إضافة إلى تناسقها الداخلي. وبالتالي، فإن وصف، أو قبول، أي فكر إنساني، ضمن دائرة الفلسفة، إنما يعتمد على ما يتصف به التفكير الفلسفي من سمات عامة، حين يُشكّل البحثُ عن السمات العامة مطلباً أساسياً في هذا البحث. وإذا طبقنا على التصوف خصائص التفكير الفلسفي وسماته، وهي الشمول، والعمق، والتناسق الداخلي، والغائية([21]) نجده، في أحد جوانبه، ” فلسفةً “، من حيث محاولته الوصول إلى منظومةٍ كلّيةٍ متناسقةٍ، وعميقةٍ في نظريته المعرفية، قائمة على المرجعية، أو الأصول الإسلامية. لكن التصوف يختلف في جوانب أُخرى، من حيث رؤيته الفلسفية، أو يتمايز عن النظريات القائمة على الحس، أو العقل أو المادة. فهو، دون أن يتنكّر لهذه الإمور، يتجاوزها إلى أصولٍ معرفيةٍ.

مزالق الفلسفة الصوفية:

ولا بدّ لنا من الاعتراف بأن التجربة الفلسفية الصوفية واجهت الكثير من الصعاب، والاعتراضات، والمعيقات، والأخطار.

وتأتي خطورة هذا الطور الفلسفي، الذي وصل إليه بعض المتصوفة، من عدّة عوامل:

  1. إقدام فلاسفة التصوف على تقديم تصوّر نظري متكامل، للوجود، مما جعلهم يتعرّضون لكثير من المآزق التي دفعت أعداءهم لرجمهم وتكفيرهم، أو على الأقل الاستهزاء بطروحاتهم.
  2. أن الفلسفة لغة العقل والمنطق.وهذه اللغة تصطدم بلغة الشعور، والإشارة، والأحوال، والمواجيد، التي يدعو المتصوفة لتبنّيها، مما دفع بعضهم للدعوة إلى التخلّي عن لغة الفلسفة والعقل.
  3. أن الحجج الفلسفية تطلّبت من الفلاسفة المتصوفين البوح بكثير من علومهم الباطنية، التي تبدو متناقضةً، أو متعارضةً مع قواعد الفلسفة والتعبير، مما أوهم الشطحَ، في كلام شيوخهم، تارةً، والتناقضَ في بعض الأحيان.
  4. أن الفلسفة كانت، دائماً، مستهدَفة من قِبَل فقهاء الظاهر وعلمائه.وبالتالي، اعتبر هؤلاء كل من تعاطى الفلسفة آبقاً، خارجاً على الدين، يريد به السوءَ والفساد، مما أعطى للفقهاء دافعاً جديداً، لرفض التصوف، والتنكيل برجالاته، ورميهم بالزندقة.
  5. وأخيرا، أن لغة الفلسفة باعدت، في فترةٍمن الفترات (ق4-6 هـ)، ما بين شيوخ التصوف وبين النبض الشعبي. فاقتصرت لغة الفلسفة الصوفية على الخاصة، والمثقّفين، وأصحاب الأحوال والإشارات. وبالتالي، فإن هذه اللغة ابتعدت، بذلك، عن الناس، وفقدت، لزمنٍ طويلٍ، بُعدَها الجماهيري، حتى جاءت المرحلةُ الطّرقية، فأخرجتها من هذا المأزق، بجمع المريدين، من كافة الطبقات الشعبية، حول المبادئ الصوفية.

الهوامش

([1])  انظر:

Annemarie Schimmel Mystical Dimension of Islam , University of N. Carolina pr., 1983, PP. 6 & 24.

وتعتبر آنيماري شيميل أن أول علامات التفكير الفلسفي انطلقت من القرآن الكريم، حيث وضعت آياتٌ، مثل آية الميثاق بين الله والإنسان {}، الفكر الإسلامي وجهاً لوجه أمام إشكاليات الإرادة والحرّية ‏والقدَر، والخصوصية والانتخاب، وقدرة الله اللامتناهية أمام الحب الإنساني المتناهي. وانظر، أيضاً: عبد القادر أحمد عطا، التصوف الإسلامي بين الأصالة والاقتباس في عصر النابلسي، بيروت: الجيل، 1987م، ص 276.

([2]) أبو حامد الغزالي يقسّم علوم التصوف إلى قسمين: الأول علم المعاملة، وهو ما دوّنه في الإحياء، والثاني علم المكاشفة، وهذا لا يسطر في الكتب، ولا يتحدث بها من أنعم الله عليه بشيء منها إلا مع أهله. انظر، له: إحياء، ج 1، ص 20.

([3]) انظر: عبد الكريم القشيري، الرسالة، تحق معروف زريق وعلي عبد الحميد، ط2، بيروت: الجيل، 1990، ص 301.

([4]) إن مسألة التأثّر والتأثير، مسألة نسبية، وفيها حيف وجور على فلاسفة التصوف، الذين أبدعوا نظريات فلسفية أصيلة. وقد اعتبر أبو العلا عفيفي أن فكرة ” التأثّر والتأثير” من أخطر المزالق التي تؤثّر على الباحثين. لا يكفي ظهور فكرة في فلسفة ما، ثم ظهور نفس الفكرة في فلسفة أخرى، للحكم بأن الفلسفة الثانية متأثّرة بالأولى. انظر رأيه في مقدمته على كتاب نيكلسون في التصوف، الصفحة (ك).

([5]) يفصل بعض المفكّرين الفلسفة عن علم الكلام، ويعتبرونها ناتجاً رابعاً من نواتج التراث الفكري الإسلامي، وهي (الفقه، الكلام، التصوف، الفلسفة). انظر: أنور أبي خزام، معجم المصطلحات الصوفية، بيروت: مك لبنان، 1993، ص 28؛ ومحمد جلال شرف، دراسات في التصوف الإسلامي: شخصيات ومذاهب، بيروت: النهضة العربية، 1984م، ص 7.

([6]) لقد لعبت عوامل كثيرة دوراً، لا يستهان به، في تطوّر العلوم الدينية، والفلسفة الإسلامية، نذكر منها، على سبيل المثال، لا الحصر: توسع الفتوحات الإسلامية، ونشاط الترجمة من اللغات القديمة، وتفاعل الثقافات، ودخول جنسيات غير عربية إلى الإسلام، مما أعطى للفكر الفلسفي الإسلامي أبعاداً جديدة، وعمل على تطور العلوم داخله.

([7]) كان قول المعتزلة بخلق القرآن نتيجة لحواراتهم مع النصارى الذين كانوا يقولون بوجود ذات المسيح مع ذات الله، عز وجل، في القِدَم. فرفض المعتزلة اعتبار كلام الله قديماً، يشارك الله في القِدَم، مثل (الكلمة) عنـد النصارى، فلزمهم القول بالحدوث على كلام الله، وخلق القرآن؛ انظر: فهمي جدعان، المحنة، بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام، عمان: الشروق، 1989م، ص 22.

([8]) م.ن، ص 109.

([9]) يعتبر أحمد صبحي أن التصوف قادر على جمع النقيضين، أو انبثاق النقيض عن النقيض، لكن الحدّين المتعارضين في مبحث القيم لا يستويان، ولا= =ينبثق أحدهما عن الآخر بأي حال انبثاق النار من الشجر، أو خروج الحياة من الموت. وهو يعتبر التناقض في الفكر مشكلة، لكن التناقض في الوجود (صراع الأضداد) سُنّة حياة. انظر: له، التصوف الإسلامي، ص 57.

([10]) القشيري، الرسالة، ص 85.

([11]) أحمد صبحي، التصوف الإسلامي، ص 47.

([12]) يقول الجابري إن القياس العرفاني قياس بدون جامع، أو حد أوسط، أو رقابة عقلية. انظر: بُنية العقل، ج2، ص 315.

([13]) يرى أبو الوفا التفتازاني أن التصوف الفلسفي لا يمكن اعتباره فلسفة، لأنه قائم على الذوق، ولا يمكن اعتباره تصوفاً خالصاً، لأنه يختلف عن التصوف، بكونه يحاول وضع مذاهب في الوجود. انظر: له، مدخل إلى التصوف الإسلامي، القاهرة: الثقافة، 1974، ص ص 227-228.

([14]) يعتبر برترند رسل أن التصوف فلسفةٌ تتميّز بأربع خصائص، هي: الاعتقاد بالكشف منهجاً للمعرفة؛ والاعتقاد بالوحدة الوجودية، ورفض التضاد والقسمة؛ وإنكار حقيقة الزمان؛ والاعتقاد بأن الشر محض شيء ظاهري، ووهم مترتب على القسمة والتضاد. انظر رأيه عند التفتازاني،  م. ن، ص ص 6-7.

([15]) لقد وسّع بيرجسون معنى التجربة الفلسفية، فلم يجعلها مقصورة على الخبرة الحسّية، بل هو قد أدخل في نطاقها “الخبرة الصوفية” أيضاً. ويؤكد بيرجسون أن الفلاسفة قد غاب عنهم أن الزمان المتصوّر بالعقل إن هو إلا مكان، وأن العقل لا يدرك من الديمومة سوى شبحها، لا حقيقتها. انظر: زكريا إبراهيم، بيرجسون، ط2، القاهرة: المعارف، 1968م، ص 12و231.

([16]) يؤمن أفلاطون بوجود عالم معقول هو مثال العالم المحسوس وأصله، يُدرك بالعقل الصِرف. والماهيات فيه مبادئ” ومُـثُل ” الوجود المحسوس. وهو يقول إن مِثلنا مثل أناس في كهف منذ الطفولة، وأوثقوا بسلاسل ثقيلة، بحيث لا يستطيعون نهوضاً، وأديرت وجوههم إلى داخل الكهف فلا يملكون النظر إلا أمامهم، فيرون على الجدار ضوء نارٍ عظيمة، وأشباح أشخاص وأشياء تمر وراءهم.  ولما كانوا لم يروا في حياتـهم سوى الأشباح، فإنهم يتوهمونها أعياناً. انظر: يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، ط 5، القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 197م، ص ص 73-74.

([17]) جورج طرابيشي، نظرية العقل، بيروت: الساقي، 1996 م، ص 61.

([18]) انظر على سبيل المثال كتابه ” تأملات في الفلسفة الأولى“. وديكارت في فلسفته يطالب بالشك في الحواس ومعطياتها والعقل ومعطياته، ليخلص إلى القول: أنا أستطيع الشك في كل شيء ما خلا الشك ذاته؛ ولما كان الشك تفكيراً فأنا أفكر، ولما كان التفكير وجوداً فأنا موجود: ” أنا أفكر إذن أنا موجود “. انظر: يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة، القاهرة: المعارف، 1962م، ص ص 66-67.

([19]) سورة الحجرات: الآية 14.

([20]) أخرجه البخاري في الصحيح، بيروت: تصوير دار إحياء التراث العربي عن نسخة الحلبي، 1958م، ج1، ص 20.

([21]) المقصود بالغائية هو أن يحتوي التفكير الفلسفي على مضمون، وغاية يسعى لتحقيقها.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!