العلاقة بين فرويد والتصوّف الإسلامي

العلاقة بين فرويد والتصوّف الإسلامي

العلاقة بين فرويد والتصوّف الإسلامي

كلُّ مُعلِّمٍ صوفيٍ هو طبيبٌ نفسانيٌ[1]

أمنية الشاكري

ترجمة: علي السعيدي

 

“الأحلام كالنصوص لها معانٍ ظاهرة وأخرى باطنة. ويمكن فهم المعاني الباطنة من خلال الآيات والإشارات”.

 

سنجد حتى لدى المفكرين الأكثر ميلاً للنزعة الثورية أنَّ ما هو مدهشٌ وغريب لم يعد كذلك، وليس سيغموند فرويد استثناءً من هذه القاعدة. فقد وجد الباحثون العرب أنَّ طائفة من أفكار فرويد تعود في جذورها لمفكرين عرب مشهورين[2].  فحين قام المثقفون في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي بترجمة أعمال فرويد الى العربية، وجدوا فيها أثاراً للشيخ الأكبر ابن عربي. ويُرجع الكاتب المسرحي والروائي المصري توفيق الحكيم سبب ذلك التمازج في التقاليد الثقافية إلى عهد غزو الإسكندر الكبير لسوريا وما تلاه من ترجمة الأعمال الفسلفية من اليونانية إلى السريانية.

وكانت مصر إبّان الحكم الروماني مركزاً  للدراسة وجزءاً مهماً من العالم العقلي القديم المشترك الذي كان يضم بالإضافة للإسكندرية أثينا وروما. ونتيجة لذلك جرت ترجمة الفلسفة اليونانية خصوصاً أعمال افلاطون وأرسطو إلى العربية بحماس منقطع النظير خلال مرحلة مبكرة من التاريخ الإسلامي مما أسهم في انتعاش الفلسفة اليونانية.

ويرى توفيق الحكيم[3] أنَّ أفكار اليونان قد تدفّقت إلى بنية الفسلفة الإسلامية. وكانت تلك العملية واضحة في مؤلفات الحكيم نفسه التي مزجت بين التراجيديا اليونانية والأساطير الإسلامية للتأثير على ما أسماه “التلاقح بين نوعين من الأدب ونمطين من طرائق التفكير”[4]. لهذا ليس غريباً على الإطلاق أنْ يبنى هذا التوَّجُه على تقاليد ثقافية مشتركة إلى حدّ تحوَّل اهتمام المثقفين العرب بمصطلحات التصوف الإسلامي حين قاموا بترجمة فرويد في منتصف القرن العشرين.

وفي بداية عام 1945، قام الأكاديمي يوسف مراد المختص بعلم النفس الإجتماعي والمروِّج لتعاليم فرويد في التحليل النفسي بإصدار قاموسٍ يضم المفردات الإزائية العربية للمصطلحات الإنجليزية والفرنسية والألمانية في حقلي علم النفس والتحليل النفسي. وقد لقي مفهوم فرويد المعروف بـ “unconscious” اهتماماً خاصاً حيث وجد أـنَّه يعود لمصطلح  اللاشعور الذي ابتكره ابن عربي في كتابه “فصوص الحكم“. لقد أذهل كتاب ابن عربي[5] المنظوم والمليء بالمعاني العميقة القرَّاء لعدة قرون تماماً كما أدهش أتباع مدرسة فرويد في القرن العشرين. ففي كتابه فصوص الحكم، يروي ابن عربي قصة إبراهيم الذي تمثّل الله له في الحلم وأمره أنْ يضحي بولده. ويرى ابن عربي أنَّ النوم والأحلام تحصل في حضرة الخيال ويتوجّب أن تخضع للتفسير.

ويستشهد ابن عربي بقوله تعالى لإبراهيم:” وناديناه أنْ يا إبراهيم قد صدَّقت الرؤيا“( الصافات: 104)، التي يفهمها ابن عربي على اعتبارها خطأ إبراهيم الأساسي. ويعتقد ابن عربي أن خطأ إبراهيم يكمن في فهمه للحلم فهماً حرفياً وكان يتوجب عليه بدل ذلك أنْ يفَّسره. أو كما صاغه عالم النفس الفرنسي جين ميخائيل هيرت عام 2009 بقوله: “الإشكالية هي هل علينا أنْ نؤمن بالحلم أم علينا أن نفَّسره”. والأمر ببساطة هو أنَّ إبراهيم لم يكن يعي أو يعلم (أو لم يشعرُ) بما قد رآه (أيَّ التبيان الواضح لرؤيته لله) لهذا فقد أصبح إبراهيم غافلاً عن تفسير الرؤية ومتجاهلاً له، وقام بدلاً من ذلك بالتعاطي مع الرؤية حرفياً. لقد أسس شرَّاح فرويد من العرب المتأخرين نتائجهم على هذه الفكرة المتعلقة بـ”الجهل” الدال على حضور اللاشعور لدى الإنسان.

تقدّم قصة إبراهيم وولده مادة غنية للمنظور الفرويدي كونها تتجاوب بعمق مع مفاهيم فرويد واهتماماته مضافاً لفكرة اللاشعور لدى الإنسان. وتعزّز تلك القصة الحاجة إلى تفسير الأحلام. ويعدّ فهم الأحلام في الثقافة العربية والإسلامية جزءاً من التقاليد القديمة والغنية لتفسير فرط الحسّ النومي. فالأحلام كالنصوص لها معاني ظاهرة وأخرى باطنة. ويمكن فهم المعاني الباطنة من خلال الآيات والإشارات. 

ومن أمثلة ذلك في القرآن وصف النبي يوسف لأبيه في قوله تعالى:” إذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ” [سورة يوسف:4].  فبالنسبة ليوسف يمكن تفسير هذا الحلم بشكل رمزي بمعنى أنَّ الكواكب تمثل أخوته الذين سجدوا له بعد ذلك بالفعل حين اعتلى دست السلطة في مصر. غير أنّ ابن عربي يرى أنَّ هذا التفسير منقوصٌ ويرتأي بدلا منه أنَّ يوسف لم يكن يعي كونه لا يزال يحلم بالفعل حتى بعد أنْ رأى أخوته في مصر أخيراً.  لقد صدَّق يوسف أنَّ رؤياه قد انتهت، وهنا يأتي دور التفسير.

 يعلّق المستشرق الفرنسي هنري كوربنHenry Corbin[6] أنَّ ابن عربي عرض الأثر المنسوب إلى النبيّ: “الناس نيام فإذا ماتوا إنتبهوا”، ليبيّن أنَّ الوجود الأرضي مجرد “حلم في حلم”.  ويعلّق العالم الياباني توشهيكو إزوتسوToshihiko Izutsu في كتابه “التصوف والطاوية” (1983 )[7] أنَّ هذا يظهر نقطة الانطلاق أو الأساس في التفكير الأنطولوجي لابن عربي، أيّ أنَّ ما يسمى بـ”الواقع” ليس سوى حلم.. بل مجرد وهم”. غير أنَّ هذا لا يعني أنَّه وهم ذاتي بل يمكننا النظر إليه، كما يبين إزوتسو، على أنَّه وهم “موضوعي”.

إنَّ تَصَوُّر الواقع على أنَّه وهمٌ من ناحية بينما النظر إليه باعتباره ليس وهماً في الوقت نفسه يسلّط الضوء على مفهوم آخر مرتبط بشكل عميق بالتحليل النفسي ألا وهو مفهوم الخيال.  لقد قام جاكوز لوكان Jacques Lacan ــــ الذي قرأ ابن عربي عبر كتابات كوربن Corbin، بتوسيع مفهوم الخيال في التعاليم الأخيرة لنظرية التحليل النفسي وبشكل كبير. وكما يضيف الباحث في الدراسات الدينية William Chittick ويليام تشيتك أنَّ ابن عربي يرى الخيال حقلاً وسطياً يقع بين عالمي الروح والعالم المحسوس. وكما يبين لاكانLacan لاحقاً كيف يفَّسر ابن عربي ذلك عبر مثال انعكاس صورة الشخص في المرآة. فهل صورتي في المرآة حقيقة أم وهم؟ فهي من ناحية حقيقة ومن ناحية أخرى هي مجرد وهم. وهذا يوضح طبيعة الخيال على أنَّه وجودٌ وعدم في الوقت نفسه.

إنَّ أوجه التشابه والتجانس بين الإسلام الصوفي وبين فكر فرويد واضحة وعميقة. فهل تمكّن المفكرون المسلمون من إيجاد تلك الروابط بين نظرية التحليل النفسي وبين الإسلام؟ نعم، لقد فعلوا ذلك غالباً عبر الاشارة إلى الرؤى المشتركة في مجال تفسير الأحلام، على أساس أنَّ هناك علاقة بين المعنى الباطن للمعرفة الدينية ومعناها الظاهري. كذلك أدرك المفكرون المسلمون التشابه المدهش بين المحلل النفسي وبين المعلم الروحي في الصوفية.

وفي منتصف القرن العشرين، بدأ الشيخ أبو الوفا الغنيمي التفتازاني ــــ وهو أحد مشايخ الطرق الصوفية والذي أصبح بعد ذلك أستاذاً للفسلفة الإسلامية والتصوف في جامعة القاهرة ـــ الكتابة عن التصوُّف في الخمسينات. لقد كانت كتبه تقرأ على نطاق واسع في مصر وخارجها وهو كثيراً ما كان يقارن التصوف بنظرية التحليل النفسي.

وقد لاحظ التفتازاني[8] على وجه التحديد أنَّ التصوَّف والتحليل النفسي يقومان على أساس طريقة الاستبطان، وكلاهما لا يتعلّقان بالمضمون الظاهري للنفس بقدر ارتباطهما بالمحتوى الباطني، وهو حيز كثيراً ما تفصح عنه الرغبات الجنسية. ومن الأهمية بمكان أنَّ كلاهما(التصوُّف والتحليل النفسي) ينمان عن اهتمام بالباطن أو حيّز المعنى الباطني مضافاً إلى التجليات الباطنية لللاشعور. ويرى التفتازاني أنَّ الشيخ الصوفي، كـالمحلل النفسي، يجب أنْ يتحقّق من الرغبات والأفكار المرتبطة باللاشعور لدى مريده لتسهيل عملية التحول الروحي داخل النفس.

من الواضح أنَّ التصوُّف ونظرية التحليل النفسي مرتبطان بشكل عميق جداً. لقد لاحظ ذلك عبد الحليم محمود -أحد علماء التصوُّف الذي أصبح بعد ذلك شيخ الجامع الأزهر-  فقد اعتبر أنَّ “كلَّ معلم صوفيّ هو طبيب نفسي”. فالعلاقة بين الشيخ الصوفي ومريده هي علاقة انسجام مع إمكانية التحول عبر التحليل (الطب) النفسي.

          لقد أدرك المتمرسون في مجال التصوُّف معنى جهادهم كي يصبحوا جزءاً من معركة أكبر بين الميول النبيلة والنزعات الهابطة لدى الإنسان. وقد شدد التفتازاني على أنَّ المتصوِّفة يسعون لبلوغ معرفة الله الحقيقية وحبّه الخالص. إنَّهم يسعون للتوحد الصوفي مع الله، عبر إماتة النفس الدنيا وفنائها، ذلك التوحد مع الله الذي يظل الله فيه وجوداً متسامياً[9].

ويبين التفتازاني أنَّ ذلك التوحد ليس اكتشافاً فردانياً وذاتياً للنفس بل هو اتحاد مع المطلق. ومن المحتمل جداً أنَّ فرويد لم يكن يرى في التصوَّف “سوى علم النفس وقد تمّ ابرازه في العالم الخارجي” لكن التصوَّف بالنسبة للتفتازاني وآخرين هو سبيل  الوصول إلى الله عبر تهذيب الأخلاق .

          إنَّ اهتمام التفتازاني بنظرية فرويد مجرد مثال واحد من العالم العربي في القرن العشرين يعبّر عن حجم التلاقح الثقافي بين نظرية التحليل النفسي والإسلام الصوفي. لقد كان تلاقحاً ودّياً وابداعياً تضمّن فهما مشتركاً مبنياً على تجانسٍ حقيقي وعميق بين الفرويدية والتراث الصوفي الإسلامي.

الهوامش:

[1] .  هذه ترجمة لمقال بعنوان :

Every Sufi Master is, in a sense, a Freudian Psychotherapist, 2018

عن كتاب :

Omnia El- Shakry, 2017. The Arabic Freud, Psychoanalysis and Islam in Modern Egypt. Princeton: Princeton University Press, pp.1-20.

[2] .  Freudian division of self into id, ego and super ego are borrowed from Arabic sufi works, especially works of Ibn Arabi (El- Shakry, 2017. The Arabic Freud, Psychoanalysis and Islam in Modern Egypt, p.1).

[3]. al-Hakim, Tawfiq. “Introduction to King Oedipus.” In Carlson, Arab Oedipus, 16–40.

[4]. المصدر نفسه.

[5] . Ibn al-ʿArabi (Ibn ʿArabi). The Bezels of Wisdom. Translated by R.W.J. Austin. New York:
Paulist Press, 1980.

[6] . Corbin, Henry. Alone with the Alone: Creative Imagination in the Sufsm of Ibn ʿArabi.
Princeton, NJ: Princeton University Press, 1998.

[7] . Toshihiko Izutsu (1983). Sufism and Taoism. California:  University of California Press.

[8] . al-Taftazani, Abu al-Wafa al-Ghunaymi. “Sikulujiyyat al-Tasawwuf (1).” Majallat ʿIlm al-Nafs 5, no. 2 (1949): 291–96.; see also al-Taftazani, Abu al-Wafa al-Ghunaymi .“Sikulujiyyat al-Tasawwuf (2).” Majallat ʿIlm al-Nafs 5, no. 3 (1950): 377–84

[9] . El- Shakry, 2017, The Arabic Freud, Psychoanalysis and Islam in Modern Egypt, p.50.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!