ابن عربيّ في مرآة الأمير عبد القادر الجزائري

ابن عربيّ في مرآة الأمير عبد القادر الجزائري

ابن عربيّ في مرآة الأمير عبد القادر الجزائري

د. رشا روابح

ففــي أنــا كل مــا يؤمّلــه الورى  *  *  *  فمن شاء قرآنا ومن شاء فرقانــا

ومن شاء توراة ومن شاء إنجيلا  *  *  *  ومن شاء مزمارا زبورا وتبيانـا

ومن شاء مسجدا يناجيه ربُّهُ  *  *  *  ومن شاء بيعةً ناقوسا وصلبانا

ومن شاء كعبة يقبّل ركنها  *  *  *  ومن شاء أصناما ومن شاء أوثاناً

ومن شاء خلوة يكن بها خاليا  *  *  *  ومن شاء حانة يغـازل غزلانـــا

        ـ ديوان الأميرـ

لم يكن جبل قاسيون بدمشق الملتقى الأول أو الوحيد الذي جمع بين القمرين الذين هلاّ عليه من ديار المغرب[1]؛ الأمير عبد القادر الجزائري والشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي –رضي الله عنهما-، وإنما سبقته عدّة لقاءات تمثلت في وقائع ومشاهد روحية، أشار إليها الأمير في أكثر من مطرح ومناسبة من مواقفه. ليكون دفن الأمير بجانب الشيخ الأكبر ما هو إلا تجسيد مادي لموت معنوي سابق تم في الخلوة وفي فضاء الاستشهاد الصوفي والواقعات التي أشار إليها.

ولو شئنا تتبع صلة الأمير بالشيخ الأكبر، فإن الأمر سيعود بنا إلى تنشئة الأمير في كنف عائلته الصوفية الإدريسية الحسنية التي كانت تتقلد الزعامة الروحية أبا عن جدّ، وتحديدا بداية من جدّه الشيخ مصطفى بن المختار الحسني (ت 1212ه) مؤسس فرع الطريقة القادرية بالجزائر في القرن 12هـ، وهي نفس الطريقة التي تأثر بها ابن العربي من خلال أخذه عن أبي مدين الغوث -رحمه الله- الذي كان له السبق في جلب الطريقة مباشرة عن مؤسسها عبد القادر الجيلاني[2] لبلاد المغرب. ضف أن جد الأمير كان وارثا للمشرب الأكبري ومُجازا فيه من طرف الصوفي الكبير وإمام اللغة محمد مرتضى الزبيدي صاحب قاموس تاج العروس[3].

 فهي علاقة مبكّرة بدأت منذ بدايات الأمير التعليمية في ظل زاوية والده سيدي محيي الدين الحسني (ت 1249هـ) شيخ الطريقة القادرية، والذي أتاح لابنه عبد القادر فرصة التقرّب من التراث الأكبري وعمره لم يتجاوز 25 سنة، حين اصطحبه معه لأداء فريضة الحج، مرورا بدمشق التي مكثا فيها بجوار منزل الشيخ الأكبر، واطلع هناك على مخطوطاته.

ثم ترسّخ الاحتكاك الأميري بالعرفان الأكبري بهجرة الأمير الأخيرة إلى الشام واستقراره بها، حيث يذكر نجله محمد باشا أنه بمجرد وصوله إلى دمشق كان أول ما قام به زيارة ضريح الشيخ الأكبر، ونزوله ببيته الذي عاش وتوفي فيه، “واختار الأمير بأن يقيم في الحي الذي يوجد فيه ضريح ابن العربي”[4]. وبعد استقراره تمكن من الاطلاع على الموروث الأكبري وانكبّ على دراسته منفقا على ذلك الغالي والنفيس إلى أن صار متحدّثا رسميا للعرفان الأكبري، ووُصف كتابه المواقف بأنه مفاتيح لم استُغلق من الفتوحات. فقال الأديب نعمان أفندي أبو شعر في رثائه للأمير:

يا عامراً لبيوت العلم إذ درست * * * يا ناشر الحاتميات ومحييها[5].

الأمير عبد القادر تلميذا للشيخ الأكبر

يلاحظ قارئ كتاب المواقف بشكل ملفت، اعتراف الأمير في عدة مواطن بأنه تلميذ وفيّ للشيخ الأكبر، وأن كل ما حصل له من الخير بعد الإيمان بالله ورسوله ﷺ هو بواسطته[6]، مشيرا إلى حدوث ذلك النفع عن طريق الوقائع والمبشرات. منها قوله: “وقد كنت رأيت سيدنا الشيخ ـ رضي الله عنه ـ في مبشرة، فكان يأمرني أن أقرأ معه درساً، ويحثني عليه ويستعجلني فيه، فلما ألهمني الله تعالى زيادة توضيح وتسهيل لما كتبه في هذه المسألة، أوّلت الرؤيا بأنه رضي الله عنه المدرّس، والعبد الفقير المعيد… وإني بقصوري عن فهم كلامه كما ينبغي أعترف، ومن البحر المحيط “خاتم النبوة ” أرتشف، ومن جدول “خاتم الوراثة المحمدية” أغترف.”[7]

ولا يفوته أن يقرّ بفضله عليه، داعيا له –رحمه الله- كقوله: “فاعرف هذا الموقف، فإنه من نفائس العلم… وهو من أنفاس شيخنا محيي الدين ـ رضي الله عنه ـ، اللهم اجزه عنّا أفضل ما جزيت معلما عن متعلم، ومرشدا عن حائر، وهاديا عن ضال، وناصحا عن منصوح.”[8]

ولا يترك الأمير فرصة إلا ويذكّر بمقام الشيخ الأكبر وبفضله وجلالة قدره، فينعته بــ: إمام العارفين[9]، وسيدنا وقدوتنا[10]، سيدنا وعمدتنا الشيخ محيي الدين[11]، سيد العارفين قاطبة”[12]، سيد المحققين[13]، مظهر الصفة العالمية الإلهية[14]، الأعلم والأفضل والأكثر أدبا”[15]، قدوة العلماء بالله من الأولياء”[16]، إمام العلماء بالله تعالى وقدوتهم[17]، ختم الوراثة المحمدية، مظهر الصفة العلمية، والولاية الأحمدية، الممدّ لكل وليّ نيابة عن محمد ﷺ[18]، عريف الجماعة[19]، إمام أهل الكشف[20]، وإمام أهل الله[21]، وسيد المحققين وإمام الأولياء المكاشفين[22]. وغيرها من عبارات التبجيل والتعظيم التي يوظفها الأمير في حق شيخه الروحي.

ومع كل هذا التعظيم للشيخ الأكبر، وشراسته في الدفاع عنه، والرد على كل من خالفه كالشيخ عبد الكريم الجيلي وغيره، إلا أن الأمير لم يكن مجرد ناقل مقلد لابن العربي، بل كانت له مواقف وآراء يختلف فيها عن شيخه، يمكن مراجعتها في المواقف التالية: 11، 56، 108، 44، 116، 187، 212.

الأمير عبد القادر شارحا للشيخ الأكبر

لابد وأن يسبق الحديث عن الأمير بوصفه شارحا لابن العربي الإشارة إلى فضل الأمير في العناية بالمتون الأكبرية، وبشكل خاص بكتاب الفتوحات المكية الذي ننعم اليوم بقراءته مصححا منقّحا بفضل جهود الأمير المادية والفكرية والمعنوية. وعليه يجدر بكل من يستفيد من كتاب الفتوحات المكية اليوم ألا يفوته الترحم والترضي عن الأمير عبد القادر الجزائري، لأنه هو صاحب الفضل في إخراج كتاب الفتوحات من رفوف المخطوطات المنسية إلى مجال التصحيح والتحقيق. الأمر الذي أشار إليه الدكتور عثمان يحي-رحمه الله- في تحقيقه للفتوحات المكية، حين افتتحه بإهداء تحقيقه إلى الأمير عبد القادر مؤكدا أن الأمير هو أول ناشر للفتوحات المكية. وهي نفس المعلومة التي أكدها آخر محقق للفتوحات في الوقت المعاصر: الدكتور عبد العزيز سلطان المنصوب، الذي اعتمد في تحقيقه أصح النسخ المخطوطة.[23]

صحيح أن أقدم نشر لكتاب الفتوحات يعود إلى سنة 1269هـ، والمتمثل في طبعة مصر المسماة بطبعة بولاق، إلا أنها كانت مشحونة  بالأخطاء والفراغات والدسائس، الأمر الذي دفع بالأمير فيما بعد إلى إعادة نشرها بعد تصحيحها، حيث أرسل سنة 1287هـ صديقيه الشيخين: محمد الطنطاوي ومحمد الطيب بن محمد المبارك المغربي إلى مدينة قونية بتركيا “لمقابلة نسخة الفتوحات المكية المطبوعة أول مرة بمصر على نسخة مؤلفها الشيخ محيي الدين بن العربي الموجودة بخطه في المدينة المذكورة، فقابل نسخته على نسخة مؤلفها مرتين في مقدار ثلاثة أشهر، وصححها وضبطها، ووجد في المطبوعة تحريف وتقديم ونقص من محالّ متعددة، خصوصا من كتاب الصلاة. ولما قدم دمشق صُححت على نسخته كثير من النسخ”[24]، ومن النسخ التي صححت عليها نسخة عبد المجيد بن محمد الخاني، والتي ذكر فيها بأنها مصححة على نسخة العلامة محمد أفندي طنطاوي زاده، وأرّخ عبد المجيد الخاني لنهاية هذا التصحيح بقوله:

تناهى بأقلام التحري فأرخوا * * * وقد صح أجزاء الفتوحات بالدقة

وهذا يعني بحساب الجُمّل: سنة 1229ه[25]، وهذه النسخة محفوظة في مكتبة للمطالعة بمدينة قونية اسمها: Hayra Hizmet Vaki، والمكتبة قائمة ليومنا هذا.

ومن هنا نفهم عمق العلاقة بين الأمير والشيخ الأكبر، وبين كتابي المواقف والفتوحات، تلك الفتوحات التي كانت في حد ذاتها فتحا مبينا للأمير ومحفّزا لإعادة اكتشاف روحانيته وعرفانتيه، حيث لا يمكننا الحديث عن كتاب المواقف بمعزل عن كتاب الفتوحات، “فكلاهما فصول وأبواب تبدو للوهلة الأولى بدون رابط منطقي داخلي يعلن عن وحدة الموضوع بشكل منهجي ومتدرج، وكلاهما كُتب على فترات متقطعة… إلا أن الموضوع الأساسي في الكتابين هو التعبير بالدرجة الأولى عن تجربة صوفية عميقة ومتميزة.”[26]

وقد كتب الأمير مواقفه على نهج الفتوحات، خاصة فيما يتعلق باعتماد النص القرآني عند كليهما، بحيث يبدو للوهلة الأولى وكأن الكتابين في التفسير الإشاري، حيث يستفتح الشيخ الأكبر الكثير من أبوب فتوحاته بنصوص قرآنية، كما يفعل الأمير كذلك في الكثير من مواقفه، فنجد من بين 372 موقفا (وهو عدد المواقف كلها) مائة وبضع وتسعون موقفا حول آيات قرآنية أغلبها يُصنَّف ضمن التفسير العرفاني الإشاري. فكلاهما يستمدّ القاعدة الأساسية لآرائه من النص المقدس قرآنا وسنة، ويذهب بهما البعد الصوفي الذي يشكل نسقية مذهبهما فكرا وممارسة.

الأمير لم يصرّح بسبب تأليفه لكتاب المواقف، لكن بعد دراسة للكتاب ولبُنيته وتاريخه وجدنا أن سبب تأليفه راجع إلى تلك التساؤلات والاستفسارات التي كان يتلقاها الأمير من بعض علماء دمشق حول ما استُشكل عليهم من مسائل الفتوحات المكية وفصوص الحكم، وهو ما صرّح به الشيخ محمد الخاني[27] ناسخ كتاب المواقف، حين قال: “وكنت أراجعه كثيرا في بعض المسائل، وأسأله حل بعض مشكلات الفتوحات والفصوص وغيرهما. فلكثرة حبه للخير وبذله مع كثرة أشغاله كان يقيد ما ظهر له بالكشف ويوضحه ويعطيني إياه. وكنت حريصاً عليه، فأقيده في المواقف بإذنه كما يشير إلى ذلك قوله في بعض المواقف: قد سألني بعض الإخوان. والتصريح باسمي في شرح فص شعيب وفص اسماعيل وفص آدم –عليهم السلام-.”[28]

كما ورد أيضا أن المناسبة التي دعت الأمير إلى تأليف كتاب المواقف، أنه بعد أن وصل إلى دمشق سنة 1273ه، وتوافد عليه الزائرون بعد أسبوعين من وصوله. وكان قد استطرد في حديثه عن “المعية الإلهية”، مما دعا ثلاثة من علماء دمشق الحاضرين، وهم الشيخ عبد الرزاق البيطار، والشيخ محمد الخاني، والشيخ محمد الطنطاوي، إلى الطلب من الأمير أن يقيّدوا ما يتكلم به في مجالسه، فكان ذلك النواة الأولى لكتاب المواقف[29].

وبالتالي ترجع فكرة تأليف كتاب المواقف إلى الشيخ محمد الخاني الصديق المقرّب من الأمير كما صرّح هو في النص السابق، ويذكر جواد المرابط أن الفكرة ترجع إلى الشيخ عبد الرزاق البيطار الذي اقترح على الأمير تدوين ما يذكره في مجالسه[30]. وعلى كلّ فإن الفكرة بدأت بحلقة ضيقة من علماء دمشق وانتهت بكتاب عرفاني ضخم، أساسه فضُّ الكثير من المغاليق أكبرية.

هذا وإن الأمير يؤكد بأنه الأحسن فهما لفصوص الحكم، بشهادة الشيخ الأكبر نفسه الذي أخبره بذلك بالإلقاء في الواقعة، فقال في الموقف 294 بعد شرحه لأبيات وردت في “فص لقمان”: “هذا الذي ذكرناه في حل هذه الأبيات هو من أنفاس سيدنا ـ رضي الله عنه ـ… وقد كنت رأيته في مبشرة من المبشرات، فذاكرته في مسائل من فصوص الحكم فقال لي: إنّ الشرّاح كلهم ما فهموا مراده، ولا ابن شاهنشاه. فجعلت أتفكر في نفسي، لِما قال لي “مراده” بضمير الغائب؟ ثم ظهر لي في الحال أنه يريد بذلك رسول الله ﷺ فإنه هو الذي جاءه بكتاب فصوص الحكم، وقال له: “اخرج به إلى الناس ينتفعون به”… وفي صبيحة تقييدي لهذا الموقف رأيت مبشرة عبرتها على أني قاربت المراد فيما كتبت.”

 ومع ذلك يعترف الأمير بأن مرمى الشيخ الأكبر جلّ أن يصل إليه رام، وأنّ كل ما يقدمه من شروحات هي “من وراء وراء مشرب سيدنا ـ رضي الله عنه ـ، فقد جلّ سيدنا أن يرمي رام مرماه، أو يحوم أحد حول حماه.”[31]

طبعا، لا يستع المقام لسرد شروحات الأمير للشيخ الأكبر، فجل صفحات كتاب المواقف بأجزائه الثلاثة عبارة عن شروح وتفصيلات لمشكلات أكبرية، ولكن لا بأس أن نستغل المقام لنحيل القارئ إلى أبرز المواضيع التي تبأور حولها كتاب المواقف تأسيسا على نصوص أكبرية، وهي كالآتي:

وحدة الوجود، الإنسان الكامل، مراتب الوجود، شمولية الرحمة، مدارج السلوك معارج المقامات والأحوال العرفانية، ضرورة الالتزام بالشريعة ظاهرا وباطنا، المعرفة الإلهية، الحقيقة المحمدية، علم التجليات والأسماء والصفات، التجلي الإلهي في المعتقدات والأديان.

وحتى لا نخرج عن مقصد الإيجاز، نقتصر في هذا المقام على طرح الأمير لأهم وأبرز قضية عرفانية اشتُهر بها الشيخ الأكبر وهي مسألة “وحدة الوجود”.

 تعدّ قضية وحدة الوجود أخطر وأصعب مسألة نظرية فلسفية كلامية على صعيد البحث الصوفي العرفاني، فهي قطب البناء الأنطولوجي والنظري للمنظومة الصوفية؛ إذ تعد جميع المسائل الأخرى تجليات ونتائج لها. والمشكل الأساسي في دراسة وحدة الوجود هو تحليلها تحليلا عقليا؛ إذ تعد منزلقا وعرا من الناحية العقدية والعقلية، ذلك أن وحدة الوجود لم تستقم مع الصراط العقلي. فموضوع الوحدة وانسجامها مع الكثرة ليس من الهيّن استيعابه؛ لأنَّ تصورَ الوجود المطلق والهوية السارية، وتصور كُنْه وحدة الوجود ولوازمه بنحو لا يتنافى مع العقل والشرع يبدو بعيدا. لذلك يتوجب على دارس هذه القضية ألا يُغفل دراسة مسألة الوجود بين الاشتراك اللفظي والاشتراك المعنوي باعتبارها ركيزة أساسية لفهم مسألة وحدة الوجود.

ومعلوم لدى المشتغلين بالعرفان الأكبري أن الشيخ الأكبر لم يوظّف مصطلح وحدة الوجود في فتوحاته صراحة، وإن تعدد وروده معنىً. لكن الأمير عبد القادر لم يتحرّج من ذكره، حيث ورد ذكره في كتاب المواقف عشر مرات تصريحا[32]، وأكثر من ذلك بكثير تلميحا.

تعريف الأمير لوحدة الوجود

يؤسس الأمير تعريفه لوحدة الوجود على تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ (الحديد:4)، هذه الآية وردت حوالي سبع مرات في مواقفه، مؤكدا من خلال تفسيره لها بأن معيته تعالى مع مخلوقاته ليست كمعية المخلوقات بعضها مع بعض التي تقتضي تعدد الأطراف وانفصالها عن بعض، وإنما هي معية وجوده الذي لا يتعدد ولا يتجزأ ولا يتبعض، ولا ينفصل ولا يتصل. فيقول: “المعية هنا معية وجود مع عدم، فالوجود ليس إلا له تعالى. أصدق كلمة قالها الشاعر: أَلَا كَلّ شَيء مَا خَلَا الله بَاطِلٌ… والباطل عدم. وإن كل ما سوى الحق يوصف بالوجود فهو مجاز، فإنه وجود خيالي… فلولا معية الحق تعالى بذاته، التي هي عين وجوده، ما صحّ نسبة مخلوق إلى الوجود، ولا وقع عليه إدراك حسي ولا خيالي ولا عقلي. فمعيته تعالى هي الحافظة على الموجودات نسبة الوجود، بل هي عين وجوداتها. وهذه المعية عامة لكل موجود… فهي القيّومية التي قام بها كل شيء، وهي محض الوجود الذي به كل شيء موجود.”[33]

ثم يعلق بعد هذا الشرح مشيرا إلى أن هذا هو المقصود بوحدة الوجود، فيقول: “ولما كانت معية الحق تعالى لنا، بالمعنى الذي ذكرناه، وهو معنى وحدة الوجود، وأنه لا وجود إلا وجوده تعالى، ولا صفات إلا صفاته تعالى كان الوجود المنسوب إلى المخلوق مجازا هو وجوده تعالى كما قال: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ (الأنفال:17)، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ (الفتح:10).

ويستشهد الأمير هنا بالخبر: «كَاَن اللهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ»[34]، على أن المقصود به أنه كانت صفات الألوهية التي بها سمي إلها ثابتة له أزلاً، حيث لا شيء معه من المخلوقين المألوهين موصوف بالوجود وإن كانوا موصوفين بالثبوت. ولما كانت هذه العبارة يوهم ظاهرها: أنه صار معه تعالى بعد إيجاد المخلوقات شيء أدرج الراوي: «وَهُوَ الآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَان» دفعا لهذا التوهم، بمعنى أن معيَّة شيء له تعالى منتفية أزلاً وأبداً، قبل نسبة الموجودية لشيء وبعدها. ويُرجع الأمير هذه الزيادة إلى فهم الرّاوي أن “كان” ناقصة، والأصوب عند الأمير أنها تامة وأنها للوجود، كما هي عند “سيبويه” بمعنى الله وجود ولا شيء معه له وجود غير وجوده تعالى أزلاً وأبداً.[35]

ويقدّم الأمير تفسيرا جديدا للمعية الإلهية، فيرى أن “مسمى الخلق ما لهم مع الحق رتبة المعية، وإنما لهم التبعيّة، فمسمى الخلق عند من يثبته كالظل بالنسبة إلى ذي الظل، هو الشاخص، ولا يقال في مسمى الظل: إنه مع الشاخص، وإنما يقال: الظل تابع للشاخص، إذ المعيّة لا تقال إلا على شيئين مستقلين بالموجودية. والمسمى خلقاً وعالماً لا وجود له استقلالاً، وإنما له التبعية. كالصوت والصّدى، فهُما شيئان في الحسّ، وشيء واحد في نفس الأمر.”[36]

وعليه يعتقد الأمير أن منتهى تنزيه الله تعالى وتقديسه، أساسه الاعتقاد بوحدة الوجود، فالحق تعالى واحد أحد بذاته، وما الكثرات التي نشاهدها إلا تجليات لأسمائه، لأن “لفظ الأحد ينفي أن يكون هناك اعتبارُ غيْرٍ وسوى”[37]. ويختصر الأمير رأيه في صلة الوحدة بالكثرة بقوله: “الوجود الحق تعالى من حيث هو غنيّ عن العالمين، فهو ظاهر بذاته الأحدية لذاته، ووحدته تطلب عدم الكثرة لأن مقتضى الأحدية إعدام الكثرة، وأسماؤه تعالى تطلب ظهورها بظهور آثارها، وهو مقتضى الكثرة.”[38]

كل ما ذكره الأمير حول وحدة الوجود، هو في الحقيقة محاولة منه لتبسيط وتوضيح رؤية شيخه الأكبر، غير أنه لم يستطع التخلص من هيمنة اللغة الصوفية الرمزية، فحتى وهو يشرح مراد ابن العربي من المسألة، نجده يتناول ذلك بمصطلحات صوفية عميقة ودقيقة وغامضة على غير أهلها، هذا الغموض هو الذي جعلها حبيسة أفق تداولي ضيق لا يفهمها إلا المتخصصون، ويستهجنها غيرهم.

 

خاتمة

تعتبر مرآة الأمير أصقل مرآة تتجلى فيها صورة الشيخ الأكبر، نظرا لصدق الأمير مع شيخه، وتميزه بالفهم الجديد لنصوصه، واجتهاده الكبير لأجل تقديم تأويلات للعديد من الإشكالات الأكبرية المتراكمة التي كثيرا ما شوّهت صورة الشيخ محيي الدين بن العربي خاصة من قِبل أهل الظاهر.

ورغم أن الأمير لم يتمكن من التخلص من اللغة العرفانية الفنية والمتخصصة، غير أن شروحاته وتأويلاته للمشكلات الأكبري قد أسهمت بشكل فعّال في تقريب الكثير من المعاني الأكبرية، التي لم تكن مُتاحة لكل قارئ. فهو شارح متميّز لابن العربي، ومدافع قوي عن مذهبه، وحامي جادّ لمتونه.

ويستشفّ المتتبع لمسيرتي الأمير والشيخ الأكبر أن الرجلين تربطهما علاقة برزخية متميزة، وتجمعهما عدة نقاط؛ أهمها: أن كلاهما من أجل الجذبة الرحمانية (الموقف 18). وأن كلاما يكتبان في العلوم الذوقي واللدنية، كما أن الإلهام الإلهي والإلقاء الرباني هو المنهج المتيبع في نصوصهما.

 

 

 

الهوامش

[1] كما ورد في أبيات “عبد المجيد الخاني” التي نُقشت على مدخل قبري الأمير وشيخه ابن العربي

لله أفق صار مشرق دارتي  *  *  *  قمرين هلّا من ديار المغرب

الشيخ محيي الدين ختم الأوليا  *  *  *  قمر الفتوحات الفريد المشرب

والفرد عبد القادر الحسني الأمير  *  *  *  قمر المواقف ذا الولي ابن النبي

من نال مع أعلى رفيق أرخوا  *  *  *  أذكى مقامات الشهود الأقرب

[2] التقى الشيخ أبو مدين بالشيخ عبد القادر الجيلاني أثناء رحلته للمشرق قاصدا الحج. يُنظر: المواد الغيثية الناشئة من الحكم الغوثية، أحمد بن مصطفى العلاوي ط2، المطبعة العلاوية، الجزائر، 1989م، (1/16).

[3] المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف، الأمير عبد القادر الجزائري، تح وتق: عبد الباقي مفتاح، ط1، دار الهدى، الجزائر، 2005م، (1/12).

[4] L’Emir Abdelkader Apôtre de la fraternité, Mustapha Cherif, Casbah Edition, Alger, 2017, p84.

[5]  تحفة الزائر في مآثر الأمير عبد القادر وأخبار الجزائر، محمد باشا، اعتنى به: داود بخاري ورابح قادري، ط2، دار الوعي، الجزائر، 2015م، (2/  484).

[6] المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف، الأمير عبد القادر الجزائري، تحقيق وتقديم: بكري علاء الدين، ط1، دمشق: دار نينوى، 2014م، (3/68).

[7] المصدر السابق، (2/340).

[8] المصدر السابق، (2/376).

[9] المصدر السابق، (1/57، 144).

[10] المصدر السابق، (3/104).

[11] المصدر السابق، (3/102).

[12] المصدر السابق، (2/237).

[13] المصدر السابق، (1/353).

[14] المصدر السابق، (1/284).

[15] المصدر السابق، (1/386).

[16] المصدر السابق، (2/212).

[17] المصدر السابق، (2/218).

[18] المصدر السابق، (2/317).

[19] المصدر السابق، (1/ 12 من مقدمة التحقيق)

[20] المصدر السابق، (2/92)

[21] المصدر السابق، (2/95).

[22] المصدر السابق، (2/98).

[23] يُنظر مقدمة الفتوحات المكية، محيي الدين بن العربي، تح: عبد العزيز سلطان المنصوب، ط1، وزارة الثقافة، اليمن، 2010م.

[24] طبقات مشاهير الدمشقيين، محمد جمال الدين القاسمي، تح: محمود الأرناؤوط، د.ط، دمشق، 2006م، ص19.

[25] المواقف، الأمير، تح: بكري علاء الدين، (1/10 من مقدمة التحقيق).

[26] المصدر السابق، (1/6).

[27] محمد بن محمد بن عبد الله الخاني الشافعي النقشبندي، ولد سنة 1247هـ بدمشق، أجازه عبد الرحمان الكزبري في شتى العلوم، تعلم عن أكابر علماء عصره، أخذ الطريقة النقشبندية على والده سنة 1254ه، له الإجازة العامة من الشيخ إسماعيل البرزخي خليفة الشيخ خالد النقشبندي. يُنظر: حلية البشر، البيطار، (3/ 1215 وما يليها).

[28] المواقف، الأمير، تح: بكري علاء الدين، (3/ 228، 229).

[29] التصوف والأمير عبد القادر، جواد المرابط، ص23.

[30] المرجع السابق، ص89.

[31] المواقف، الأمير، تح: بكري علاء الدين، (2/315).

[32] المصدر السابق، (1/ 39، 270، 361)، (2/ 79، 173، 184، 191)، (3/ 246، 275).

[33] المصدر السابق، (1/ 259).

[34] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب: ما جاء في قول الله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾، (رقم: 3191)، (2/ 107).

[35] المواقف، الأمير، تح: بكري علاء الدين، (1/ 270، 271).

[36] المصدر السابق، (1/ 140).

[37] المصدر السابق، (1/ 151).

[38] المصدر السابق، (1/ 115).

مقالات ذات صله

1 تعليقات

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!