البحث الدلالي في دراسات إيزوتسو القرآنية والصوفية

البحث الدلالي في دراسات إيزوتسو القرآنية والصوفية

 

منهج البحث الدلالي في دراسات إيزوتسو القرآنية والصوفية
بقلم: محمد بن نصر *
مقدّمة
ما يثير الانتباه والإعجاب في فكر المفكر الياباني توشيهيكو إيزوتسو ليس كونه مجيدًا للغة العربية في مجالاتها الدلالية المختلفة، الجاهلية والقرآنية والعرفانية، كثير هم الذين ممن لم تكن اللغة العربية لغتهم الأم استطاعوا أن يمتلكوا ناصيتها ويتعمّقوا في أغوارها وإن كان أوزيتسو يعتبر من اليابانيين الأوائل الذين برعوا في هذا المجال ولكن ما يثير الإعجاب حقا هو استيعابه العميق للمنطق الداخلي للمنهج القرآني حتى يخيل للقارئ أن الرجل ينطلق من خلفية عقائدية إسلامية.2
دأب أوزيتسو على اتّباع مسلك البحث عن الكلمات المفاتيح المعبّرة عن النسق الفكري للدّين أو للمذهب. فهي عنده ليست مجرّد كلمات ذات معان محدّدة ووظائف تعبيرية جزئية، وإنما هي مكتنزة بالمعاني اللغوية والفكرية والثقافية، حاملة لتاريخ تراكمي تختلط فيه مفاهيم النشأة وتحولات النمو ومقامات النضج. ولذلك يرى إيزوتسو ضرورة تفكيك هذه الدلالات أو الطبقات الثقافية كما عبّر عنها عالم الاجتماع الفرنسي جورج بالندييه في مجال الانتربولجيا الثقافية، والبحث عن المعاني الأصلية التي تشكل البنى الأساسية للنسق الفكري.
فالتحليل الدلالي عند إيزوتسو لا يمكن أن يختزل في نوع من التسلية أو الدراما الفلسفية التي لا غاية لها أو غايتها اللاّغاية أصلا. ولعل هذا المنحى البنائي في التحليل الدلالي عند إيزوتسو هو الذي استفزّ الفيلسوف الفرنسي الجزائري الأصل جاك دريدا فقام بتحرير رسالة بعث بها إليه ينفي فيها عن التفكيك بعده البنائي أو التركيبي. ذلك على الأقل ما يمكن أن نفهمه من أعماله التي تمكنّا من الإطلاع عليها.
ولكن الإشكال الذي أثار انتباهنا -وهو ما سنحاول أن نعالجه في هذا البحث- هو أن هذا المنهج الذي استخدمه إيزوتسو في فهم القرآن وتأكيده المستمر لضرورة تحديد الكلمات المفاتيح المعبرة عن الرؤية القرآنية للوجود والإنسان والحياة التي تؤلف بمجموع دلالاتها الجزئية حقلاً دلاليًّا متميزًا هو نفس المنهج الذي استخدمه في الكشف عن الدلالات المتقاربة للكلمات المفاتيح في التصوف الإسلامي وتعاليم لاوتسو الصيني أو ما يعرف بالطاوية وتعاليم الفدنتا وتعاليم الزان، وهي تعود -حتى مع شىء من التعسّف المفضي إلى “ما وراء الفلسفة”- إلى حقول دلالية مختلفة تستند في عمقها الفلسفي إلى رؤى متباينة للعالم.
لاشك أن إيزوتسو كان شديد الحرص على الحوار بين الحضارات وكان يرى أن مثل هذا الحوار لا يكون ممكنا إلا إذا استطاعت الإنسانية أن تكتشف البنية المشتركة بين مكوّناتها الثقافية وخاصة تلك المكوّنات ذات الطابع التأملي الوجداني. ولكن ألا يصبح بعد ذلك الحديث عن الرؤية القرآنية للعالم والكلمات المفاتيح ذات الدلالات المتميّزة والمعبّرة عن هذه الرؤية فاقدًا للمعنى حيث إن هذه النظرة الكلية ستتسع وتزداد اتساعًا إلى أن تنفتح حدودها على نوع آخر من التوظيف الإيديولوجي؟
لعل هذا التناقض الظاهري أو الحقيقي-لا نستطيع في هذا المستوى أن نرجح أحد الاحتمالين- هو الذي جعل الكثير من المستشرقين لا يهتمون بأبحاث إيزوتسو القرآنية ويحرصون على إبراز أبحاثه العرفانية دون غيرها.
1 / أهمية علم الدلالة عند أوزيتسو
أصبحت اللسانيات نقطة التقاطع لكلّ فروع العلوم الإنسانية بحكم اهتمامها بالخطاب في كل وجوهه والفرع الأساسي الذي لعب الدور الأهم في الحضور العلمي لعلم اللسانيات كان بالدرجة الأولى علم الدلالة فقد عرفت الألسنية على أنّها “دراسة اللغة بحد ذاتها دراسة علمية، وتحليل خصائصها النوعية، بغية الوصول إلى نواميس عملها”. وأن “اللغة تنظيم، وهذا التنظيم وظيفي، يتوسله الإنسان للتعبير عن أغراضه ولعملية التواصل” فلم تعد الألسنية تهتم بشكل الكلمات فحسب، بل أعطت لجوهر هذه الكلمات أهمية كبيرة، وذلك بعد ما تأكد لدى علماء الألسنية، أن البحث الألسني يبقى ناقصاً ما لم يهتم بجوانب اللغة جميعها، ويظل حكمه على الظواهر اللغوية يفتقد إلى طابع المعيارية التي تسم ديناميكية اللغة وفعاليتها بسمة التقعيد. ولم يحصل هذا الوعي اللغوي في البحث الألسني إلا مع العلماء اللغويين المتأخرين كالعالم الأمريكي “بلومفيلد” الذي كان يرى أن الدراسة الألسنية، لا تنحصر بدراسة الأصوات والدلالات اللغوية بذاتها، بل تشمل دراسة الارتباط القائم بين أصوات معينة ودلالات معينة، وجدير بالذكر أن مفهوم ارتباط الصوت اللغوي بالدلالة، قد تبنته الألسنية بصورة عامة. لم يكن علم الدلالة في منتصف القرن الماضي بالأهمية الني أصبح عليها اليوم ولطالما اعتبر الفرع الهزيل من النظريات الألسنية ومع ذلك رأى فيه المفكر الياباني أهمية بالغة لفهم الخطاب القرآني من حيث إنه يهدف القيام بـ “دراسة تحليلية للمصطلحات المفتاحية الخاصة بلغة ما، تتطلع للوصول في النهاية إلى إدراك مفهومين لـ “الرؤية للعالم” الخاصة بالناس الذين يستخدمون تلك اللغة كأداة لمفهمة العالم الذي يحيط بهم وتفسيره.
إن علم الدلالة بهذا الفهم نوع من “عام الرؤية للعالم، weltanschauungslehre أو دراسة لطبيعة رؤية العالم وبنيتها لأمة ما، في هذه المرحلة المهمة أو تلك من تاريخها. وهذه الدراسة تستهدي بوسائل التحليل المنهجي للمفاهيم الثقافية التي أنتجتها الأمة لنفسها وتبلورت في المفاهيم المفتاحية للغتها.3
وتبرز أهمية التحليل الدلالي في أنّه لا يتوقف عند البحث في دلالة المفردة القرآنية من الناحية اللغوية ولا حتى عند البحث على معناها في السياق القرآني ولكنّه يتجاوز ذلك إلى البحث عن معانيها المستمدة من نظام العلاقات الذي يحكمها، نظام في غاية الدقة وفي غاية التعقيد، لأنّ الكلمات التي تشترك مع غيرها في حقل دلالي واحد تُنتج مفاهيما متنوعة ولكنّها مترابطة فيما بينها في المجموعة الواحدة ومترابطة مع غيرها من المجموعات ذات الدلالات المتنوعة ولهذا فإن الأهمية لا تكمن في معرفة معنى الكلمات وهي منعزلة ولكن في معرفة في إطار نظامها المفهومي الذي يشكل بنيتها العامة أو ما يمكن أن نطلق عليه الكل الموحّد المعبر عنه بالجشتلت gestalt في اللغة الألمانية.
لاشك أن الإشكال الذي أثاره الدكتور فضل الرحمن أو ما عبّر عنه بالمعضلة الأساسية في منهج إزيتسو يظل قائما، لأن القول بأن المصطلحات المفتاحية هي التي تحدد النظام يقتضي معرفة النظام نفسه حتى نعرف إذا كان هناك ما يبرر اعتبار كلمة ما كلمة مفتاحية أم لا وحتى تكون هذه الكلمة مفهومة في إطار هذا الكل الموحّد. ومع ذلك فإنّنا نزعم أن معرفة النظام في تفصيلاته ليس شرطا لمعرفة المعنى التي تحمله ما افترضناه من كلمات مفتاحية ولكن افتراض النظام في ذاته أمر لا يمكن الاستغناء عنه. لنضرب على ذلك مثلا لو افترضنا أن الطبيعة تسير وفق نظام محكم وأردنا أن نبحث عن القوانين التي تحكمه فإنّنا سنصل إلى اكتشاف هذه القوانين ونكتشف العلاقات التي تربط بينها وبالتالي نصل إلى الكشف عن النظام الذي افترضنا وجوده مسبقا، ولكن لو قلنا إن الطبيعة تحكمها الصدفة والاعتباطية فإننا حتى ولو تمكنا من معرفة بعضا من القوانين الطبيعية لن نصل إلى الكشف عن النظام الذي يشكل كلا موحّدا. لعلنا بذلك نخرج من الحلقة المفرغة التي خشيها فضل الرحمن عند تقديمه لكتاب أوزيتسو المشار إليه آنفا.
2 / نماذج من تطبيق المنهج الدلالي على النص القرآني
لن نتعرض في هذه الفقرة إلى كل المصطلحات المفتاحية التي تناولها أوزيتسو في كتاباته ولكن سنتوقف عند أهمّها لنتبين صلاحية المنهج الدلالي الذي اعتمده. سنتوقف عند مصطلح الله والوحي والإسلام.
يفرّق اوزيتسو بين مستويين من معاني المفردة القرآنية، المعنى الأساسي Basic meaning والمعنى العلاقي relational meaning، فالأول مصاحب للكلمة في كل معانيها لأنه الأساس المشترك أمّا المعنى العلاقي فهو المعنى الذي تتمّ إضافته ولكنّه يتخذ موقعه الدائم في حقل دلالي جديد. المعجم اللغوي ليس مجرد عدد من الكلمات التي انتظمت اتفاقا في مجموعات وإنما وفق نظام معقد يتقاطع فيه المعنيان الأساسي والإضافي ومنه تتكون الحقول الدلالية4 وبالتالي فليس من السهل تحديد المعنى الأساسي لأنّه في الغالب الأعم لم يعد المعنى الأكثر تداولا ولذلك يميل أوزيتسو إلى اعتباره مفهوم منهجي حيث يقول “هذا المعنى الأساسي هو في الواقع، مفهوم منهجي فحسب، أي أنّه مبدأ نظري جوهري يُثبت فائدته أنّى أردنا تحليل كلمة ما تحليلا علميا.
إنّنا على أية حال لا نجد المعنى الأساسي بهذا الشكل المجرد في عالم الواقع. فقد سلمنا بوجود شيء كهذا فقط كفرضية للعمل في تحليلنا الدلالي للكلمات، ذلك أن الفرضية تيسّر إجراءنا التحليلي في أغلب الحالات، وتجعل فهمنا معاني الكلمات نظاميا أكثر، ودقيقا من الناحية العلمية.5
كلمة الله من المعنى الأساسي إلى المعنى العلاقي
تحتل كلمة الله موقع المركز في النظام الدلالي القرآني وبالرغم من أن الكلمة في حد ذاتها لم تكن مجهولة عند عرب ما قبل الإسلام بل كانت مألوفة ولكنّها كانت متماهية مع غيرها من الكلمات التي تنتمي إلى نفس المجال الدلالي فكيف إذا اكتسبت هذه الأهمية القصوى في الخطاب القرآني. هل تأسس المفهوم الجديد على القديم أم بالعكس من ذلك تأسس على القطيعة معه، هل كان هناك نوع من الرابطة الجوهرية التي تجمع بين المفهومين أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرّد توافق في المبنى اللغوي ولا علاقة بين مفهوم الكلمتين؟
ينطلق أوزيتسو من تثبيت ملاحظة أولية مفادها أن الجدل الذي دار بين المؤمنين الأوائل وبين مشركي قريش حول الخالق وطبيعته وعلاقته بمخلوقاته يعكس نوعا من المعرفة المشتركة بموضوع الحوار، يقول أوزيتسو “إن حقيقة أن اسم ‘الله‘ كان معروفا لدى كل من العرب الوثنيين والمسلمين، بالذات، وخاصة حقيقة أنّه أثار الكثير من المناقشات الساخنة حول مفهوم ‘الإله‘، توحي على نحو حاسم بأن هناك أرضية فهم مشتركة بين الطرفين، وإلا ما كان يمكن أن يحدث جدال ونقاش مطلقا. وعندما خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم مناوئيه باسم ‘الله‘ فإنه فعل ذلك بشكل مباشر وبسيط لأنّه كان يعلم أن هذا الاسم يعني شيئا -وشيئا مهمّا- بالنسبة إلى أذهانهم أيضا. ولولم يكن الأمر كذلك، لما كانت فاعليته ذات معنى بهذا الشأن.6 وكما أنّه في كل خطاب كلمات مفتاحية فإن الكلمة المفتاحية في نص أوزيتسو الذي استشهدنا به للتو هي “أرضية فهم مشتركة بين الطرفين”، إذا كان الفهم المشترك الذي يعنيه أوزيتسو يتعلق بالفهم المعجمي للكلمة فإن ذلك لا يوحي بوجود أرضية مشتركة في المفهوم ولذلك كثيرا ما استعمل القرآن الكريم كلمة الجدال لوصف الحوار ذو المنطلقات المتباينة وإذا كان يقصد بالفهم المشترك التوافق على الحد الأدنى أو الاختلاف على الحد الأقصى فإن الأمر يحتاج إلى شيء من التأمل لأنّ ما دار من جدال بين المؤمنين والمشركين من العرب بشأن الله سبحانه وتعالى لا يعكس بعضا من التوافق في المفهوم بقدر ما يعكس قدرا كبيرا من الاختلاف الجذري فيه.
ولكن دعنا أولا نرى كيف فهم أوزيتسو المعنى الأساسي لكلمة “الله”؟ يرى أوزيتسو مُثَمِّنًا بذلك المقارنة الشكلية التي قام الكثير من الباحثين الغربيين بين كلمة “الله” عند عرب الجزيرة والكلمة الإغريقية ho-theos التي تعني ببساطة “ال-إله” في مفهومه المجرد ولكن العرب لم يستوعبوا في البداية هذا التجريد لأسباب سنتعرض لها لاحقا فجعلوه مجسّدا في عدد من الآلهة المحلية ثم عادت فتطورت عندهم فكرة الإله المجرد، يقول أوزيتسو “وأيا ما كان عليه هذا (الأمر)، فإنّ المؤكد من القرآن وحده أنّه في الوقت الذي بدأ فيه محمد صلى الله عليه وسلم يبشر بالإسلام، كان العرب الوثنيون يقتربون من تكوين فكرة غامضة على الأقل، وربما إيمان غامض أيضا، بالله بوصفه الإله الأسمى المتعالي فوق مستوى المعبودات المحلية.”7
أظن أن هذا التصور مخالف لمضمون القرآن الذي يشير صراحة إلى أن تجسيد فكرة الإله تحريفا للمفهوم التوحيدي المجرد وليس العكس.8 وقد استمر الإيمان بها عند العرب من أهل الكتاب ومن كانوا منهم من الأحناف. ولكن المؤكد أن القرآن انطلق مما تبقّى من مفهوم التوحيد الخالص الذي وسّعه على المستويين الأفقي والعمودي ليضفي عليه المعنى العلاقي الذي أشار إليه أزويتسو ولذلك فإن القول بأن الإسلام والجاهلية مفهومان متقابلان حدّيا قول يفتقر إلى الدقة، لاشك أن مفهوم التوحيد يتعارض مع مفهوم الشرك من حيث كونه تصور عام للوجود ولكنه شرك يتضمن فكرة الإله الواحد حتى وإن جعلوا له شركاء ولذلك كانت المنزلة الأكثر سوءا منزلة الشرك التي لا يطمع صاحبها معها في مغفرة من الله بينما يقبل أن يغفر ما دونها. يحدد أوزيتسو لكلمة الله مفاهيم ثلاثة: مفهوم وثني وهو ما كان شائعا بين عرب الجاهلية، مفهوم كتابي وهو المفهوم المتداول عند اليهود والنصارى ويعني إله الكتاب المقدس ويعتبر شعر العربي المسيحي عدي بن زيد الأكثر تعبيرا عن هذا الاتجاه ولكن يمكن أيضا أن نعثر على مثل هذا المعنى عند شعراء عرب وثنيين بمناسبة مدحهم لمن كفلهم أو رعاهم من ملوك وأمراء مسيحيين بغض النظر عن مدى إيمانهم أو وعيهم الشخصي، مفهوم حنيفي عبّر عنه بوضوح تام شاعر قبيلة ثقيف أمّية بن أبي الصلت لعلّه الأقرب في صياغته من المفهوم التوحيدي القرآني ومع ذلك رفض ابن أبي الصلت نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم بشدّه لأنّه كان يعتبر نفسه الأكثر استعداد لتلقي النداء المقدس.
يتـأمل أوزيتسو في المفهوم الوثني لكلمة الله ويستنتج منها العناصر الآتية: الله هو الخالق للعالم، الواهب للحياة، الأحق بالتقديس، والمتصف بالوحدانية ورب الكعبة، تشكل هذه العناصر في مجملها حقلا دلاليا يشترك فيه المفهوم الوثني والمفهوم التوحيدي ووجد في الآيات الآتية ما يدعم ما ذهب إليه: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ الله فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾العنكبوت:61 و ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الْحَمْدُ لِلّٰهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾العنكبوت:63 و ﴿وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُور﴾.لقمان:31
يقول أوزيتسو معلقا على صفة مخلصين “والأكيد أن هذا التعبير كما هو واضح يتضمن أن العرب الوثنيين اعتادوا -في حالة الطوارئ، إذ يشعرون جديا بأن حياتهم في خطر مميت- على الرجوع عفويا إلى “توحيد مؤقت”، ومن دون أي تفكير بالمضامين العميقة لفعل كهذا. من هنا تعني عبارة “يجعلون دينهم خالصا للّٰه” في سياق هذا النوع، ما يمكننا تسميته بـ “التوحيد المؤقت أو السريع الزوال” وليس الإخلاص أو الجدية في دعاء المرء”.9 ولكن صفة الإخلاص التي وردت في الآية لا تفيد إخلاص الإيمان حتى وإن كان مؤقتا ولكنها تعكس حالة الخوف من الهلاك في الدنيا ولذلك عقب الله فقال: ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾.لقمان:32
ويمكن أن نقول نفس الشيء عن مضامين بقية النقاط، هناك لاشك تشابه في الألفاظ ولكن هناك اختلاف نسبي إذا لم نقل كلّيا في مدلولاتها، فهل يصح بعد ذلك الحديث عن حقل دلالي مشترك بين التصور القرآني والتصور الوثني؟
في الحقيقة لم تنحصر مهمة القرآن في جعل هذه العناصر التي افترض وجودها أوزيتسو أكثر وضوحا وتأثيرا بقوة المنطق وإنّما في تقديم رؤية كونية أصبحت العلاقة بين الله وبين الإنسان والوجود علاقة تفاعلية في عمقها توحيدية في أثرها لننظر الآن في مفهوم الوحي وكيف فرّق أوزيتسو بين معناه الأساسي ومعناه العلاقي وبين معانيه في التصور الوثني ومعانيه في التصور التوحيدي وما خصائص الوحي المحمدي؟
كلمة الوحي من المعنى الأساسي إلى المعنى العلاقي يعتبر الوحي
من مظاهر تجلّي الله سبحانه وتعالى من خلال اللغة وتحديدا من خلال الكلام ولا يتم ذلك بلغة إنسانية غامضة وإنما بلغة إنسانية تحمل قابلية الفهم المتجدد. والفهم يقتضي الحد الأدنى من الإشراك الدلالي بين الوحي في مفهومه السائد عند عرب ما قبل الإسلام والوحي في مفهومه القرآني. كلمة الوحي واحدة من الكلمات الأكثر تداولا في الشعر الجاهلي، يرى أوزيتسو أن الوحي يتضمن أولا معنى التواصل بين شخصين ولكنّه تواصل أحادي الجانب لأن هذه العلاقة حالما تترسخ لا يمكن أن تُعكس على الإطلاق. ويتضمن ثانيا فكرة أن العلامات التي تستعمل لغرض التواصل ليس من الضروري أن تكون لفظية. ويتضمن ثالثا فكرة مصاحبة الغموض والسرية لأن ما ينقله (أ) إلى (ب) يكون تام الوضوح لـ (ب) ولكنه لن يكون واضحا للآخرين على الأقل بالدرجة نفسها التي كان واضحا بها عند (ب).
يتوقف أوزيتسو عند بيت شعر من القصائد المشهورة لعلقمة بن فحل:
يوحي إليها بإنقاض ونقنقة كما تراطنُ في أفدانها الروم.
والمعنى أن ذكر النعامة يتكلم إلى صاحبته “يوحي” وهي الصيغة الفعلية لكلمة الوحي، “الوحي بالأنقاض” وهو لغة النعام و “النقنقة” كلمة محاكية لصوت النعام تماما مثل الشخص الذي يستمع إلى حديث يدور بين شخصين لا يفقه لغتهما ومن هنا يتأتى الغموض. يعطي المعجم العربي عادة معنيين مختلفين لكلمة الوحي، معنى الإلهام ومعنى الحروف، قد يبدو الأمر مفارقا باعتبار أن مضمون الإلهام وإن كان واضحا للمتلقي، غامضا وبدرجات مختلفة للآخرين أما الخطاب المكتوب فالأصل أن يكون قابلا للفهم وتلك هي مهمة الحرف، توفير قابلية الفهم فكيف إذا يقع الجمع بين الإلهام والحروف؟
يقول أوزيتسو متحدثا عن الذين يصرّون على التفريق بين هذين المستويين “إنّ هذه النظرة تغفل حقيقة ذات أهمية كبيرة، وهي أن الحروف كانت شيئا غامضا جدّا بالنسبة إلى العرب “الجاهليين” الذين كانوا أمّيين بشكل كامل تقريبا. ونحن نعرف كيف أنّهم كانوا مفتونين إلى حد الدهشة بغرابة الحروف العربية الجنوبية المحفورة على الحجارة. لقد كان عصرا مازالت كلمة “قلم” فيه محمّلة بما هو معتاد من المضامين العميقة.”10 ولكن إذا افترضنا أن العرب لا يحسنون فك شفرة الحروف فلماذا أقسم الله بالقلم وجعل الكتابة به أساس كل علم؟ ألا يدل ذلك على أهمية القلم عندهم على الأقل من الناحية النظرية. هذا القسم الإلهي يعكس مدى أهمية الحروف في الحقل الدلالي الجاهلي وإلا لن يكون لهذا القسم أثر في دفع عرب الجاهلية إلى التفكير في القضايا التي أثارها الإسلام. وهذا يعني أنّ العرب كانوا على وعي تام بأهمية الحروف ووظيفتها في توصيل المعاني ومن المحتمل جدا أنّهم يجهلون كيفية استخراج المعاني منها وعلى فرض صدقية هذا الاحتمال فإن هذه المنزلة للحروف لم تكن أمرا ذا أهمية بالغة.11
يحدد أوزيتسو الوحي في أنواع ثلاثة، الأول حالة من التواصل المباشر التي خصّ الله به موسى عليه السلام، الحالة الثانية هي التواصل اللفظي وهو ما يعبر عنه بالتواصل من وراء حجاب وهو غير الإلهام وفي هذه الحالة لا يرى المتكلم نفسه وعدم الرؤية المجرّدة لا تعني عدم تصور الكائن الوسيط وهذه الحالة تنطبق على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الحالة الثالثة، التواصل اللفظي من خلال رسول خاص وهذه أيضا من الحالات التي تنطبق على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك لم يكن رسولا من النوع السمعي فقط بل أيضا من النوع البصري وأطلق القرآن على هذا الكائن الملائكي الذي كان ينزل بالقرآن على محمد بالروح القدس وبالروح الأمين، ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾،النحل:102 وإنّه لتنزيل رب العالمين، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾الشعراء:195-195 وأصبح في المدينة يدعى جبريل ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّٰهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾البقرة:97
وبذلك يكون الوحي قد مرّ بثلاث محطات رئيسية،
الأولى تتمثل في مصدره
والثانية في الكائن الملائكي الوسيط
والثالثة في النبي المتلقي
ولكن أوزيتسو يشير إلى نقطة في غاية الأهمية وهي أن الاكتفاء بهذه المراحل الثلاث لا تكفي لاستيعاب عملية الوحي لأن الوحي في المفهوم القرآني لا يهدف إلى الخلاص الشخصي للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وإنما لإنقاذ البشرية في دوائر متسعة تدريجيا لتشمل الناس كافة، دوائر تبدأ بأهل مكة ثم تمتد لتشمل كل العرب ثم تتسع لتسع الناس أجمعين،
يقول أوزيتسو “إن هدف الوحي الإلهي الدقيق هو القضية الأساسية في المرحلة الرابعة، إنّ الله، كما رأينا للتوّ، يكشف عن إرادته لمحمد صلى الله عليه وسلم بواسطة رسول سماوي، لكن محمّدا صلى الله عليه وسلم نفسه ليس الهدف النهائي، فالوحي لا يهدف إلى الخلاص الشخصي لمحمّد صلى الله عليه وسلم. وإنّ الله لا يتكلم إلى محمّد صلى الله عليه وسلم من أجل الكلام إليه ببساطة. إنّ الكلمات الإلهية يجب أن تتجاوز محمّدا صلى الله عليه وسلم: أن تُبلّغ الآخرين في الحالات الاعتيادية للفعل الكلامي (أ ب) يتكلّم (أ) مع (ب) ويتوقف الكلام عندما يصل إلى (ب). وإذا كان لابد من استمرار الكلام حوارا، فإنّ العملية نفسها ستبقى كما هي ببساطة، إذ يصبح المستمع الأصلي (ب) متكلّما ويقول شيئا ما لـ (أ) المتكلم الأصلي (ب أ)، هذه بنية الكلام المعتاد، بينما في حالتنا الخاصة، لابد لـ (ب) أن يصبح متكلما بدوره، لا بالاتجاه المعاكس، بل بالاتجاه نفسه أو على الأصح، كمبلّغ لما قاله (أ). هنا تظهر مسألة “التبليغ” أو “البلاغ”، فيسمّى (ب) رسولا بوظيفته كمبلّغ للكلمات الإلهية تحديدا.
وفي ضوء هذا، فإنّ مفهوم الوحي في الإسلام ليس “علاقة-ثلاثة أشخاص”.12 فالعلاقة قي تصور أوزيتسو رباعية ولكنّها رباعية ممتدة في اتجاه واحد. وتصبح الوظيفة الأساسية للنبي هي أن يحفظ النص الموحى إليه في ذاكرته حفظا تاما، يمتنع فيه الخطأ والنسيان، لأنّ المبلّغ في هذه الحالة يجب أن ينقل بأمانة كاملة كلام الله الموحي، لأنّ العبرة ليس في ظاهرة الوحي وكيفيته ولكن في مضمونه القولي، على سبيل المثال لا يهمّ النبي موسى كيف أُلهم وما العبارات التي تلقّاها لكي ينفّذ الأمر بإلقاء العصا ولكن الذي يهمّه فهم الأمر والتصرّف وفق ما يقتضيه معنى وليس لفظا ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾.الأعراف:117 الكلمات لا تهم كثيرا ولكن المهم ما نتج عنها وعندما يتحقق الغرض منها لم يعد ضروريا أن تبقى على نحو دائم، بينما في حالة الوحي القرآني فإن كل كلمة وكل عبارة لابد أن تبقى دائما على الشكل الذي تنزلت به ولهذا السبب كان النبي محمد حريصا كل الحرص على عدم التفريط في كلمة واحدة مما كان يتنزّل عليه من الوحي بل أجهد نفسه في ذلك حتى قال له الله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾.القيامة:16-18 سواء كان الوحي قولا أو إشارة فهو تواصل لفظي أو غير لفظي بين الله والإنسان، تواصل تمتنع عنه صفة الحوارية أو التعليمية بحكم استحالة تحقق نوع من المساواة بين الجانبين القائل والسامع أو المرسل والمتلقي.
كلمة الإسلام بين المفهوم الأساسي والمفهوم العلاقي
لنتوقف الآن عند كلمة إسلام أو فعل أسلم كما وردت في جملة ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّٰهِ﴾البقرة:112 التي تعني في الأصل استسلام النفس استسلاما غير مشروط للّٰه ولكن الاستسلام لا يؤدي إلى نقلة نوعية في حياة الفرد إلا إذا كان صاحبه واعيا بأن ما يتضمّنه هذا الاستسلام من معاني الخضوع والطاعة هو جوهر روح التحرر التي تشكل العمود الفقري في البنية النفسية لعرب الجاهلية. ولذلك تبرز عندهم صفات معيّنة مثل الاعتداد بالقوة الإنسانية والثقة اللاّمحدودة بالنفس التي يعتبرونها من المثال الأعلى للفضائل الإنسانية. ولكن القرآن اعتبر أن قيم التحرر هذه المزعومة تتحول في الإطار غير التوحيدي إلى نوع من “الأنفة” و “الإباء” و “الحمّية”. حماية العرض التي تعتبر نقطة الارتكاز في حياة عرب الجاهلية بل المبدأ الأعلى الضابط لسلوكهم لا يمكن في نظر الإسلام أن تتحقق بالفعل إلا في إطار النظام الأخلاقي الذي جاء للتبشير به.
ما يهمّ أوزيتسو في هذا التحليل هو هذه النقلة الدلالية التي أحدثها الإسلام في معنى الاستسلام حيث انطلق من قيم العرب التي تقوم عمليا على الأنفة والإباء والحمّية ليضفي عليها معنى التحرر الحقيقي وبذلك أعطى للمعنى الأساسي لفعل أسلم معنى علاقيا. يقول أوزيتسو “إنّ روح المقاومة المتّقدة هذه التي تجعل الرجل يرفض بكل تصميم الخضوع والاستسلام لإرادة رجل آخر، ملطّخا شرفه بذلك”، كانت في الواقع المنبع الحقيقي لكل القيم الإنسانية “الجاهلية” تقريبا. وقد وجدت هذه الروح تعبيرها في أشكال متنوعة في الشعر “الجاهلي” كله. وهذا مثال يعبّر عنها بأبسط الطرق وأكثرها صراحة [البيت لأبي زياد عبيد بن الأبرص]
نأبى على النّاس المقادة كلّهم حتّى نقودهم بغير زمام.
جعل القرآن هذا الاستعلاء المبالغ فيه سببا للطغيان ولذلك طالب بالاستسلام كلّية للّٰه حتى يستطيع الإنسان أن يحقق ذاته ويضمن حريته بشكل متوازن. لا شك أن هذا الطلب لم يكن بالشيء السهل قبوله ولكن العربي الذي يرفض الانصياع لكل قوة مثيلة له من حيث الطبيعة كانت له قابلية الانصياع لقوة مفارقة وتخضع لها جمع المخلوقات. ولذلك وصف القرآن الذين لم يقبلوا هذه الدعوة بـ “الجاهليين” لأن الوجه الأبرز في مفهوم الجهل الجهل هو السلوك النموذجي للرجل المتهور الذي لا يستطيع السيطرة على نفسه لأدنى إثارة تستفزه فيردّ الفعل دون أن يفكّر مطلقا بالعاقبة الكارثية التي يمكن أن تنتج عنها وجعل نقيض ذلك الحلم لأنه يساعد الإنسان على كبح مشاعره والتغلب على انفعالاته ولذلك فهو تعبير عن القدرة وليس تعبيرا عن العجز ولذلك تمّ الربط بينه وبين الوقار الذي يعكس نوعا خاصا من الهدوء والتوازن الداخليين. عليهم وقار الحلم حتّى كأنّما وليدهم من أجل هيبته كهلُ هكذا قال الشاعر الأموي الذي كان يعرف بالأقطع. إذا كان الإسلام قد رفض كل هذه المعاني المتعلقة بالجهل مثل الحكم الانفعالي والحكم السطحي والحكم الذي يتأسس على الجهل بالنفس فإنّه جعل الحلم صفة من صفات الله بل أصبحت السمت البارز للخطاب القرآني كما كان الجهل هو السمت البارز لقيم الجاهلية.
فهذه المكانة المهمّة التي أصبحت للحلم في شبكة المفاهيم الإسلامية جعلت الاستسلام للّٰه أمرا منطقيا لأن امتلاك القدرة على التحكم في النوازع الذاتية يؤدّي إلى الخضوع المطلق لقيمة الحلم ولكنّه بوصول “الحلم” إلى هذه الدرجة من الاكتمال يتحول إلى “إسلام” من ذلك يتبين لنا أهمّية المعاني الإضافية التي أعطاها الإسلام لمفهوم الحلم.
3 / نماذج من التطبيق الدلالي على المستوى الصوفي
في الفقرة السابقة توقفنا عند نماذج من المصطلحات التي اشتغل عليها أوزيتسو ورأينا أهمية التحليل الدلالي في فهم العلاقة بين المصطلح وبين الشبكة الدلالية التي يوضع فيها وكيف استطاع الإسلام أن ينطلق من المصطلحات الأساسية في شبكة المفاهيم “الجاهلية” ثم يعيد بناءها ضمن الرؤية الإسلامية العامة فيعطيها معان إضافية تغير من طبيعتها الدلالية ووظيفتها التعبيرية ولكنها تظل تتحرك في فضاء اللغة العربية المعبّرة في ذات الوقت عن منظومة المفاهيم “الجاهلية” ومنظومة المفاهيم القرآنية.
استطاع أوزيتسو أن يقدّم لنا عملا في غاية الطرافة والأصالة في ذات الوقت وذلك بغض النظر عن بعض التعميمات غير الموفّقة والناتجة أساسا عن إصراره في بعض الحالات على القول ضمنا بأن أهمية الإسلام لا تكمن في المصطلحات التي أنتجها ولكن في قدرته على إتقان استراتيجية الانزلاق بالمعاني من حقل دلالي معيّن إلى حقل دلالي آخر. ولكن إذا كان من الممكن الكشف عن البنية التحتية للخطاب “الجاهلي” والخطاب القرآني وبيان قدرة الإسلام على القيام بتحويل ناجح لمدلولات المصطلحات “الجاهلية” وتسليحها بمعان إضافية جديدة جسّدت بالفعل قدرة الإسلام على الهضم والاستيعاب ضمن معادلة الاحتفاظ والتجاوز فإلى أي حد يمكن تطبيق المنهج نفسه على مصطلحات نشأت في نظم لغوية وبيئات ثقافية وفضاءات حضارية مختلفة؟ هل من الممكن تطبيق هذا المنهج الدلالي على المصطلحات العرفانية في المجال التداولي والمجال التداولي البوذي؟ سنتوقف عند مصطلحي وحدة الوجود والخلق المتجدد اللذين تعرًض لهما أوزيتسو في معظم كتاباته وخاصة في كتابه “وحدة الوجود والخلق المتجدد في التصوف الإسلامي“.
البنية الأساسية للفلسفات الشرقية من خلال مفهوم وحدة الوجود
كتب أوزيتسو متحدثا عن الدواعي التي جعلته يهتم بالبحث في “وحدة الوجود” لم أختر البحث في مصطلح وحدة الوجود بسبب قناعتي الفلسفية الشخصية ولكن أولا وقبل كل شيء بسبب قناعتي بأنه بتطوير مفهوم وحدة الوجود يمكن أن نكّون إطارا نظريا يوضح بجلاء واحدا من طرق التفكير المميّزة للفلسفة الشرقية بشكل عام التي لا تنحصر في الفلسفة الإسلامية وإنما تمتد إلى معظم الأشكال التاريخية الرئيسة للفكر الشرقي. وهكذا ومن وجهة نظر الفلسفات الشرقية نستطيع أن نسهم في تطوير فلسفة عالمية جديدة -لطالما تمنّاها الجميع- مؤسسة على الإرث الفكري والروحي للغرب والشرق.13
فكرة إيجاد فلسفة عالمية واحدة مستلهمة من التراث الفكري الغربي والشرقي للتقريب بين هذين القطبين، الشرق والغرب، فكرة قد سبق أن كانت محل اهتمام مباشر في مجال الفلسفة المقارنة ولكن أوزيتسو يرى أن هذه المحاولة لم تثمر شيئا ذا قيمة وظلت مهمّشة وأرجع ذلك لغموض المصطلحات المستخدمة وعدم دقتها وإلى افتقار هذه المحاولة إلى منهج سليم ومناسب للقضايا التي عالجتها. من هنا كان الجانب المنهجي محور اهتمامات أوزيتسو من أجل الوصول إلى يناء هذه الفلسفة العالمية الموحدة.
يقترح أوزيتسو من أجل ترسيخ تفاهم فلسفي حقيقي وعميق بين الشرق والغرب إلى العمل على تطوير منهجي لما أطلق عليه “ما وراء فلسفة” الفلسفات وهي عبارة عن تصميم بنيوي عام تتفرع عنه تقسيمات جزئية، كل قسم منها يحتوي على عدد من المفاهيم المختارة بطريقة تحليلية أو مركّبة انطلاقا من المفاهيم الأساسية لأهم الأنساق الفلسفية الغربية منها والشرقية. من أين نبدأ لرسم هذا التصميم البنيوي العام وتفريعاته المرتبة على أسس منهجية معينة؟ برى أوزيتسو “أن الخطوة الأولى التي يجب القيام بها حتى نصل إلى بناء ما وراء الفلسفة -على الأقل فيما يعنيني- تحليلي دلالي عميق لبنية المفاهيم المفتاحية لكل نسق فلسفي، ينتج عنه -وهذا ما أتمنّاه- نظام مفاهيمي واسع، في غاية التعقيد ولكنّه جد منظم ومرن. في هذا النظام المفاهيمي،كل نسق فلسفي معين سيحتل مكانه وستكون مفرداته المعبّرة عن الاختلاف مع الأنساق الأخرى أو عن المعبّرة عن التوافق معها واضحة بشكل منهجي”.14
تلك هي المهمّة التي أخذها أوزيتسو على عاتقه فبدأ بتحليل مفهوم وحدة الوجود الذي يحتل مساحة جد محدودة في النظام المفاهيمي الشامل ولكن أوزيتسو يرى فيه بشرط التوفق إلى معرفة بنيته الأساسية أنموذجا مفاهيميا أساسيا يمكّن فلسفات الشرق من الوصول إلى أرضية بنيوية موحدة على الأقل فيما يتعلق بجوانبها الجوهرية. معرفة البنية الأساسية لمفهوم وحدة الوجود يقتضي بالضرورة عدم اعتباره مفهوما إسلاميا أو إسلاميا إيرانيا تحديدا والبحث عن معناه الأساسي المشترك بين كتب الفيدا الهندوسية والبوذية والطاوية نسبة إلى لاوتسي الصيني والكونفشيوسية، بلغة أخرى يقع التركيز في البحث عن جوهره وأن تترك جانبا صور تعيّناته المختلفة. البنية في تصور أوزيتسو لبست مجرد قالب صوري وإنّما هو نسق مفاهيمي أو لغوي يتكون من مفاهيم فلسفية مفتاحية جد منظّمة الهدف منها إدراك الرؤية المحورية للنسق في مجمله وإدراك الروح التي تسري فيه من الداخل لتعطيه شكله الخارجي.
في عمقه مفهوم وحدة الوجود لا يعني أكثر من إعادة بناء نظرية أو عقلية لرؤية ميتافيزيقية طريفة تكونت بوصفها حدس لحقيقة الوجود، ليس الوجود كما يبدو لكل واحد منّا ولكن الوجود في حقيقته المطلقة. ولقد كان موضوع الوجود من القضايا التي شغلت فلاسفة الإسلام ولكنّهم لفترة طويلة ظلّوا ينظرون إليه بوصفه جزءا من الوجود. ولم تعرف الفلسفة الإسلامية التفريق بين الوجود والموجود إلا مع تجربة ابن عربي وإن كان ابن سينا قد سبقه عندما اعتبر الوجود حادثا أو صفة للماهية. وهكذا تكون الأشياء مجرّد تعيّن محدود في طبيعته ومحدد في زمنه للوجود الحقيقي. هذا التفريق بين الأشياء الموجودة وبين الوجود في ذاته، نجده أيضا النصوص المعتمدة في الطاوية والبوذية حيث مثلا يقول كاتب “تا تشنق تشي شين لون” أو ما يمكن ترجمته بـ “إحياء العقيدة في المهانيا” “الناس الذين لم يبلغوا بعد درجة الإشراق يقومون اعتمادا على عقولهم القاصرة بالتمييز بين الموجودات”15
بمعنى أنهم يلجأون إلى التفريق بين وحدة الحقيقة المطلقة والأصلية والموجودات في تعيّناتها المفردة وبذلك يمتنع عليهم إدراك الحقيقة المطلقة التي تتجاوز التعينات الظاهرتية وبالتالي فالموجودات الحسية في حقيقتها ظواهر وهمية.
من المفيد الإشارة إلى أن كلمة المطلق المأخوذ من السنسكريتية tathâtâ تعني حرفيا “الوجود كما تعيّن” وقد ترجمت الكلمة إلى الصينية chên ju وإلى اليابانية shin-nyo وكلها تعني الشيء كما هو في الواقع تمييزا عن الشيء كما هو في طبيعته أو الشيء قبل أن تنال منه تعريفات العقول القاصرة.
وأقرب الكلمات المعبّرة عن مستويات الحقيقة في المجال التداولي الإسلامي هي كلمة “الكشف” والتفريق المعروف بين الوجود الاعتباري والوجود المجازي.
مفهوم الخلق المتجدد في التصوف الإسلامي وفي بوذية زان
إنطلق أوزيتسو من الآية القرآنية الكريمة “أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ” التي في ظاهرها كما يقول إثبات لمن يشك في البعث بأن من كان قادرا على الخلق الأول يقدر عن الخلق الجديد والمتجدد ولكنها في باطنها كما يذهب إلى ذلك أهل العرفان حين فهموا الخلق الجديد بالخلق المتجدد بشكل دائم ويلتقي هذا المفهوم للخلق المتجدد مع أحد ألمع حكماء بوذية زان في اليونان والحكيم دوقان (1200-1253) وخاصة إنطلاقا من كتابه الذي يحمل العنوان الآتي: shôbô Genzô الذي يمكن ترجمته كالآتي “لبّ التصور الكامل للحقيقة”. وهو ما جعل أوزيتسو يقول بعالمية مفهوم الخلق المتجدد.
يقول دوقان “يتحول الخشب الوقود إلى رماد، الرماد لا يعود أبدا إلى حالته الأولى، خشب للوقود ومع ذلك يجب إلا نتسرّع ونستنتج انطلاقا من هذه الملاحظة أن الخشب ما قبل وأن الرماد ما بعد”. صحيح أن المشاهد العادي سيفهم أن ما كان في حالته الأولى خشبا صار رمادا بفعل الاحتراق، بمعنى أن هناك جوهر من نوع ما استمر في الوجود تنازليا خلال عملية الاحتراق حتى عندما احترق بشكل كامل تغير تعيّنه المادّي ليصير شيئا آخر مختلفا نوعيا عمّا كان عليه. يقول دوقان، أخطأ من اعتقد ذلك لأن طبيعة الخشب ظلت واحدة، كان خشبا قابلا للاحتراق فأصبح خشبا محترقا بالفعل، إذا فصفته الأنطلوجية لم تتغير.
وعليه ليس هناك وجود بعدي ووجود قبلي. ويذهب هاكون يوزوتاني، من حكماء الزان المعاصرين إلى أبعد من ذلك فيقول أن “الحطبة ليست حطبة ولم يحصل أن كانت في زمن ما على طبيعتها الأنطولوجية بوصفها حطبة، فليس لها ماقبل ولا مابعد، فهي مقطوعة عمّا قبلها وعمّا بعدها”16 فالحطبة في ذاتها تكاد لا توجد باعتبار أن ليس لها ماهية أو طبيعة خاصة بها فليس لها إلا حقيقة مؤقتة. وقد أثر عن الحكيم kai 1042-1117)) قوله المشهور “الجبل الأخضر في حركة دائمة” فبالرغم من أنّه يبدو أنه ساكن فهو في حركة مستمرة ويذكرنا ذلك بقوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ الله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾”النمل:88 فليس هناك فرق بين القول بأن الماء يجري أو القول بأن الجبل يتحرك لأن حقيقتهما واحدة، كلاهما في حركة مستمرة ولكن إدراك الحقيقتين لا يتم بنفس الطريقة.
يمكن أن نخلص إلى القول بأن في تصور دوقان، الأشياء تتجدد في كل لحظة زمنية، وفي كل لحظة من الزمن تكون مقطوعة عمّا قبلها وعمّا بعدها. بعد أن يستعرض أوزيتسو فكرة الخلق المتجدد عند حكماء بوذية زان يقارن بفكرة الخلق المتجدد عند محمد الإيجي الذي قال بأن كل شيء في العالم أنطلوجيا ممكن ولكنه يحمل في ذاته إمكان هلاكه لو ترك لحاله. بهذه الطريقة كل شيء له وجود مؤقت لأنفي اللحظة التي أصبح موجودا فإن طبيعته تدفعه بالضرورة إلى اللاّوجود. ولكن العناية الإلهية هي التي تعطيها إمكانية التجدد ومن هنا تأتي أهمية المصطلح الصوفي المعروف بـ “التقلب” وهو التحول والتغير الدائم.
لا يسمح المجال هنا للتوسع أكثر في المسألة المتعلقة بمستويات إدراك الوجود في الفلسفة الإسلامية والفلسفات الشرقية ولو توقفنا عند هذا المستوى لقلنا أن أوزيتسو قد استطاع أن يكشف عن نوع من الوحدة البنيوية بين الفلسفات الشرقية بمختلف منطلقاتها النظرية وتعدد رؤاها للعالم ولعل الإشكال الذي لم يرفعه أوزيتسو هو طبيعة الحياة الإنسانية نفسها فهي وإن كانت محكومة في منتهاها بحقيقة الوجود المطلق فإنّها في حركتها نحو تجددها محكومة بالوجود الواقعي وسواء فسرنا الحديث الوارد في صحيح البخاري “كان الله ولم يكن شيء غيره”17 على أساس أنّها حالة دائمة أو حالة مؤقتة، لا نستطيع أن ننفي وجود الشيء وإن كان وجودا وهميا. وفي كل الأحوال فإن فهم كل مستويات الإدراك ضروري لترسيخ التقارب ولعلّه أكثر فعالية من البحث عن حقيقة مطلقة جامعة.
* * *
الهوامش:
* أستاذ بالمعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية بباريس (Iesh de paris – france).  
2 بل إنّ كثيرا من الكتاب المسلمين لا يملكون هذا الفهم العميق والشامل للتصور الإسلامي. يقول الدكتور هلال محمد الجهاد مترجم كتاب، “الله والإنسان في القرآن” إنّ ميزة هذه الدراسة –على الرغم مما قد نأخذه عليها- أنّها تجعلنا نكتشف القرآن، وكأنّنا نراه للمرّة الأولى، وتعلّمنا قراء ومسلمين أن ننفصل قليلا عنه لنراه ونعرفه من جديد معرفة علمية بالمعنى الدقيق لهذا الوصف. وهذا ممكن دائما، ما عوّدنا أنفسنا على تغيير زوايا نظرنا إلى القرآن، وتنويعها واعتماد مناهج علمية متنوعة، والقرآن نفسه يتيح لنا ذلك، من حيث إنّه نص لا يمكن استنفاد ماهيته، نص يمتاز بتعدد مستويات المعنى وتشابك علاقاته، ولا يكف عن التدلال مطلقا لأن قراءتنا له لا تتوقف. توشيهيكو إيزوتسو، الله والإنسان في القرآن، بيروت، المنظمة العربية، 2007، ص12.
3 المرجع نفسه، ص32.
4 الحقل الدلالي مجموعة من المفاهيم والمصطلحات الأساسية المترابطة بينيا والمؤدية لوظيفتها الدلالية بشكل مستقل في إطار النظام المفهومي الشامل الذي يتكون بدوره من عدد من الحقول الدلالية المتقاطعة.
5 المرجع نفسه، ص50.
6 مرجع سابق ص 159.
7 المرجع نفسه ص 160.
8 الغريب أن أوزيتسو نفسه عندما يتحدث عن كيفية تناول القرآن لمسألة الشرك، يقول “ولكن القرآن، بغض النظر عن هذا المكوّن الإشراكي وغيره من المسائل الأقل أهمّية، يعترف بأن مفهوم “الله” العام الذي يضمره معاصروه من العرب كان قريبا من المفهوم الإسلامي على نحو يثير الدهشة، حتى إن القرآن يتساءل في عدد من الآيات المهمة: لماذا كان هؤلاء الناس الذين لديهم فهم صحيح كهذا للّٰه عنيدين إلى هذا الحد في رفضهم التسليم بصدق التعاليم الجديدة. ص162.
9 المصدر نفسه،ص 168.
10 المرجع نفسه، 252.
11 انتقد الفيلسوف اليوناني أفلاطون الكتابة بشدة في محاورة “فايدروس” ويمكن تلخيص نقده في النقاط الآتية: تؤدّي الكتابة أولا لمن يمارسها إلى إضعاف الذاكرة وذلك بسبب تراكم الانطباعات المتأتية من خارج النفس وليس من بواطنها، ثانيا لا تساعد الكتابة على امتلاك الحقيقة بل على وهم امتلاكه لمظاهرها، ثالثا تفرض على المتعامل معها الصمت، مثل الصورة، لأن النص المكتوب لا يستطيع أن يدافع على نفسه ويعرض نفسه بالطريقة نفسها لجميع الناس على اختلاف مداركهم العقلية فالكتابة في النهاية ليست إلا تقليدا مشوشا للكلام المنطوق.
12المرجع نفسه، ص 281.
13 Thoshihiko Izutsu, unicité de l’existence et création perpétuelle en mystique musulmane (Paris: les deux océans, 1980) p.49-50 14
idem p.50-51 15 idem P.87 16 Hakuun Yasutani (1885-), shôbô Genzo Sankyû, Genjô koan (Tokyo1967) p.74 17 كتاب بدء الخلق، جزء من الحديث رقم 3191.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!