شمس تبريزي جوهرةُ كهفِ القلبِ

شمس تبريزي جوهرةُ كهفِ القلبِ

شمس تبريزي جوهرةُ كهفِ القلبِ

لِماذا يُتحدَّثُ عن العارفِينَ الإلهيّينَ؟

 

– كلماتٌ خَجِلةٌ وَجِلةٌ –

أ.د. عيسى علي العاكوب

عُضْوُ مَجْمَعِ اللّغةِ العربيّةِ في دمشق

أستاذُ البلاغةِ والنّقدِ في جامعةِ حَلَب

 

عَنَّ لي وأنا أشرَعُ في كِتابةِ هذه الكلماتِ بين يَدَي هذا الكتاب أن أسألَ هذا السّؤال:

لِماذا يكتُبُ الأستاذُ خالد مُحمَّد عبده مِثْلَ هذا الكتاب، ولِماذا يُعنِّي نفسَه بِالتّفتيش عن معارفَ ومعلوماتٍ تتّصِلُ بأناسٍ جاؤوا إلى عالَمِ الوجودِ منذ زَمَنٍ بعيد؟.

والذي يبدو لي في إجابةِ السّؤالِ الذي عرضتُه أنّ مِثْلَ هذا الصَّنيعِ يَدخُل مِن البابِ العريض فيما يُسمَّى «التّذكيرَ». وقد أُمِرَ الأنبياءُ بِ‍ «التّذكير»، وبَيّنَ الذِّكْرُ الحكيمُ أنْ ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذّاريات: 55]. والتّأليفُ في إحياءِ ذِكْرى الصِّدّيقينَ والصّالحينَ يُعيدُ إلى الأذهانِ سِيَرَ أُناسٍ كانوا لِلّه وهم في هذه الدّنيا. والبَشَريّةُ التّائهةُ في الأعصُرِ الأخيرةِ مُحتاجةٌ إلى أن تقرأَ سِيَرَ العارفينَ الإلهيِّين وأقوالَهم، وتفهمَ أسرارَ سُلوكِهم ورُموزَ كلامهم.

ولافِتٌ لِلانتباهِ في العقودِ الأخيرةِ خاصّةً اهتمامُ كثيرينَ بِسِيَرِ العارفينَ الإلهيّينَ مِن مِثْلِ شَمْسِ تَبريزَ وجَلالِ الدّين الرّوميّ ومُحيي الدّين بن عربيّ وكثيرينَ آخَرينَ مِن أشياخِ التّصوّف. وكانتِ الكُتبُ الخاصّةُ بِجلالِ الدّين الرّوميّ، خاصّةً، مِن صِنْفِ الكتاب ال‍ best seller، أي الأكثرِ بَيْعًا في الولاياتِ المتّحدة لِسَنوات كثيرة.

وفي مُتناوَلي أن أصِفَ الأرواحَ المتعلِّقةَ بِهؤلاءِ في الشّرقِ والغرب بِ‍ «الأرواح المتعلِّقة بِالحقّ». والمُلاحَظُ أنّ المُحبّينَ لِقِراءةِ سِيَرِ العارفينَ وآثارِهم ليسوا مِن دِينٍ واحِدٍ، وليسوا مِن ثقافةٍ واحدة. وقد تأمَّلْتُ في الأَمْرِ فتَبيّنتُ ما يُشبِهُ أن يكونَ حقيقةً في شأنِ الجامِعِ بينَ هؤلاءِ جميعًا: هم أُناسٌ في أغوارِ أرواحِهم محبّةٌ لِلّه سُبْحانَه مِن نوعٍ ما ودرجةٍ ما. وحِينَ يحدُثُ أن يطّلعَ أحَدُهم عَلَى شَيْءٍ مِن سِيرةِ أحَدِ العارفينَ الأئمّةِ أو أقوالِه يَجِدُ نفسَه مُنْشَدًّا إليها كأنّها تُذهِبُ مِن فَضاءِ قلبِهِ ظَمَأً قديمًا لم يَجِدْ ما يَشفيهِ قبْلَ هذا الاطّلاع. وأخالُ أنّ الحقَّ سُبْحانَه هو الذي وَضَعَ هذا الظّمأَ في أفئدةِ هؤلاء.

وأحسَبُ أنّ أشياخَ التّصوّفِ الكِبارَ كانوا يُريدونَ اللهَ وَحْدَه، وكانوا يَرَوْنَ أنّ الطُّرقَ التي تؤدّي إلى الله كثيرةٌ ومختلفةٌ، لكنّ النّهايةَ واحِدةٌ، هي الوصولُ إلى الغايةِ المنشودةِ، الحَقِّ تعالى.

وقد لَفَتَ انتباهي في سِيرةِ سَيِّدَيَّ شَمْسِ تبريزَ وجَلالِ الدّين أنّهما يختلفانِ في أشياءَ كثيرةٍ، ويجتمعانِ عَلَى أمرٍ جامعٍ واحِدٍ، هو محبّةُ الحقِّ إلى دَرَجة الفَناء:

كان شمسُ تبريزَ شافعيَّ المذهَب، وكان جلالُ الدّين فَقيهًا حَنَفيًّا كبيرًا، ولم يُنكِرْ أحَدُهما عَلَى الآخَرِ مذهبَه.

لكنّ شَمْسًا أنكرَ عَلَى جلالِ الدّين الوَلَعَ بِشِعْرِ المتنبّي، وأرادَ له أن يسمعَ كلامَه هو، وهو المتشبِّعُ بِرُوحِ رُوحِ القرآن، وكانتِ النّتيجةُ أنْ كان مثنويُّ مولانا: رُوحَ رُوحِ رُوحِ القرآن، كما يَصِفه هو في مطلعِ المثنويّ.

وكثيرًا ما يُقارِنُ شَمْسُ تَبريزَ بينَه وبينَ جلال الدّين. يقولُ في مقالاتِه مثَلًا:

لِمَولانا [جلالِ الدّين] جَمالٌ فائقٌ، وَلِي أنا جَمالٌ وقُبْحٌ. وكان مولانا قد رأى جَمالي، ولم يَرَ قُبْحي. وذلك الذي وَجَدَ سبيلًا إلى صُحْبتي، علامَتُه أن تغدُوَ صُحْبةُ الآخَرينَ باردةً عندَه ومُرّةً. لا أن تغدُوَ صُحْبتُهم باردةً عندَه ومعَ ذلك يظلُّ يَصحَبُهم، بل تغدُو صُحْبتُهم باردةً لديه إلى حَدِّ أنّه لا يستطيعُ صحْبتَهم.

ههنا، إذن، جمهورٌ خاصٌّ يتلقَّى بمحبّةٍ ما يكتبُه خالد مُحمّد عبدُه ونُظَراؤه. وعَلامةُ هذا الجُمهور، كما يقولُ شَمْسٌ، أنّه إذا ما تعرّفَ شَمْسًا وأشباهَه غدَتْ صُحْبةُ الآخَرينَ عندَه غَثّةً باردةً مُرّة. وكان العلّامةُ مُحمّد إقبال (ت‍ 1938م) مُدْرِكًا جيّدًا ضَرورةَ تَحْديثِ النّاسِ عن عالَمِهِم الرّوحيّ الذي كانوا فيه قبلَ أن يأتُوا إلى هذه الدّنيا. ومِن أَجْلِ ذلك يقول:

حَدِّثَنْ كالنّايِ عن غابٍ نَأَى

حَدِّثَنْ قَيْسًا عن الحيِّ انتَأَى

وقد كانَتِ الحقيقةُ حاديَ الباحِثِ الجادّ خالد مُحمّد عبدُه إلى لَمِّ شتاتِ كثيرٍ مِن الرّواياتِ والأقوالِ المتّصِلةِ بِشَمْسِ تَبريزَ في هذا الكتاب. وتجاوزتْ مُهمّتُه الجَمْعَ والتّصنيفَ إلى التّحقيقِ والتّمحيصِ والتّرجيحِ ابتغاءَ أن يُقدِّمَ صورةً أدنى إلى الحقيقةِ في شأنِ مولانا شَمْسِ الدّين التَّبريزيّ. وكان التّوفيقُ حليفَه، والحمدُ لِلّه. وقد اجتمعَ في هذا الكتابِ أَمْرانِ مُهمّانِ: حَرارةُ المحبّةِ التي يُبديها الباحثُ في خِدْمةِ العارفينَ الإلهيّينَ، والرّغبةُ الجادّةُ في تحقيقِ المعارفِ والمعلوماتِ التي يُضمِّنُها كتابَه.

وقد سعدتُّ كثيرًا بِسُؤالِ أخي خالد أن أكتبَ بعضَ الكلماتِ بينَ يَدَي كتابِه، الذي كتبَه بِمِدادِ رُوحِه. وقد سعدتُّ أكثرَ حِين اطّلَعْتُ على مادّةِ الكتاب، فوجدتُ الباحِثَ الكريمَ يَستفيدُ مِن مُترجَماتي ويُشيرُ بِعِلْميّةٍ إلى مصادرِه مِنها. أقولُ سعدتُّ أكثَرَ لِأنّني شاهدتُ عِيانًا آثارَ ما كان أملًا لَدَيَّ يَحدُوني إلى أن أسْهَرَ وأكُدَّ مُنتظِرًا وَقتًا تشهدُ فيه باصِرتايَ ثَمَراتِ ما كنتُ أغرِسُهُ منذُ أكثرَ مِن عَقْدَيْنِ. وسعدتُّ أكثرَ وأكثرَ حِينَ رأيتُ آثارَ تعاونه معَ الباحثةِ الرّائعةِ عائشة مُوماد. فهَنيئًا لِخالِدٍ ولِعائشةَ هذا العشقُ الذي يُحوِّلُ المعادِنَ الخَسِيسةَ إلى ذَهَب!

بَقيَ أن أذكُرَ مُلاحظةً أَجِدُ إثباتَها ضَروريًّا. وهي أنّ ظهورَ كتابِ (مقالات شمس تبريزى – شمس الدّين مُحمَّد التّبريزيّ) وصُدورَه بتحقيقِ الدّكتور مُحمّد علي مُوحِّد عامَ 1990م، أنهى كثيرًا مِن التّخميناتِ والظّنونِ في شأنِ شخصيّةِ شَمْسِ تَبْريزَ ومَعارفِه وفِكَرِه العرفانيّةِ العميقةِ المستمَدّةِ مِن فَهْمٍ خاصٍّ لِكتابِ الله سُبْحانَه وأحاديثِ نبيِّه، مُحمّدٍ عليه الصّلاةُ والسّلامُ، وآثارِ العارفينَ الكِبار.

وأذكرُ، في هذه المناسبة، أنّ ثمّةَ ما يُشبِهُ الإجماعَ بينَ الباحثينَ الإيرانيّينَ وغيرِهم على أنّ مولانا شَمْسَ الدِّينِ التّبريزيّ مولودٌ في مدينةِ خُوَيّ – أو خُوْي، كما يُسمِّيها الإيرانيّون. وهي مدينةٌ جميلةٌ جدًّا في إقليمِ أَذْرَبيجانَ في الشّمالِ الغربيّ مِن إيران، الذي عاصمتُه مدينةُ تَبْريزَ. وقد هَيّأ المولَى سُبْحانَه أن يُشاركَ الفقيرُ كاتبُ السّطور في أعمالِ (المؤتمر الدّوليّ الرّابعِ لِشَمْسٍ ومولانا) في هذه المدينة، في نهايةِ شهر آب – أغسطس، عامَ 2018م، وأن يُلقيَ مُحاضَرةً بعنوان:

مَرايا الحِكاية: صُورةُ شَمْسٍ ومولانا في حِكايةِ (رُقْعةِ الكنزِ)
في المقالات والمثنويّ.

وأقتبسُ لِلقارئ الكريم السَّطرَيْنِ اللّذَيْنِ افتُتِحتْ بهما شَهادةُ المشاركةِ في المؤتمر، التي قُدِّمَتْ للمشاركين، وهما مِن كلامِ مولانا شَمْس، ويتقدّمانِ هكذا:

إنّ اتّحادَ الحَبيبِ بِالأحبّة رائعٌ.

إنّكَ تكتُبُ الكلماتِ المنظومةَ إحْداها إلى جانبِ الأُخرى، فيأتي مِن ذلك جَمالٌ أخّاذٌ؛ لكي تعلمَ مِن ذلك أنّ الجَمالَ الحَقَّ في اجتماعِ الأحبّة: يجلسُ أحَدُهم إلى جانبِ الآخَرِ بِدَلالٍ، فيُظهرونَ بِذلك آياتِ الجَمال.

أمّا بعدُ،

فإنّ الكتابةَ عن العاشقينَ الإلهيّينَ لا يُجيدُها إلّا عاشقونَ إلهيّونَ مِثْلُهم، وكان نيكلسون وآربري وأنّيماري شيمل وإيفا ميروفتش، وكثيرونَ مِمّن نَبَتُوا في ديار الغرب، مِن هذا الصِّنْفِ مِن العاشقينَ. ولن يُضيفَ كلامي شيئًا إذا قُلْتُ إنّ خالد مُحمّد عبده وعائشة موماد مِن صِنْفِ هؤلاءِ المحترِقينَ في أَتُّونِ العِشْقِ الإلهيّ.

هنيئًا مَرّةً أُخرى لِمَن عَرَفَ فلَزِمَ. وأَسْمَحُ لِنفسي بِأنْ أقتبسَ مِن (مَقالاتِ شَمْسٍ) هذا الذي يأتيكَ:

خَيالُكَ في الكَرَى يومًا أَتانَا

ومِن سَلْسَالِ وَصْلِكَ قد سَقانا

وباتَ مُعانِقِي لَيْلًا طويلًا

فلَمّا بانَ وَجْهُ الصُّبْحِ بانا

ومِن (ديوان شَمْسِ تَبْريزَ) لمولانا:

شمسِ حق اى مَفْخرِ تبريزيانْ عيبَمْ مَكُنْ

زانكه در جان ودِلِ مَن شعله هاى آذريستْ

يا شَمْسَ الحقِّ، يا مفخرَ أَهْلِ تَبْريز، لا تَعِبْني

لِأنّ في رُوحي وقَلْبي شُعَلَ نار

والحمدُ لِلّه الأوّلِ والآخِر، الواقِي مُحبّيهِ شُعَلَ النّار

حلب الصّابرة، يوم الأحد، السّادس والعشرون مِن شوّال، 1440هـ.

                          الثّلاثون مِن حَزيران – يونيو، 2019م.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!