وما جعلنا عدّتهم إلا فتنة – جلال الدين الرومي

وما جعلنا عدّتهم إلا فتنة – جلال الدين الرومي

الفصل الثاني من كتاب فيه ما فيه

لمولانا جلال الدين الرومي

ترجمة: عائشة موماد

عن النسخة الفرنسية التي قدّمتها إيفا دوفيتري ميروفيتش

 

وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً

قال أحدهم: “مولانا لا يتكلم” فقلتُ: “إن صورتي هي التي جذبت هذا الشخص، لم تسأله صورتي: “كيف حالك؟” أو “كيف تسير الأمور؟”. لقد جذبته دون كلام. فإن جذبته حقيقتي وقادته إلى مكان آخر، فما العجب في ذلك؟ الكلام ظل الحقيقة وقطعة منها. إن كان الظل أكثر جذبا للحقيقة، يبقى الكلام ذريعة. إن ما يجذب الإنسان نحو الإنسان هو ذلك التجانس الذي يجمع بينهما وليس الكلام. لا يفيد في شيء أن ترى مائة ألف معجزة وكرامة دون أن تنعم بذلك الجانب من النبوة والولاية، هذا هو الارتباط الذي يثير القلق والاضطراب. لو لم يكن في القش نسبة من الكهرمان لما انجذب نحوه أبدا، فلكل واحد منهما تجانس محجوب خفي.

تصور الشيء هو الذي يقود الإنسان نحو ذلك الشيء. فتصور الحديقة يقوده إلى الحديقة، وتصور الدكان يذهب به نحو الدكان، لكن هذه التصورات خادعة، لأنك قد تذهب إلى مكان ثم تندم على ذلك وتقول: ” حسبت أن في ذلك خيرا لكنه لم يكن كذلك”. هذه التصورات شبيهة بالحجب، وهناك شخص مختبئ وراء الحجاب. عندما يتلاشى الخيال تظهر الحقائق دون حجاب، تلك هي القيامة، ولا مجال حينئذ للندم.

الحقيقة التي تجذبك واحدة، لن تكون أي حقيقة أخرى جاذبة لك سوى نفس الحقيقة ولا أخرى سواها، هي نفسها دائما: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ)[1]. الجاذب واحد على الحقيقة لكنه يبدو مختلفا، ألا تلاحظ اختلاف رغبات الإنسان؟ إنه يقول: ” أريد أكل التوتماج[2] والبوراك[3] والحلوى[4] والقلية[5] والفاكهة والتمر”، كل تلك الأطباق مختلفة في أسمائها لكنها واحدة في الأصل وأصلها هو الجوع، وعندما يشبع الإنسان يقول: “إنني لا أشتهي أي شيء”. من الواضح أنه لم يكن يرغب في مائة أو ألف شيء بل كان أصل رغبته شيئا واحدا.

(وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً)[6].

إن هذا التعدد في الخلق فتنة، وهكذا يقال إن هذا واحد وهؤلاء مائة، أن الولي واحد والخلق كثرة، أليست هذه فتنة؟ (وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً)، بشر دون أيد أو أرجل، دون عقل أو روح، تراهم في حركتهم كأنهم تعويذة ساحر أو ماء زئبق، تحسبهم ستين أو مائة أو ألفا وأن هذا الولي واحد، لكنهم ليسوا شيئا في الحقيقة، وهذا الولي بمثابة ألف ومائة ألف وآلاف الآلاف.

قليل إذا عُدّوا كثير إذا شُدّوا[7] (*)

كل نبي فريد في هذا العالم،

قد هاجم الجيش الملكي بمفرده.

ابتعِدوا عن الرعب الخادع،

إنه يهاجم العالم بمفرده.

أعطى أحد الملوك لجندي واحد حصة مائة رجل من الخبز. عاتبه جنده فقال الملك في نفسه: ” سيأتي يوم يظهر لكم فيه سبب هذا التفضيل”. خلال نشوب المعركة، هرب الجيش وضل ذلك الجندي يحارب وحده فقال الملك: “كانت تلك علة الاختيار”.

على الانسان أن يهذب قدرته على التمييز من كل حكم مسبق وأن يبحث عن الصاحب في الدين، فالدين هو معرفة الصاحب. لكن عندما يقضي الإنسان عمره مع من فقدوا القدرة على التمييز، تضعف بصيرته ولا يتمكن بعد ذلك من التعرف على الصاحب في الدين.

إنك تطعم الجسد، بينما يكون الجوهر هو التمييز الذي يفتقده هذا الجسد، ألا ترى أن الأحمق محروم من التمييز حتى وإن امتلك اليد والقدم؟

يمد اليد ليأكل أي قذارة

لو كان التمييز في هذا الجسد لما أمسك بهذه القذارة.

التمييز هو المعنى اللطيف الذي يفعمك بالحياة، لكنك تبذل قصارى جهدك لإطعام ما لا تمييز له ليل نهار، ثم تريد أن تخضع التمييز له. كيف تقدر على الاهتمام بجسدك وتهمل بصيرتك؟ فالجسد حي بفضل البصيرة لا العكس.

هذا النور نابع من العين والأذن…وإن غابت تلك الفتحات لاختلق منافذ أخرى. إنك تضع مصباحا أمام الشمس راغبا في رؤيتها. ما حاجتك بالمصباح؟ ألا تظهر الشمس نفسها بنفسها؟

لا تفقد الأمل في الله: إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.

تلك بداية طريق السلامة. إن لم تسر على هذا الطريق فاعلم بدايته على الأقل ولا تقل: “لقد اقترفت ذنبا”. اسع على طريق الاستقامة دائما ولن يصيبك أي اعوجاج. الاستقامة كعصا موسى والسحر هو الالتواء. سحرة فرعون هم الالتواء. عندما تظهر الاستقامة فإنها تلتهم كل سحر. إن أسأت فلنفسك فلن يضر اللهَ ذلك.

حط طائر فوق قمة جبل ثم طار،

ماذا جنى الجبل من ذلك وماذا فقد؟[8]

عندما تظهر فيك الاستقامة يختفي كل التواء فلا تيأس.

الالتحاق بالملوك لا يهدد الحياة. الحياة مفقودة سواء كان ذلك اليوم أو غذا. عندما يظهر الملوك، وعندما تتجبر نفوسهم كالتنانين، فكل من انضم إليهم وسعى لصحبتهم وقبل عطاياهم، عليه أن يقبل حكمهم بالضرورة. سيحتضن بقلبه سوء نواياهم، ومن أجل إرضاء المخلوق يغضب الخالق، ولن تكون له القدرة للاعتراض عليها. لو استطاع الاعتراض لكان أفضل، ومثل هذا الإنسان نادر، لذلك لا نستطيع أن نبني حكما على الاستثناء. يكمن الخطر هنا في الضرر الذي يلحق بالدين من جراء هذا الخضوع. عندما تصير تابعا لهم، يصير الجوهر غريبا عنك. كلما اتبعت هذه الوجهة تناءى عنك المعشوق، وكلما عولت على صلتك بأهل الدنيا غضب عليك.

من أعان ظالما سلطه الله عليه[9]. تَوجهك إليه ينطوي على هيمنته عليك، وعندما تتخذ تلك الوجهة في الأخير، يأذن الله بأن يسَلَّط عليك.

من المؤسف أن تبلغ البحر ولا تغرف منه إلا إبريق ماء، بينما يمتلئ باللآلئ ومائة ألف من الأشياء النفيسة. ما قيمة الماء؟ وبماذا يفتخر العقلاء؟ لماذا هم كذلك والكون كله زبد فوق ماء البحر؟

هذا البحر هو معرفة الأولياء، فأين موضع اللؤلؤة؟ إن هذا الكون زبد مليء بالقش، ومن جراء حركة الأمواج وغليان البحر، يكتسي ذلك الزبد نوعا من الجمال. (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[10].

قال تعالى: (زُيّن) ليبين لكم أن هذه العجائب ليست جميلة من نفسها، بل استعارت جمالها وجلبته من مكان آخر. إنها قطعة زائفة مطلية بالذهب، وهذا العالَم الشبيه بسَبخة من الزبد هو تلك القطعة الزائفة التي لا قيمة لها، لكننا كسوناها بالذهب. كان ذلك تفسيرا لقوله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ).

الإنسان هو الإسطرلاب الإلهي، لكن لا بد من إسطرلاب لمعرفة الإسطرلاب. لو امتلك بائع الخضر أو بائع التوابل إسطرلابا، فماذا يكون نفعه؟ ماذا سيكشف له هذا الإسطرلاب من أحوال الأفلاك ودورانها، ومن تأثيرات النجوم وحركاتها، في حين أن له فائدة عظيمة عند عالم الفلك، “فمن عرف نفسه عرف ربه[11]؟

وكما أن الإسطرلاب النحاسي مرآة للأفلاك، فالإنسان إسطرلاب الله عز وجل إذ يقول: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)[12]. عندما عرَّف الله تعالى نفسه وجعل الإنسان مدركا له، أصبح الإنسان مبصرا داخل إسطرلاب وجوده لإشراق الله وجماله في كل وقت ولحظة، وهذا الجمال لا يغيب أبدا عن المرآة.

لله خذام أُلبسوا ثوب الحكمة والمعرفة والفضيلة وإن لم يلهَم الناس البصيرة لرؤيتهم، لكن شدة غيرة الله تعالى جعلتهم يرتدون ثوبا آخر، كما قال المتنبي:

لبسن الوشي لا متجملات….ولكن كي يصن به الجَمالا.[13]

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1]  سورة الطارق، الآية 9.

[2] نوع من الحساء مصنوع من العجائن واللبن الرائب المجفف

[3] حساء مصنوع من اللبن الرائب والثوم

[4]   نوع من الحلويات

[5]  اللحم المقلي

[6]  سورة المدّثر، الآية 31.

[7]   اقتباس لشطر من بيت في قصيدة “ومن نكد الدنيا على الحر” للمتنبي، وقد جاء في الديوان – دار بيروت للنشر – 1983، ص 198: ثقالِ إذا لاقوا خفافِ إذا دُعوا…..كثيرِ إذا اشتدوا قليلِ إذا عُدُّوا.

 (**)

 

 

[8]  الجزء الثاني من رباعية لمولانا جلال الدين الرومي، عبر عن فكرتها الفردوسي في إحدى أشعاره.

[9]  حديث نبوي جاء في كتاب “كنوز الحقائق في حديث خير الخلائق” للشيخ محمد عبد الرؤوف المناوي، طبعة الهند، ص 123.

[10]  سورة آل عمران، الآية 14.

[11] حديث ينسبه مولانا جلالا الدين الرومي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه ينسب عامة إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

[12]  سورة الإسراء، الآية 70.

[13]  قصيدة “ومن يك ذا فم مر مريض” من ديوان المتنبي– دار بيروت للنشر – 1983، ص 139.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!