مع الحنابلة في تصوفهم

مع الحنابلة في تصوفهم

مع الحنابلة في تصوفهم 

بقلم: مختار خواجه 

  في حمى التصنيفات الرائجة يبدو السلفيون الحنابلة أبعد ما يكونون عن الصوفية، وذلك بحكم الخلاف الاعتقادي –الذي أؤيد شخصيا فيه الجانب الحنبلي – القائم بين الصوفية والحنابلة، والذي سأعرض لأهم جوانبه، إضافة إلى الميل الحنبلي إجمالا للعمل بظاهر النصوص، وهو أمر يجعلهم بعيدين عن الصوفية الميالين للإشارات والمعاني العميقة، كما يبدو جليا أن الحنابلة يتسمون بشيء من الحدة في الجدال، والخصومة، ما يجعلهم أبعد عن المتصوفة المتسمين بالرقة والعفوية والصفح..

  وفي سبيل تفكيك هذه الصورة النمطية عن الحنابلة في علاقتهم بالتجربة الدينية في الإسلام أود التأكيد ابتداء على أن أحد أجل الصوفية في تاريخ المسلمين وهو الشيخ عبد القادر الجيلاني كان حنبلي المذهب، وتنتسب إليه الطريقة القادرية.

  وأبعد من ذلك، فإن الحنابلة أنفسهم ليسو كيانا واحدا، فثمة من الحنابلة من جنح للتأويل في مجال الصفات وقاربوا الأشاعرة في النتائج، بينما خالفوهم في المقدمات المنهجية، بينما جنح آخرون للابتعاد عن التأويل، حتى أسرفوا في الأخذ بظواهر الآيات وهم قلة قليلة، لا تعبر عن الاتجاه السلفي الحديثي الحنبلي، وهذا الإطار يشمل حتى موضوع الأضرحة والمساجد فقهيا، على أن الحنابلة يتفقون هم ومن وافقهم من أتباع المذاهب الفقهية الأخرى على مخالفة المتصوفة في مسائل الاستغاثة بالأولياء وما شابه.

أما في مسألة العلاقة بين الظاهر والباطن، فيكفي أن أقول أن ابن عربي كان ظاهري المذهب، فليس في اتباع الظاهر ما يعوق عن الغوص في الباطن، بل قد يكون الأمر بالعكس، فاتباع ظاهر اللفظ في ظاهر السلوك، قد يفتح على العابد من الفتوح، ما لا يفعله القبول بالتدخل العقلي في الاتباع.

وعلى الإجمال فإن تصوف الحنابلة، يتسم بخصائص متفردة عن التصوف في صورته العامة، لا تحول دون إدراج علماء المدرسة الحنبلية فقها أو اعتقادا في عداد المتصوفة، وليس بخاف على المتتبع الكريم، أن أحمد بن حنبل نفسه كان من أجل العباد والزهاد، ولا يستطيع الصوفية تجاهله في هذا السياق، عدا عن الكرامات المروية عنه، وعن كثيرين من الحنابلة إما فقها أو اعتقادا كالبربهاري مثلا، وأبو إسماعيل الهروي الأنصاري صاحب منازل السائرين، عدا عن الشيخ عبد القادر الجيلاني وحسبك به منزلة في الصوفية، وابن الجوزي صاحب صفة الصفوة والواعظ المشهور، وابن القيم في كتاباته المتنوعة وابن تيمية وإن كان مقلا، ويعتبر ابن رجب الحنبلي آخرهم ظهورا ولمعانا في هذا الميدان.

وأبرز المصنفات التي تكشف عن هذا التصوف، تبدو في كتابات أبو إسماعيل الهروي الأنصاري وابن الجوزي (صفة الصفوة وصيد الخاطر وتلبيس إبليس والمدهش)، وعبد القادر الجيلاني: (الفتح الرباني وفتوح الغيب والغنية..إلخ)، وابن القيم في كتبه المتنوعة وابن تيمية في مجلده الخاص بالتصوف من الفتاوى وفي نقاشاته لبعض جوانب الفلسفة الفوية، إلا أن ما يربك الناظر في الفتاوى هو أن ابن تيمية نفسه لم يجمعها أو يشرف عليها، وهو ما يحمل إشكالا كبيرا في الاستدلال بها على الطابع الفكري العام لابن تيمية في هذا المجال، ويجعلني أميل لفهم محتوى مجلد التصوف في ظلال المفهوم من كلامه في كتبه الأخرى التي جادل فيها المتصوفة كالفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان واقتضاء الصراط المستقيم وغيرها.

وعلى هذا فإن تصوف الحنابلة متنوع في ذاته، غير أن القواسم المشتركة بين الحنبلة في تصوفهم:

أ-نبذهم لتراتبية ثابتة للأحوال والمقامات: وهو الأمر الذي حدا بابن الجوزي أصلا لنفي اسم الصوفية عن العباد الذين اختارهم في كتابه صفة الصفوة، علما بأنه لم يدرج بينهم مجموعة من عباد العراق المتأخرين، لاعتقاده بأنهم يخالفون هذا المبدأ، كالشيخ عبد القادر الجيلاني وأحمد الرفاعي ومن شاكلهم، وقد تبنى ابن القيم هذه الفكرة كذلك، ودافع عنها، واعتبرها تشمل المتقدمين جميعا وعد منهم الجنيد والتستري والشبلي والجيلاني، كما تبناها ابن قدامة المقدسي صاحب مختصر منهاج القاصدين، وابن تيمية في حديثه في مسائل الأحوال والمقامات في الفتاوى وغيرها، وإن خالفهم أبو إسماعيل الأنصاري في منازل السائرين، كما تشمل هذه الفكرة عددا من الأشاعرة المتقدمين من الصوفية كالقشيري في رسالته مثلا.

ب-تركيزهم على الجانب السلوكي أكثر من الجانب العرفاني: فهم يركزون غالبا وهذا أمر يشمل الشيخ عبد القادر الجيلاني وابن الجوزي وابن القيم، فقد قدموا عبر مؤلفاتهم نبذا عن الجوانب السلوكية أكثر من تلك المتصلة بالمعرفة الباطنية بالله تعالى، وإن كان ابن القيم في هذا الجانب أكثر اهتماما من الآخرين بذلك، بينما اهتم ابن تيمية وابن رجب بهذا الجانب، وذلك لجدال ابن تيمية مع المتصوفة فلسفة وسلوكا واعتباره بعض مخالفاتهم قادحة في الشريعة من وجوه، أما ابن رجب فقد اهتم في كتاباته بجوانب العبادة وأسرارها.

ج-الابتعاد عن علم الكلام والنهي عنه: وفي هذا الجانب يتفق ابن الجوزي وابن القيم وعبد القادر الجيلاني، وربما كان ابن الجوزي أكثرهم ميلا للتأويل مثلا، لكنه ينبذ المقدمات الكلامية إجمالا، فيما يهتم الجيلاني بتعداد الفرق وبيان الموقف منها، أما ابن القيم فيربط بين الجوانب المتصلة بالعقائد وتأثيرها في بناء العلاقة المعرفية بين الفرد وربه، ولعل ابن تيمية كان الأكثر تشددا في هذا الجانب لرفضه الفلسفة الصوفية ومعطياتها، وربطه بينها وبين الجهمية والمعتزلة.

د-الأخذ بالشكل المؤسسي أو الفردي: خالف الشيخ عبد القادر النمط الرائج عند الحنابلة في تجنب الأربطة وما شابهها من الأشكال المؤسسية، فقد كان الجيلاني صاحب مدرسة في بغداد، وترك وراءه أوقافا ضخمة عليها، والتزم بإلزامات المؤسسة الصوفية كالسماع وآداب المجالس وضبط العلاقة بين الفقراء، بينما حارب ابن الجوزي وابن القيم وابن تيمية هذه المؤسسيات، علما أن ابن تيمية رحمه الله نفسه ارتبط بالصوفية في بداية حياته، ورافقهم لكنه باينهم وخالفهم.

هـ الاعتذار للشطحات الصوفية: وهو رائج عندهم بلا استثناءات تقريبا، إلا أن ابن الجوزي كان أقلهم في هذا المضمار.

نقاط التمايز بين رجالات المدرسة الحنبلية:

أ-الاختلاف في مجالات وحقول الاهتمام: يرجع هذا الاختلاف لضرورات العصر واختلاف أحوال المخاطبين، ويعود لغياب البعد المؤسسي عن التصوف الحنبلي، فصارت احتياجات الجمهور أكثر عمومية واتساعا، فالمتصوف الحنبلي لم يخاطب أتباع طريقته وحدهم، بل خاطب حضور مجلسه، ومن يقرؤون كتبه، وهو تنوع يبرزه ابن الجوزي، حيث عرض في كتابه صفة الصفوة أنماطا مختلفة من السلوك الديني، ليختار الإنسان لنفسه منها ما يشاء، ومن ناحية أخرى يظهر طابعه وعظيا قاصا مذكرا في المدهش، ويظهر الفقيه عنده في كتابه تلبيس إبليس، بينما يظهر المنظر الاجتماعي عنده في صيد الخاطر، بينما ركز الجيلاني في كتاباته على العلاقة القلبية بالله تعالى وضبط شهوات النفس، كما تتنوع كتاباته بين التلقائي ذي النفس الحار كما في كتابه الفتح الرباني وفي كتابه فتوح الغيب، وبين ذلك الطابع التنظيري الهادئ في كتابه الغنية لطالبي طريق الحق والدين، أما ابن قدامة فيهتم بالأعمال القلبية والسلوكية في آن معا،  ليأتي ابن القيم ليدافع عن البنية المرنة للتصوف الحنبلي معارضا المنهجية المؤسسية والمقاربة الفلسفية في آن معا، وبانيا رؤية شمولية تجمع بين توصيف العلاقة بالله تعالى وتربية النفوس والضبط الأخلاقي السلوكي.

ب-تنوع في متانة الاستشهاد بالأدلة: يظهر ابن الجوزي وبعده بقرنين ابن تيمية أكثر أصالة في تصوفهما وآرائهما، يليهما في القوة والأصالة والابتكار الفكري ابن القيم الذي يمزج بين الاستشهاد بشيوخ التصوف، وبين الابتكار والجدال مع المخالفين، بينما يلتزم الجيلاني بمرجعية شيوخ التصوف المشهورين من المتقدمين، أما ابن قدامة، فقد اختصر منهاج القاصدين لأبي طالب المكي، ولا يبدو صاحب تنظير مستقل متكامل.

ما الذي يمكن الإفادة من التصوف الحنبلي فيه في وقتنا الراهن؟

هذا السؤال يبرزه قلة اهتمام الباحثين بآثار المتصوفة الحنابلة، أو إيرادها في مجال المناكفة للمتصوفة الآخرين وحسب، أو إظهارها منفصلة عن السياق الصوفي العام، بما يحجب حقيقة التفاعل بين المدرسة الحنبلية والمدارس الأخرى، ولعل هذا متأثر بالجدل الصوفي السلفي الذي تنامى منذ القرن الثامن الهجري.

ويمكن الإفادة من الحنابلة وتراثهم التربوي أو الصوفي في جوانب متنوعة منها قوة الربط بين الشريعة والسلوك التربوي والأخلاقي، ومتانة الاستنباطات من الآيات والأحاديث، وتجنبهم الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وإدراكهم العالي لاحتياجات المخاطبين، وتوثيقهم الدقيق للروايات والأقوال عن شيوخ الصوفية المعروفين والمغموين على حد سواء.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!