المذهب الشعري في الإسلام

المذهب الشعري في الإسلام

المذهب الشعري في الإسلام

La poétique en Islam

إيفا دوفيتري ميروفيتش

ترجمة: عائشة موماد

تقديم:

نشر هذا المقال لأول مرة ضمن مجموعة من المقالات سنة 1975 تحت عنوان La traversée des signes بدار النشر الفرنسية المعروفة Gallimard.

المقال عبارة عن محاضرة ألقتها إيفا دوفيتري ميروفيتش ضمن حلقة دراسية اجتمع خلالها باحثون متخصصون في دراسة اللغات التي تمثل ثراء الإرث الإنساني من أجل الإدلاء بشهاداتهم حول تلك اللغات ومقابلة مقارباتهم. مثلت إيفا دوفيتري خلالها اللغتين الفارسية والعربية، وحاضرت مادلين بياردو بخصوص اللغة الهندية، كما استعرضت اللغة الصينية من طرف فرانسوا شينغ واللغة العبرية من طرف دانيال سيبوني.

ثم إعداد هذه الحلقة الدراسية من طرف جوليا كريستيفا بعد توليها منصب أستاذة محاضرة بجامعة باريس Paris VII سنة 1973. وقد كانت قبل ذلك عضوة بجريدة TEL QUEL  الفرنسية التي أسست من طرف زوجها فيليب سوليرس سنة 1966 وشملت ضمن أعضائها أسماء مرموقة كميشيل فوكو ورولان بارت وجاك دريدا وأمبيرتو إيكو.

أعيد نشر هذا المقال سنة 2014 ضمن كتاب Universalité de l’Islam الذي تضمن إحدى عشرة مقالة لإيفا نشرت في الفترة الممتدة بين 1956 و 1989 في منابر فرنسية مختلفة آنذاك. وقد قام بإعادة نشر هذه الأعمال صديقها الفرنسي جان لوي جيروطو حيث قدم لها وعلق عليها ونشرها بدار النشر الفرنسية Albin Michel وفاء لجهود إيفا دوفيتري ميروفيتش.

النص المترجم

يجب الحديث عن الأدب والفكر والمؤلفين المسلمين، عِوض الحديثِ عن “الشعر العربي” و”المؤلفين العرب” كما اعتدنا على ذلك من الباحثين؛ ذلك لأن العروبة l’Arabisme ظاهرةٌ لسانية وسياسية. إذ يُوجد اليوم مئاتُ الملايين من المسلمين، أغلبهم ليسوا ناطقين بالعربية. إن لم يخني التعبير، فهم يلجؤون للغة العربية وقت تواجدهم بمعية طبقات مثقفة ولأسباب طقوسية فقط، لكنها لم تكن لديهم لغة ناقلة Langue véhiculaire. علينا النظر إذن إلى مجموعة أكثر شمولية في مجال الفكر والثقافة الإسلاميين، فبالتأكيد، وراء ذلك التنوع العرقي والجغرافي واللغوي، يقدم ذلك الفكر والثقافة عددا من الثوابت والبنيات الأساسية التي نهتدي إليها في كل مكان والتي تتأثر برؤية معينة للعالم.

ليس من اختصاصي الحديث عن علم الدلالة Sémantique والسيميائية Sémiologie كما أنه لا رغبة لي في ذلك. أريد أن أحدثكم بالأحرى، وبصفة إجمالية، عن تلك الثوابت في الثقافة الإسلامية، حيث يراد من اللغة أن تكون “إرشادا”، وحين أتحدث عن اللغة، فلا أستثني من ذلك الحركات والرقص والموسيقى. لا يوجد فن من أجل الفن فقط، وهذا ما يميز الثقافة الإسلامية. لم يعتبر جلال الدين الرومي [1207-1273] نفسه شاعرًا، قد يبدو ذلك غريبًا عندما نكتشف أنه كان شاعرًا من قامة دانتي [1265-1321] وغوته [1749-1832] إن لم يفق كلاهما.  في الواقع، كان المقصود من ذلك أن لنظم الشعر هدفًا تعليميًّا. ويبقى الشكل ثانويًا لا يؤدي سوى دور الوسيط، أما جماليته فهي جزء من الرسالة نفسها. فالأمر لا يتعلق بأدب تعليمي، بالمعنى الجاف والممل للكلمة، لكن بأدبٍ يسعى للوصول إلى شيء ما، ويبقى الباراديغم دائما هو القرآن. فأيًّا كان الأدب الإسلامي الذي ندرسه، فروحه مشبعة بالفكر الديني الذي نقرأه ما بين سطور النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، داخل نصوصٍ لم يكن لها ذلك المغزى الديني ولم تُكتب من ذلك المنطلق. هناك بالتالي لغة ورؤية معينة للعالم، نعثر عليها في كل مكان، بإيران وأفغانستان وتركستان وباكستان أو بكل بلدان العالم التي تأثرت بالإسلام.

ألحقت اللغة العربية بمعجمها مجموعةً كبيرة من المصطلحات الحديثة عبر القرون، ولكونها لغة مرنة للغاية، فقد خلقت بسهولة المفردات التي تحتاجها من أجل ترجمة المفاهيم فور اتصالها بالفلسفة اليونانية. لكن لم يكن من الممكن مضاهاة اللغة القرآنية منذ البداية باعتبارها نموذجا أوليًّا وباراديغما. من المتفق عليه أن لا أحد يستطيع الإتيان بأفضل من ذلك. ومن هنا جاءت تلك الخاصية المميزة للأدب الإسلامي، ومفادها أنه أدب حضارة بلاغية Civilisation de la parole. إنه الأدب الذي يلعب فيه البيان دورًا رياديًّا. فالقرآن إذن أبلغ القول، القول الموحى، والكتابة الأدبية كلامٌ مبلورٌ. اللغة القرآنية معجزة، كما أنها المعجزة الوحيدة التي صرح بها الإسلام، بخلاف معظم الأديان الأخرى، معجزة لغة ستستعمل كنموذج أوليّ مباشر.

عندما تأمر الأديان الأخرى: “أنصت!” أو “اقرأ!”، يعلنُ القرآن مراتٍ عديدة: “قُلْ، بلّغ!”. فالقرآن الكريم منذ البداية إملاءٌ بلغ حد الكمال. في هذا الصدد وعند الحديث عن الوحي، علينا أن نتفق حول المعنى الذي نمنحه لهذه الكلمة. ففي الثقافة المسيحية المبكرة Culture Judéo-Chrétienne، يوافق الوحيُ ما نسميه في الإسلام بـ “الإلهام“، أما في التقليد الإسلامي، فهو إملاءٌ كاملٌ في معناه واصطلاحه. ينتج عن ذلك ترابط وثيق بين قواعد اللغة وعلم الكلام، وخلقٌ لعقليةٍ إسلاميةٍ انطلاقا من مما يسمى بالتأمل – ما يسمى في مسيحية القرون الوسطى بالقراءة الإلهية lectiodivina– ذلك التأمل المتجدد باستمرار للنصِّ المقدّس.

لم تكن اللغة العربية لغة ناقلة فحسب، بل هي لغة مقدّسة كالسنسكريتية في الهند، ستمكّن كل المثقفين من التعارف، لأنه رغم طريقة النطق أو العبارات اللهجية التي تتغير بتغير البلدان، يستطيع أستاذ بالقاهرة، وطالب بفاس أو الجزائر من التفاهم على نحو تام لأنهم سيتحدثون باللغة العربية الكلاسيكية. فهي إذن بمثابة نموذج ولغة اتصال علميTransmission Scientifique. لقد لعبت دور وسيلة اتصال، فلم يتمكن الغرب من معرفة الفلسفة اليونانية حتى عصر النهضة إلا بواسطة الترجمات العربية. في هذا الصدد، يحكى أنه في القرن الثاني عشر الميلادي، دعا ابن طفيل [1100-1185]- الذي كان آنذاك وزيرا بمراكش- الفيلسوف ابن سينا [1126-1198] لمناقشة السلطان في بعض المسائل. يظهر أن هذا الأخير قد كان رجلا مثقفا، حيث دار الحوار حول أرسطو [348 ق-م / 322 ق-م]. وفي صباح اليوم التالي، أخبر ابن طفيل ابن سينا بما يلي:

“السلطان مستاءٌ جدًّا، فقد سمع بعضًا من المصطلحات التي لم تُذكر من قبل ولم تترجم، وبما أنك تحسن اللغة اليونانية، فعليك الشروع في ترجمتها….”.

وانطلاقا من الترجمات العربية ثم اللاتينية، عرفت القرون الوسطى أرسطو، وكان لتعليقات ابن سينا تأثير كبير على توما الإكويني [1224-1274] وعلى الفلسفة المدرسية أو السكولانية La Scolastique.

من ثوابت الفكر الإسلامي تلك المقاربة الفلسفية للزمن: فالعالم ليس خيالاً أو وهمًا كما تعتبره قبائل المايا الهندية،  لكن ليس له سوى حقيقة ثانوية. وفي الحقيقة يصبح كل شيءٍ نسبيًّا أمام المطلق المتعالي. كذلك للغة ارتباط بمفهوم معين للزمن، لأن كلَّ شيء نسبيٍّ ما عدا الله. سينشأ الفن الإسلامي من هذه الفكرة الأساسية التي ذُكرت في القرآن على هذا النحو: ” وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۘ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۚ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ” [سورة القصص- آية 88].

يعبر منهج القديس أوغسطين [354-430] من خلال (اعترافاته) ومنهج النبي إبراهيم -كما ذُكر في القرآن- بشكل لا بأس به عن الاختلاف بين المقاربة اليونانية اللاتينية والمقاربة الإسلامية. يتوجّه القديس أوغسطين بالسؤال إلى نجم فيقول: “أأنت الإله الذي أبحث عنه؟”، لكن النجم يختفي، ثم يسأل القمر الذي يختفي بدوره، فيتوجه نحو الشمس التي تغرب، فيقرر قائلا: ” لقد سألتهم، لا أحد منهم كان الإله الذي أبحث عنه، لكن الجواب كان انسجامهم وجمالهم”.كان انسجام الكون الجواب الأفلاطوني حيث يكشف جمال العالم بعضًا مما يوجد ما وراء الإشارات المادية. نجد تقريبا نفس القصة في القرآن.  فقد غادر إبراهيم مدينة أور الكلدانية، حيث كان أبوه عازر صانعًا للأصنام. كان النموذج الأولي للروح الباحثة عن المطلق، وانطلق نحو الصحراء باحثًا عن الله. رأى نجمًا لكنه اختفى، والقمر كذلك، بعد ذلك رأى غروب الشمس، فأدرك أن هذه العلامات ما هي إلا شاهدة على البقاء الذي يستمر بعد الفناء. ففي الفكر الإسلامي، يمكن مقارنة عملية الخلق بمحيط ثابت تعلوه الأمواج، أو بمرآة تعبر فوقها صور عابرة وظلال. لا يمكن القول بعدم وجود تلك الظلال، فهي انعكاسات حقيقية ووسيلة للخلاص.

يتحكّم مفهوم الزمن برؤية العالم ويظهر الاختلافات بين الثقافات. فعلى سبيل المثال، هناك رؤية دورية في المعتقد اليوناني، كالعودة الأبدية عند نيتشه [1844-1900] أو في المعتقد الهندي. هناك زمنٌ خطيٌّ في المنظور اليهودي المسيحي يؤدي إلى الخلاصMessianisme – سواء أكان الخلاص روحيًا أو جسديًّا- بالرغم من أن السعادة لا تعدو أن تكون نتيجة للثورة الاقتصادية وللتحول الذي عرفته الأشياء من منظور اجتماعي. الماركسية كذلك نوع من الخلاص الجسدي، وليس من محض الصدفة أن ينقلها ماركس، الذي كان يهوديًّا ومتشبعا بثقافة الخلاص هذه، وسط منظور أكثر تجسيدًا.

بشكل بياني للغاية، يعتبر الزمن في فلسفة الإسلام زمنًا عموديًّا وزمنا ذرّيًا، كما أن الفكر الديني الأكثر أرثوذوكسية في الإسلام تصور ذري. فالزّمن مكوّن من لحظات أنزل الله من خلالها الرسالات والإشارات والحسنات، هذا ما يفند فكرة النزول الآني والمتجدد باستمرار: يموت الخلق وتُعاد ولادتهم كل لحظة. اخترع المفكرون المسلمون مفهوم الطّفرة أو النقلة، وهو ما يتفق تمامًا مع الرياضيات الحالية. هي فلسفة الزمن التنقيطي Temps pointilliste والانطباعي Impressionniste التي تتحكم بشكل من أشكال الفن: فالفسيفساء تجميع للنقط، وفن الأرابيسك ينطلق من نقطة قد استخدمت من قبل، ويستأنف استخدامها بلا نهاية.

عندما نتناول موضوع الأدب العربي والفارسي والتركي، يصدمنا الشعر بطبيعته المجزأة، لكونه مؤلفًا من أبيات يظهر عند مطالعتها عدم الترابط للوهلة الأولى، رغم أنها كذلك في الواقع. سيكون لقصيدة رومانسية كلاسيكية عند آراغون [1897-1982] أو لامارتين [1790-1869]، أو بودلير [1821-1867] أو رامبو [1854-1891] بداية ووسط ونهاية، أي تسلسل ينطلق من شيء للوصول إلى شيء آخر. لا ينطبق الأمر على الشعر التركي والعربي والفارسي لأنه يقدم أبياتًا ذات معنى تامٍ من تلقاء نفسها، رغم أن ما يظهر عليها هو التجاور[1]. كما أن في فلسفة الزمن هاته يستطيع الزمن أن يُعكس-وهو مفهوم ثوروي نوعا ما- هنا أيضا، نستطيع تغيير أماكن الأبيات وعكسها. تصبح القصيدة بذلك شبيهة بحبات لؤلؤ في خيط عقد، يمثل الخيط آنذاك نغمة روحية تستند عليها تلك اللحظات. كذلك الأمر في لوحة انطباعية، فتلك اللمسات الصغيرة من الدهان، لم تأت إلا دليلاً على وجود الشيء في حياة أخرى. نفس الشيء بالنسبة للموسيقى، فالموسيقى ذات النبرة الحادةMusique Syncopée تشبه نبضات القلب، إنها موسيقى إيقاعية بنغمات متفاوتة الطول. الشعرُ كذلك مُفعّل لكونه مصنوعا من نبضات الزمن.

إذا أخذنا كمثال قصيدة حول فصل الخريف، ففي الشعر الصيني أو الياباني، سنجد قصائد قصيرة تصف هطول المطر ونقيق الضفادع وسقوط أوراق الأشجار، وفي قصيدة لبودلير مثلاً، سيكون هناك وصف لما يوحي به هذا الفصل.  لكن في الشعر الذي نتحدث عنه هنا، تتكون هذه القصيدة الخريفية من كل تلك الإشارات المنفصلة تمامًا والقابلة للتعاوض[2] لتعبر عن نوع من الكآبة. سنجد هذه القاعدة المهمة في علم النفس والموسيقى، ونسميها “الحال” Stimmung أحسن ترجمة لهذه الكلمة بالألمانية، وتختلف في معناها عن كلمة Mood الإنجليزية. يتعلق الأمر هنا بالحالة النفسية وبالحالة الروحية الوقتية وبالتلون الروحي للحظة. علاوة على ذلك، هناك انسجام وفق مستويات متعددة بين الفن وبخاصة الموسيقى كمثال، وعلم النفس والأدب والتصوف يجعلها تستعمل مفردات مشتركة. هذا الحال الذي يعتبر انطباعًا عامًّا للحظة مانحًا إيّاها تفرّدها الخاص، ليس سوى شيء عابر ولا مادي. على العكس من ذلك، فمصطلح (المقام) عند الصوفية، والذي يتطابق مع (مقام الألحان) في الموسيقى، عبارة عن مرتبة لا تضيع بعد أن يتم الوصول إليها. تكون هذه الرؤية مشروطة بمقاربة معينة للزمن، حيث يؤسس المطلق الزمن ويجلوه ويمنحه استمرارية ظاهرية[3].

شبّه الصوفية المسلمون الزمنَ بالحركة التي تقوم بها الجمرة عندما تستديرُ حولَ نفسها في الهواء: هذه الشعلة التي نديرها بسرعة تصبح خطًّا من النار. هذا هو نفس مبدأ السينما، فسرعة الصور المتعاقبة تعطي إحساسًا بالاستمرارية. يمنحنا العالم هذا الإحساس رغم تجدده في كل لحظة ومع كل نفس، لأن تجديد الله الثابت للخلق سريع للغاية، فلا نستطيع تمييز الفراغات بين اللحظات. لكننا إن استطعنا رؤيتها، سوف نلاحظ أن هنالك مواقع “مليئة” وأخرى “فارغة”. كذلك في الشعر، نجد امتلاء يتجلّى في الأبيات وفراغا يتمثل في انعدام الترابط بين تلك الأبيات، ونغمة روحية تخلق تلك الوحدة العميقة. إنه دائما ذلك المحيط الساكن بصحبة أمواج متحركة، أي ما يخلد تحت ظل التغيير.

سيكون كل البحث العلمي المتعلق بعلم النفس الإسلامي من نصيب علم النفس المتعالي، محاولا تجاوز ثرثرة العقل التي تحدث عنها باسكال [1623-1662]، وبرجسون [1859-1941] وبعض علماء النفس: تلك الصورة المنعكسة في المرآة، حيث تبقى المرآة، بينما تعبر الصورة وتتضح ثم تتلاشى. لذلك كان من الضروري تجاوز كل ما هو زائل– كما فعل سيدنا إبراهيم في بحثه عن الله- من أجل لقاء من لا يختفي مثل النجوم والقمر، أو يغيب مثل الشمس، من أجل لقاء الخالد، لأن كل شيء هالكٌ –ليس عرضة للهلاك فحسب، لكنه يهلك في كل لحظة ولا يبقى إلا المطلق. كذلك في علم النفس، وجب تجاوز الانفعالات العابرة التي تعد ضربًا من ضروب الثرثرة العقلية بغية الوصول إلى درجة أكثر ثباتًا، يمكن إظهار الفوارق الدقيقة داخلها عبر تلك الأشياء الزائلة. ستنتقل الرحلة الصوفية من علم النفس المألوف إلى المتعالي من أجل تجاوز “أنا” الحياة اليومية الصغيرة والوصول إلى “الهو” الذي يعلل وجودها.

هناك مراحل يجب اجتيازها على الطريق الصوفي .فقد كان المفكرون المسلمون من كبار علماء النفس، إذ انخرطوا في استبطان[4] Introspection دقيق للنفس وأثاروا فكرة السُّلم الداخلي للإنسان .ترتكزُ هذه الفكرة على عبورِ مستويات الواحد تلو الآخر، وتسمى هذه المستويات بالمقامات كما المقامات الموسيقية. سيحاول سالك هذا الطريق صعود تلك الدرجات إلى حين الوصول إلى أول مرحلة، تكون مرادفة للثقة بالله على سبيل المثال. لهذه الثقة اسم ومميزات محددة، ويمكننا التسليم بأن الوصول إلى هذه المرتبة مكسبٌ يمكن المحافظة عليه. وبالمثل، ففي الموسيقى نغمة خافتة Sourdine، وهي قاعدة ثابتة تعتبر أساسًا للحن الموسيقي، بدونها تصبح العلامات الموسيقية مبعثرة. يمكن أن يُعاش مقام كهذا بطرق مختلفة: أي أننا نستطيع أن نعبر مرحلة الثقة بالله هاته في حالة الفرح أو الألم أو الاستسلام. النغمة الروحية عابرة ومؤقتة ولا أهمية لها في الواقع، لا ينبغي التعلق بها، بل يجب الذهاب أبعد من ذلك والصعود إلى مقام آخر. ينطبق نفس المبدأ على الوحي ذاته، فقد أنزل الله رسالات تنسب في مرجعتيها إلى رسالة أساسية، فإن تعددت الرسالات تبقى في الواقع واحدة، ستتغير حسب العصر والظروف الاجتماعية، لكن الأصل يبقى ثابتًا[5].

تنفرد أغلب الديانات إما باسم مؤسسها كالبوذية والموسوية والمسيحية، أو باسم البلد كالهندوسية واليهودية، وترتبط دومًا بشيء متجسد جغرافيًا وتاريخيًا. «الاستسلام” هو ما يفهم من كلمة “إسلام“، التي تعني أيضًا “السلام” حسب الجذر اللفظي للكلمة. إنه استسلام يتيح لنا أن نعود إلى المطلق عودة مولدة للسلام. بصحيح العبارة، لا يتعلق الأمر إذن بتسمية مذهبية، فنظريًّا، يصبح كل مؤمن مسلمًا إن كان على هذه الحال الروحية. يمكن لفقيه مسلم أن يقول ما يلي: ” الشجر والقمر والشمس والنجوم والذرات والأجسام الكيماوية، كلها مسلمة”. قد تبدو هذه الصيغة غريبة، لكنها تعني بكل بساطة أن عناصر الخلق هذه تابعة لقانون وجودها، لأنها تخضع لمطلق يتحكّم فيها وينظّمها. لذلك لن يقتصر الوحي على شعبٍ معين، بل سيكون وحيًا جوهريًّا.

يعترف الإسلام برسالات أخرى ويعتبر أن هناك العديد من الأنبياء الذين يُقرّون أن لا نبي أفضل من غيره. هناك رسالة وحيدة تشمل كل تلك الرسالات الجزئية. وإن اختلفت هذه الأخيرة فيما بينها –فيما يخص التشريعات الدينية- فلأنها نزلت في أزمنة خاصة من تاريخ الإنسانية، وكان من اللازم أن يكون الوضع كذلك. لكن في الأساس، تعترف كل الرسالات بوجود مطلق و”نومن Noumène[6]“خلف الظواهر، بحقيقة مطلقة ما وراء الحقائق الجزئية، زِدْ على ذلك أن الصوفية قد أطلقوا على الله عزّ وجل اسم “الحقيقة المطلقة”. من ثمَّ، سيُستدرج المسلم بالنظر إلى عقيدته ليشهد على صحة الرسالات الأخرى في حالة عدم وجود أي تعارض فيما بينها. فالإسلام يقبل رسالة موسى لكنه يعتبر أن التفاسير التي أضيفت إليها كانت من صنع البشر. لها أهميتها لكنها ليست ذات علاقة بالرسالة الأصلية. كذلك كانت الرسالة التي تتضمنها الأناجيل، فالإسلام يعترف بها بغض النظر عن التأويلات التي أعطيت للنصوص من قبل المجامع الدينية المتعاقبة. بذلك يعترف القرآن بالمسيح كنبيٍّ وبالولادة العذرية، لكن التعبير اللاهوتي “مريم أم الله” يؤذي مشاعر المسلمين الذين يعتبرون أن أم المسيح لا تستطيع أن تكون أمًّا للمطلق.

للإسلام قبل كل شيء مدلول مركب وموحد، قد أُسّس على مبدأ وحدانية وتوحيد الله. الوحدانية أولا لأن المطلق الأبدي واحد، يليها التوحيد لأن الخلق وحيد لا قيمة ولا تعليل له إلا بالنسبة لله. هنالك كذلك واحدية للكينونة والوجود لا يحسب على مذهب وحدة الوجود Panthéisme بل على وحدة الشهود Panenthéisme، أي المشاركة في كون مقدس توحده قوانين ترابط ثابتة، كون أخوي يُكوّن انعكاسه الأرضي أمة أخوية. هذا ما يمنح كل المعنى للأخوة المسلمة بعيدًا عن كل الجنسيات: نحن مسلمون أولا لنكون بالتالي إخوة لكل الناس، ونكون إخوة للمسلم قبل الانتماء إلى أي جنسية بعينها. هنا أيضا يتدخل قانون المماثلة، فكلُّ شيء قد أسس حول وحدة عميقة للإنسان امتدت لتشمل المجتمع الإنساني بأكمله. يطبق هذا القانون على جميع المستويات، وقد اختص المفكرون المسلمون بتأسيس رؤية للعالم حول مماثلة العالم الصغيرMicrocosme بالعالم الأكبرMacrocosme

الإنسان عبارة عن مرآة، مرآة إلهية ومرآة للعالم. يتمثل دوره من وجهة نظر أخلاقية في صقل المرآة التي يمثلها لكي ينعكس فيها العالم كما هو. لذلك، إن كان المستشرقون يترجمون مفهوم “كُفْر kufr” عموما بـ « impiété » و « incroyance »، هذا المفهوم يحيل إلى حقيقة أن الإنسان، وبسبب أخطائه، يعجز في أغلب الأحيان أن يكون مرآة صادقة بالمقدار الكافي.

تقدم اللغة العربية نفسها وفق صورة رمزية، كباقي اللغات السامية، حيث يتعلق الأمر دائما بإعادة إنشاء الكمال، والذهاب من الرمز نحو المرموز. سيكون القرآن إذن مثل رمز يتحتم فكّه على كل قارئ، كشطري القطعة الخزفية، وفقًا لأصل كلمة “رمز Symbole” باليونانية. لذلك (يجب أن تقرأ القرآن كأنه تنزل عليك أنت)، وتأوّله حسب قدراتك الروحية، عليك أن تحاول العثور تحت تشتيت الكلمات عما يسنده.

ستمكن اللغة العربية، (تلك اللغة التي تكتب بواسطة حروف ساكنة تُنطق)، من المساهمة في مبادرة التأويل الشخصي هذه. فقد قال لويس ماسينيون: (إن تعلم النطق كتعلم التفكير). تتشابك المعاني مع بعضها داخل هذه اللغة التركيبية والشديدة الغنى دون أدنى تعارض فيما بينها بل تقدم المزيد من الاستبطان. من أجل ذلك، وباعتبار اللغة العربية لغة مقدسة، لا يمكن ترجمتها إلى أي لغة أوروبية دون خيانتها.

لا شيء باقٍ ولا شيء يدوم، وما يهم المسلم هو أن يتجرّد من الصور، فعند نهاية الرحلة، وبعد وصوله إلى نهاية السلم، يعثر على الجوهر الأصلي للكون. يحكى من خلال أسطورة جميلة أنه يوم القيامة، سيرى الله كل ذرات العالم المتناثرة والمجزأة والتي لا معنى لها في حد ذاتها وهي مجتمعة ومتحدة. فوق هذه الحمم المنصهرة، سيفرض الله خاتميته لتتماكن كل الأشياء تمامًا: في تلك اللحظة وبعد عودتها إلى المطلق، ستبرهن الأشياء على وجودها وترجع إلى حقيقتها.

 

[1]صفت عبارات لا يصل بعضها ببعض أية أداة رابطة [المترجمة]

[2]حالة أشياء يمكن استعمال أحدها عوض الآخر

[3]صفة لما يبدو واضحا.

[4]عملية تشاهد بها الذات ما يجري في الذهن من شعوريات لوصفها لا لتأويلها

[5] : يذكّرنا هذا بما رواه ابن الساعي في أخبار الحلاج، ص 38-39 عنه قائلا: (يا بني: الأديان كلّها للّه عز وجل، شغل بكل دين طائفة لا اختيارًا فيهم بل اختيارًا عليهم، فمن لام أحدًا ببطلان ما هو عليه فقد حكم أنّه اختار ذلك لنفسه، واعلم أن اليهودية والنصرانية والإسلام هي ألقاب مختلفة وأسامٍ متغيّرة والمقصود منها لا يتغير ولا يختلف) [المترجمة].

[6]أو “نومنون: شيء في ذاته، حقيقة مدركة بالحدس العقلي حسب الفلسفة الكانطية، في مقابل ظاهرة أو واقع محسوس [المترجمة]

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!