السهروردي المقتول: الأُكرةُ التي لم تكتمل

السهروردي المقتول: الأُكرةُ التي لم تكتمل

شهاب الدين السهروردي المقتول:

الأُكرةُ التي لم تكتمل

محمد أمير ناشر النعم

 

 

        في نصٍّ مثقلٍ بالدلالة والمعنى! نصٍّ ترتسم على حروفه تقطيبةٌ حافلة بالمرارة يحدِّثنا الشهرزوري (كان حيَّاً في سنة 687هـ.) صاحب كتاب ((نزهة الأرواح وروضة الأفراح)) عن شيخه شهاب الدين السهروردي (549 ــ 587هـ): “كان قدَّس الله تعالى روحه كثيرَ الجولان والطوفان في البلدان، شديد الشوق على تحصيلِ مشارِكٍ له في علومه، ولم يحصل له. قال في آخر المطارحات: وهو ذا وقد بلغ سنِّي إلى قريب ثلاثين سنة، وأكثر عمري في الأسفار والاستخبار والتفحُّص عن مشارِكٍ مطَّلع على العلوم، ولم أجد مَنْ عنده خبر عن العلوم الشريفة، ولا من يؤمن بها“، ثم يعقِّب الشهرزوري كاشفاً عن عجبه: “فانظر إلى قوله، وأكثر التعجُّب من ذلك(1).

        لقد ظلت هذه الإشارة، بل قل: هذا الإيقاظ دون التفات أو عناية رغم مرور السنين والحقب والمؤلفات والبحوث والدراسات والمقالات التي تناولت السهروردي سيرةً ومذهباً وعرضَ أفكار، ولم يكن الشهرزوري ليدعونا للإكثار من التعجب منه، لولا أنَّه ينطوي على ما يُعين في فهم هذه الشخصيَّة، ويسهم في معايشة عوالمها الجوانيَّة الرحيبة، بأحوالها ومقاماتها، فضلاً عن آفاقها البرانيَّة الممتدة المتشعِّبة في البلدان والمذاهب والتيارات والشخصيَّات، ونستثني من الدارسين والباحثين هنري كوربان (ت: 1978م) الذي لم يرَ في هذا (الاعتراف) سوى أننا “بإزاء شكاة صادرة عن خيلاء غريبة، أو نحن بالأحرى أمام اعتراف بإخفاقه في بحثه الطويل عن رجل في مثل إيمانه، وله نظرة في سعة نظرته، وعنده القدرة على إدراك معاني الفلاسفة وضرب أمثال الأنبياء”(2). وكما نرى فإنَّ كوربان لم يُرِدْ التوقُّف طويلاً أمام ما نحن بصدده من شكاية وبَرَم، فردَّ ذلك لمجرد ازدهاء وخيلاء، أو لمحض بوحٍ واعتراف.

خمرة تبحث عن شاربها:

        في حديثنا عن شوق السهروردي إلى مشارك له ومُشاكل، والذي باح به في سن الثلاثين، سنِّ الاكتمال العيسوي، يكفينا أنْ نورد نصيْن قصيريْن لابن داود (ت:207هـ)، وابن حزم (ت: 457هـ) يختزنان في طياتهما الأسطورة الإيروسيَّة المشهورة، وحديث المائدة لأفلاطون (ت: 347ق.م) حول فلسفة الحب، وتفسير أرسطوفان (ت: 386 ق.م)، ومجلس يحيى بن خالد البرمكي (ت: 190هـ) الذي ضمَّ نخبة مثقفي عصره حيث تداولوا موضوع (العشق)! يقول ابن داود في كتاب ((الزهرة)): “وزعم بعض المتفلسفين أنَّ الله ــ جلَّ ثناؤه ــ خلق كل روح مدوَّرة الشكل على هيئة الكرة، ثم قطعها أيضاً، فجعل في كلِّ جسد نصفاً، وكلُّ جسد لقي الجسد الذي فيه النصف الذي قطع من النصف الذي كان معه، كان بينهما عشق للمناسبة القديمة، وتتفاوت أحوال الناس في ذلك على حسب رقَّة طبائعهم”(3). ويعلِّق ابن حزم على ابن داود فيقبل قوله، ويرفضه في آن واحد، فيقول: “وقد اختلف الناس في ماهيته [العشق]، وقالوا وأطالوا، والذي أذهب إليه أنَّه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع، لا على ما حكاه محمد بن داود رحمه الله عن بعض أهل الفلسفة: (الأرواحُ أُكرٌ مقسومةٌ)، لكن على سبيل مناسبة قواها في مقر عالمها العلويِّ، ومجاورتها في هيئة تركيبها، وقد علمنا أنَّ سرَّ التمازج والتباين في المخلوقات، إنَّما هو الاتصال والانفصال، والشكل دائماً يستدعي شكله، والمثل إلى مثله ساكن، وللمجانسة عمل محسوس، وتأثير مشاهد”(4).

        وبخلاف تقرير أرسطوفان الذي يرى أنَّ الصنفين الملتقييْن إذا كانا ذكرين “كانت روح كلٍّ منهما تتوق إلى الأخرى توقاً لا تستطيع أنْ تفصح عنه”(5). فإنَّ السهروردي باح واعترف وأفصح عن شوقه وتوقه، وكأنِّي به حين بسط مسألة (إمكان الأشرف) في كتابه (حكمة الإشراق)، استبطن وجود مُشاكله بشكل قاطع. هذا المشاكل الذي سيكون أرفع منه وأعلى، فـ “الممكن الأخسُّ إذا وُجد فيلزم منه أنْ يكون الأشرف قد وُجد أيضاً”(6)، وما عليه سوى طلبه ولقائه، ولذا بدَّل السهروردي المدنَ، كما يبدِّل المحموم الوسائد، وتنقَّل في الأماكن روحاً هائلة هائمة، كأنها طريدة قوَّة مجهولة، ويخبرنا الشهرزوري أنَّ شيـخه “كان يسافر كثيراً على قدمه”(7)، فلم يكن له صمام ولا استرواح! كأنَّه يتتبع المشقَّة البرانيَّة علَّها تخفف من وطأة مشقته الجوانيَّة، وتهدِّئ منها، أو تغطي عليها، فهو يعرف أنَّه لم يصل إلى التألِّق الذي يبتغيه، على الرغم من رؤيتنا إيَّاه في غاية الألق، فقد اكتشفنا في داخله، ثمَّ في فلسفته أروع الكنوز الإنسانيَّة: النظرة الإنسانيَّة الواسعة والشاملة، والفضيلة الحقيقيَّة بلا نفاق ولا تصنُّع، والجسارة التنويريَّة الصلبة الباسلة، والترفُّع الذي لا مثيل له عن الزخرف والحطام، والاستخفاف العجيب بكلِّ ما يلهث الناس من أجل كسبه وتحصيله.

        ولكنَّه كان يدرك في حاقِّ نفسه أنَّه نصف (أُكرة)، وأنَّه يسرُّه، بل يتوجب عليه أن يتذوَّق الاكتمال إلى النهاية، وساعتئذٍ سيكون على موعد مع التطور المنطوي على الغنى والإرهاف، وستتضاعف حدوده وإمكاناته، بل ووجوده، وستكتمل لذته وسروره، فالذات أيضاً كنز مخفي تتشوق وتتشوف لأن ترى نفسها في مرآة مصقولة تمام الصقل، مجليَّة منتهى الجلي، وتتلهف لتَعرِف هذه المرآة، ولتُعرَف بها، والروح تجمح وترتعد أن تبقى في عزلة فاجعة من دون الشريك المتمِّم، والمشاكل المكمِّل، وستغدو حينها هائمة مصوِّحة، مهمومة مغمومة، لا تهدأ ولا تريم.

        ولكي نفهم حال السهروردي يحسن بنا أن نقارب الأمر ونقايسه بما عرفناه من تجارب مماثلة كان نصيبها الوجدان لا الفقدان، ولا نجد أنصع دلالةً في هذه المقارنة من شمس تبريزي (582 ـــ 645هـ) ذلك المتمرِّد المتنمِّر، الذي جال في البلاد، وطوَّف في الآفاق، وهو يبحث عن شريكه، وعن صديقه ومُشاكله، وأخيراً في قونية يظفر باللقاء، لا بل بالاكتمال مع جلال الدِّين الروميِّ (604 ــ 672هـ). وأما بقية القصَّة بينهما فمعروفة مبسوطة، فما قدَّمه التبريزيُّ للروميِّ أجلّ من أن يوصف، وما قدَّمه الروميُّ للتبريزيِّ أعظم من أن يُذكر! وقد أتحفتنا المكتبة حديثاً بكتاب كامل يحكي تفاصيل هذه العلاقة الروحيَّة والفكريَّة الخاصة التي نشأت بين الشاعر الصوفيِّ الكبير جلال الدِّين الروميِّ، ومرشده الخطير شمس الدِّين التبريزيِّ عنوانه: (بحثاً عن الشمس من قونية إلى دمشق: جلال الدِّين الروميُّ وشيخه شمس تبريز) لمؤلفه عطاء الله تدين، وفيه نقرأ اندهاش جلال الدِّين بشمس تبريز:

        يا شمس تبريز، أنت الشمس، فكيف أمدحك؟

        إنَّ لي ألف لسان صارم كالسيف، لكنِّي في وصفك ألكن!

ونقرأ أيضاً:

        أنت شمس تبريز الذي استوطن الروح

        الوطن هو روح الأرواح

        فكيف تكون وطناً للروح(8)؟

ونقرأ قول الروميِّ عن نفسه في مقابل ذلك:

        أنا مرآة. أنا مرآة. لستُ رجل مقالات

        تُرى حالي حين تغدو آذانكم أعيناً(9).

وينادي الروميُّ شمساً في غزليَّة:

        تحدَّث! لعلَّ كلامي هذا كلَّه يكون صدىً لكلامك.

وحين يغادر شمس يناديه مولانا بكلِّ ذراته:

        طومار قلبي بطول الأبد…

        مكتوب من أوّله إلى منتهاه: لا تذهب(10).

        ونقرأ عن شمس أنَّه “كان مجذوباً من أولئك المتمرِّدين المحرِّقين للعالم […] الذين يتوسدون آجرة، ولهم قدم فوق قمة الأفلاك التسعة. […] ألغاز وجوده لا يمكن حلُّها من خلال توضيحات كتَّاب التراجم. أمَّا انعكاس هذه الشمس في مرآة شعر مولانا فلألاءٌ ومشرق على نحو يغني عن الأساطير. […] كان خلود اسم شمس وعمره الثاني على امتداد التاريخ نتيجة للقائه مولانا، ويُعدُّ وجود كلٍّ من هذين الشخصين متمماً لوجود الآخر. […] لو أنَّ هذا اللقاء لم يحصل هل كان سيبقى اسمٌ لشمس تبريزي في العالم اليوم(11)؟

        وما ينطبق على شمس تبريز كان ينطبق تماماً على السهروردي! تلك الخمرة الصافية التي كانت تبحث عمَّن يليق به شربها، أَوَليس هو القائل:

كلامي عُقار عُتِّقت ثم رُوِّقت              وبعض كلام القائلين عصيرُ(12).

        فلِمَ تعتَّق العقار؟ ولِمَ تروَّق؟ أليس للشرب والمنادمة؟ لكنَّ السهروردي الكمِدَ لا يجد قميناً لشربه، ولا جديراً لمنادمته رغم طول السياحة والتقميش، ودقة البحث والتفتيش!

وسنقرأ له في ديوانه أيضاً: “والقهوة!! لو تعلم من يشربها”! لكنه لا يعلم من يشربه! وبالأحرى لا يجد من هو أهلٌ لأن يكتمل به.

        وفي ارتقاء كينونته الروحية يقول له الملك، كما يخبرنا في رسالته “أصوات أجنحة جبريل”: انتعل نعل الخضر(13)! فهل يستجيب؟ وهل ينتعل؟

        والجواب: نعم. فقد غدا السهروردي خضر نفسه، ذلك أنَّه لم يكن له مرشد إنسانيٌّ مرئيٌّ، يمكن الإشارة إليه بأنَّه هو ذا، ومن أجل ذلك أخبرنا أنَّه طوَّف في البلدان، يستخبر ويفحص عن هذا المشارِك المشاكِل الذي هو في الحقيقة شيخٌ وتلميذٌ، خضرٌ وموسى في آنٍ واحد! ولكنَّه لم يوفَّق لذلك، ولم يسعفه الزمن بهذا اللقاء! بل أسعفه بصحب دونه في الهمَّة والطموح، دونه في الاحتراق والذوبان! فنراه يشتكي بائساً كحقلٍ حصيد:

إلى كم آخذ الحيَّات صحبي؟                إلى كم أجعل التنين جاري؟

وفي المقابل نراه يرنو ويتطلع لمن:

ركبوا على سفن الوفا، فدموعهم                 بحرٌ، وشِدَّة شوقهم ملاَّحُ

ومرة ثالثة نراه يخلع العذار:

من لي بمهفهفٍ بقدٍّ كالبان؟                   والعاذل فيه والرقيب كلبان؟

ويبقى هذا السؤال بلا جواب ولا إجابة، وبلا إنجاد ولا إمداد.

        لنتصور التبريزيَّ بلا روميٍّ! ولنتخيل الروميَّ بلا تبريزيٍّ! ثمَّ لنعد الكرَّة بالنظر إليهما معاً! عندها فقط ندرك معنى الأُكرة باعتبارها مقسومة، والأُكرة باعتبارها مكتملة، وندرك بعدها ما نتيجة هذا الاكتمال، الاكتمال الذي يفجِّر ملكة الإبداع الجماليِّ والفكريِّ بما يبهر ويدهش، لا سيَّما إذا كانت الأُكرتان من صنف التبريزيِّ والروميِّ، أو من صنف السهرروردي و……..

لقد قدَّم السهروردي مقالاته في صورة (أمثال)(14), وقدَّم الروميُّ مقالاته في صورة (قصص)، ولا شكَّ في أنَّ الروميَّ تفوَّق، وتقدَّم بسبب ما نحن بصدده والإشارة إليه. لقد وصف الشاعر الكبير عبد الرحمن الجامي مولانا الروميَّ بقوله: “إنَّه لم يكن نبيَّاً، ولكنَّه أُوتي الكتاب”(15). مَنْ الذي آتاه الكتاب؟ ومَنْ أسهم في ظهور هذا الكتاب؟ إنَّه شمس التبريزي! وهكذا السهروردي كان يبحث عن مشارك مُشاكل يؤتيه الكتاب، وينتقل به من (التلوين) صفة أرباب الأحوال، إلى (التمكين) صفة أهل الحقائق، ولكنَّه لم يجده ولم يحظ به فظلَّ مهموماً مغموماً مكموداً. يقول السهروردي:

        كم قلتُ!

        وكم أقول!

        ولكن مع من؟

إننا أمام شكاية تتكرَّر وتتجدَّد! مرةً على سبيل النثر، وأخرى على سبيل الشعر، وفي كلا السبيلين نرى بوضوح شوق الأُكرة ولهفتها للإغلاق والاكتمال.

روميُّ السهروردي المفترض:

        إذا كان السهرورديُّ يماثل التربريزيَّ، فإنَّنا نتساءل عمَّن يمكن أن يكون روميَّه؟ ذلك الروميُّ المطويُّ في سجف الغيب، والذي ما فتئ السهرورديُّ يبحث عنه، ويرنو للقائه!

        ولأنَّه لن يظفر بهذا اللقاء، فإنَّه سينكفئ إلى التاريخ حتى يختار على عينه مشاركه ومُشاكله، وسيلقى بغيته في الحلَّاج (ت:309) الذي سيدعوه بـ (أخي)، وسنراه يستعير مطلع قصيدة له بتمامه من أخيه الحلَّاج، وهو قوله:

لأنوار نور النُّور في القلب أنوارُ               وللسرِّ في سرِّ المحبين أسرارُ

        وستندغم أنفاس السهرورديِّ الشعريَّة بأنفاس الحلَّاج الشاعريَّة، وستأتلق كلماتهما معاً:

سقانا فحيَّانا فأحيا نفوسنا           وأسكرنا من خمر إجلاله عفوا

فهمنا وهمنا في مدامة وجدنا          وسرنا نجرُّ الذيل من سكرنا زهوا

        وكأنِّي بالسهرورديِّ في هذين البيتين يمسك بيد الحلَّاج فيسيران معاً, يجرَّان ذيليْهما معاً، ويسكران معاً، ويزهوان معاً.

        ويقرر هنري كوربان أنَّ “كثرة النصوص الحلاجيَّة في ثنايا مؤلفات السهروردي تشهد بأنَّ هذا الأخير كان شاعراً بالرابطة التي تربط بين حالة الحلَّاج وحالته هو الخاصَّة، ولن تفهم شخصيَّة السهرورديِّ ولا إنتاجه على تمامهما بدون هذه الرابطة”(16).

        وسنرى فيما بعد في كتب التراجم أنَّ جميع الكرامات التي نُسبت إلى الحلَّاج قد نُسبت إلى السهرورديِّ  أيضاً, في تأكيد على المشترك بينهما إلى حدِّ التماثل.

        غير أنَّ السهروردي لو نظر إلى المستقبل فمن كان سيصطفي؟ ومن كان سيختار؟

        في تقديري أنَّه لم يكن هنالك سوى شخصيِّة واحدة مؤهَّلة لذلك الدور ولتلك المكانة، أعني: ابن عربي (558 ــ 638 هـ). وعلى الرغم من أنَّنا لا نجد في المتن الأكبريِّ إحالةً ما إلى (حكمة الإشراق) أو إلى كتابات أخرى للسهرورديِّ، كما تخبرنا كلود عدَّاس(17)، فإنَّنا نكاد نجزم بمعرفة الشيخ الأكبر أعمال السهرورديِّ، بل واستلهامه إياه، فقد كان الشيخان متعاصريْن، وحين رأى ابن عربي النور كان السهرورديُّ في العاشرة من عمره، يدرس بمدرسة مراغة بأذربيجان(18)، ولكنَّ الموت يعاجله، ويحتزُّ اللقاءَ الذي كان يوشك أنْ يتمَّ بينهما، ففي السنة نفسها التي يفارق السهرورديُّ فيها الحياة، وهو في عزِّ الشباب وشرخه، يفارق ابن عربي الأندلس، ويلتحق بمشرق الروح. وسيصل ابن عربي إلى نفس الأماكن التي وطأتها قدما السهرورديِّ، وسيجول في نفس الأنحاء، وسيقابل نفس الأشخاص الذين قابلهم، وفي مدينة قونية سيخصُّه الأمير السلجوقيُّ كيكاوس الأول باستقبال رائع، يشبه الاستقبال الذي خصَّ به أمير سلجوقيٌّ آخر قبل ثلاثين سنة السهرورديَّ، ثم سنرى ابن عربي في حلب، يتقرَّب منه السلطان نفسه الذي قتل السهرورديَّ، في  تكفيرٍ عن جرمه، بعد أن اشتمَّ منه رائحة السهرورديِّ ونسيمه.

        وفي هذه الحقبة الزمنيَّة ستُنسج سجَّادة فكريَّة مذهلة سداها السهروردي وابن عربي، ولحمتها صدر الدين القونوي (ت:673هـ)، أهم تلامذة ابن عربي، ونصير الدين الطوسي (ت: 672هـ) ذلك السينوي الواقع في تأثير فلك السهروردي، فنراه يدحض بعض أفكار ابن سينا لصالح آراء السهرورديِّ، وقطب الدِّين الشيرازي (710هـ) أحد أهم شراح (فلسفة الإشراق). “لقد انتهى عصر إسلاميٌّ كامل فعلاً بوفاة ابن رشد، وبالمقابل وفي الزمن نفسه، ومع ابن عربي ومغربه، والسهروردي ومشرقه، كان ثمَّة شيء يولد ولا يكفُّ عن النمو”(19). وفي تأكيد على تقديرنا هذا نقرأ في موسوعة المستشرقين لعبد الرحمن بدوي (ت:2002م) الملاحظة التالية: “كان هنري كوربان يؤمن بالتحالف بين مدرستي الإشراق عند السهروردي ومدرسة ابن عربي، لذا أصدر كتاباً عنوانه: ((التخيُّل الخالق عند ابن عربي))”(20).

إدراك المصير:

        لقد أسعدنا الحظ بمعرفة السهرورديِّ والاستفادة منه، وكنَّا مدينين له بوصل الفلسفة بالتصوف بحيث لن يفترقا بعده من خلال (حكمة الإشراق) التي أشادها, وربما كان السهرورديُّ أول من ينتقل عبر الزمن، في تراثنا الإسلاميِّ، فيحاور العظماء ويجادلهم ويستنطقهم، فقد رأيناه يحاور أرسطو ويجادله، بل ويجعله يعطي آراءه بالفلاسفة المسلمين، ويقول عنهم: إنَّهم لم يبلغوا من أفلاطون حتى “ولا جزء من ألف جزء من رتبته”. أما حين يرى تشاغل السهرورديِّ باثنين من كبار الصوفية: أبي يزيد البسطامي، وسهل التستري فإنَّه يقول له: “أولئك هم الفلاسفة حقَّاً”(21)، وربما كان ابن عربي هو الوحيد الذي كان يدانيه بهذا الاستتنطاق وهذه المحاورات.

        ونحن نعلم أنَّ “الحكمة الخالدة التي حاول شيخ الإشراق وضع أسسها، أو على الأقل إعادة وضعها في حياته الزمنيَّة القصيرة، لم تصبح وجهة نظر عقليَّة سائدة في العالم الشيعيِّ، وبصورة أعم في الأقاليم الشرقية من العالم الإسلاميِّ فحسب، بل تجاوزت شواطئ العالم الإسلاميِّ لتتصل بتقاليد أخرى، وصارت من عدة وجوه عنصراً مهماً لعالم من النظر الشامل الذي شارك الإسلام فيه الأديان المجاورة، وهو عالم انكشفت فيه الوحدة المتعالية الكامنة وراء التجليات المختلفة للحقيقة“. نعم إنَّ “تأثير السهروردي لم يقتصر على العالم الإسلاميِّ فحسب، فقد نُقلت بعض آثاره إلى السنسكريتيَّة أثناء الحكم المغوليِّ في الهند، كما أنَّها نُقلت قبل ذلك إلى العبريَّة، كما دُرست آثاره بعناية الكاهن الزرادشتيِّ آذار كيوان وأتباعه الذين غادروا شيراز إلى الهند في العصر الصفويِّ”(22).

        لكنَّ الأُكرة التي لم تكتمل، تعيشُ في عزلة جوانيَّة تحاكي عزلة الأديرة، وتدفع صاحبها السهرورديَّ حين اليأس إلى أقصى حدود الجرأة التي ستخلق تطوُّرات مفجعة في المصير. ولكنَّ هذه الجرأة التي كانت من حسن حظِّ الأمة الفارسيَّة ومن حسن حظِّ الإسلام على حدٍّ سواء! كانت في الوقت نفسه من سوء حظِّ السهرورديِّ، والسببَ الذي أشاط بدمه.

        ففي شفق روحيٍّ آخذ بالتنفُّس كانت الأُمَّة الفارسيَّة على موعد واحد لتولد من جديد عنفواناً لغوياً مضمَّخاً بالتاريخ القوميِّ وقصصه وأساطيره على لسان الفردوسيِّ (ت:411هـ) في شاهنامته الخالدة، وزرادشتيَّةً تأخذ مداها الأفلاطونيِّ الهرمسيِّ الكلدانيِّ والإسلاميِّ في هيكل البناء الشامخ الشامل الذي أشاده السهرورديُّ لعلم (الوجود)، وعلم (الكون)، وعلم (النفس). وفي هذا البناء أفلتَ السهروردي الشافعيُّ من سيادة هندستيْن غمرتا العصر الوسيط: السيادة الأرسطيَّة، والسيادة السنيَّة. وبلا مبالاة، وبتقحُّم جريء اتخذ رفقة تُعدُّ خطيرة إذا ما تمَّ الجمع بينهم: أفلاطون، أمبيدوقليس، هرمس، كاي خسرو، زارادشت، محمد.

        يقول سيد حسين نصر: “إنَّ السهرورديَّ قد استخدم الرموز الزرادشتيَّة، كما استخدم آخرون كجابر بن حيَّان مثلاً الرموز الهرمسيَّة للتعبير عن تعاليمه، ولكنَّ هذا لا يدلُّ مطلقاً على أنَّ عقائده كانت مناهضة للإسلام. إنَّ شمول الإسلام هو الذي سمح له بأن يؤلف بين الكثير من العناصر المختلفة، ومكَّن الباطنيَّة الإسلاميَّة من استخدام لغة الأشكال السابقة الموروثة(23).

        وتقول كلود عدَّاس: “لقد أعدم العلماء والفقهاء السهروردي الذي كان يعلِّم مذهباً محيِّراً، يُحاذي فيه كلاً من أفلاطون وزارادشت بابن سينا وأبي يزيد البسطاميِّ وذي النون المصريِّ والحلاج”(24).

        وفعلاً كانت أخوَّة الحلاج الأشد خطراً، فكان يدعوه، كما رأينا من قبل، باسم أخيه، فيقول: أخي الحلاج!! مما يدعونا بحق للتساؤل: ألهذا المدى يستطيع الإنسان أن يدرك مصيره؟ لا بل أن يرسم مصيره؟

        إنَّ مخاطبة السهروردي للحلاج بأخي لم تكن لتدل على أخوَّة الفكر والعاطفة والرؤية والحال فقط، بقدر ما كانت تدلُّ على أخوَّة المصير. المصير الذي كان ينتظر السهرورديَّ والذي وسمه بلقبه، فغدا علماً عليه دون سواه من العالمين: (الشيخ المقتول)، ولعلَّ في هذه التسمية التي تسالم الناس عليها من دون أن نستطيع تحديد من أطلقها، من براعة الإطلاق ودقة التعبير ما يفوق وصف (الشهيد)، فإزاء وصف (المقتول) نحن أمام جريمة بلا عزاء، بخلاف وصف (الشهيد) الذي يخفف وطأة المأساة بما يحمله من عزاء وبشرى(25).

        يقول هنري كوربان عن مصير السهرورديِّ: “ولهذا يجب أن نتخذ من هذا الموت نفسه هادياً لنا في هذا التحليل، لأنه إذا كَّان صحيحاً حقاً أنَّ الإنتاج هو علَّة وجود كلِّ شخص، وجوهره وغايته، فإنَّ موت السهرورديِّ يمكن أنْ يتبدى لنا، لا على أنَّه عَرَض أو حادث، حتى لو كان أليماً أسيان، بل على أنَّه كمال فعل يلوح أنَّه أهاب به وتنبأ”(26).

        ولكنَّ الطفيليين ممن يلبسون العمائم والقفاطين جأروا أنَّه جاءهم بآبدة ما عرفوها ولا تذوَّقوها، بل نكروها ونكروا صاحبها، فصاحوا: اقتلوه. اقتلوه يخلُ لكم وجه الجمود، وتبقَ أرواحكم ونفوسكم وعقولكم وأفكاركم منعَّمة في مستنقع الخمود. أمَّا أهل البصر والبصيرة فتقبلوه بقبول حسن، ونبتت أفكاره وفهمه ورؤاه في قلوبهم وعقولهم نباتاً حسناً.

        ودعونا هنا أخيراً نورد هذا النص لمحمَّد إقبال (ت: 1938م) الذي يحمل شحنة أسى ممزوج بالغضب على القتلة المجرمين: “وبدا [السهروردي] وهو في ريعان شبابه مفكراً عديم النظير في العالم الإسلاميِّ، لقد كان أكبر المعجبين به الملك الظاهر بن السلطان صلاح الدين قد دعاه إلى حلب حيث عرض الشاب آراءه المستقلة بطريقة أثارت الغيرة الشديدة في نفوس معاصريه من علماء الكلام، هؤلاء العبيد المأجورون بتزمتهم المتعطش للدماء، والذي يعي تماماً قصوره الذاتي، ويعمل دوماً على الاحتفاظ بقوة غاشمة يرتكن إليها ويحتمي بها، قد كتبوا إلى السلطان صلاح الدين بأنَّ تعاليم الشيخ تُعدُّ خطراً على الإسلام، وأنَّه من الضروريِّ لصالح الدين أن يُقضى على الفتنة في مهدها، واقتنع السلطان، وفي سنٍّ مبكرة لا تجاوز السادسة والثلاثين تلقى المفكر الفارسيُّ برباطة جأش لطمةً جعلته شهيداً للحق، وخلَّدت اسمه إلى الأبد، والآن ذهب القتلة، ومضوا بلا أثر، لكنَّ الفلسفة التي دفع ثمنها بالدم، ما تزال حيَّة نابضة تجتذب العديد من الباحثين المخلصين عن الحقيقة”(27).

الخلاصة:

        الأُكرة التي لم تكتمل تغدو غربتها واقعاً مرفوعاً إلى أسٍّ، ولذا سيلاحظ الدارسون أنَّ بطل رسالة (الغربة الغربية) ــ والتي هي تنويع على قصة حي بن يقظان السينوية ــ هو السهروردي ذاته، وسنراه كطائر السيمورغ عشُّه ليس جبل قاف، ولكن أُكرة الشمس:

خليليَّ إنَّ الأُنس في فرقة الإنس         فكن أبداً ما عشت في حضرة القدسِ

   وتغبطك الأفلاك فيما أتيته              ويشرق نورٌ فيك من أُكرة الشمسِ

        وحقاً لقد أشرق علينا السهرورديُّ من (أُكرة الشمس)، وأنارنا بفلسفته الرائعة (حكمة الإشراق)، ولكنْ بعد أن كنَّا نظنُّ أنَّه وصل إلى غاية ما كان يمكن أن يصل إليه بتنا نعرف أيضاً أنَّ (أُكرة الإنسان) فيما لو اكتملت فيه فحظي بشيخه التلميذ، أو بتلميذه الشيخ، أو بخضره وموساه فإنّ حدوداً قصوى كانت ستنتظره تفوق ما حقَّقه، وتتجاوز ما أنجزه، وأنه كان سيغدو أكثر توهجاً وإشراقاً، وأكثر عطاءً وإبداعاً، ولكنَّ القدر كان له رأي مختلف وحكم آخر. حكمٌ قاهر بأن يبقى السهروردي لَهِفَاً عَطِشاً صادياً شادياً!

_____________________________________________________

 

الهوامش:

  1. الشهرزوري، شمس الدين: “نزهة الأرواح وروضة الأفراح“. تحقيق: عبد الكريم أبو شويرب. منشورات جمعية الدعوة الإسلامية العالمية: ليبيا، ط: 1، 1988، ص 379.
  2. كوربان، هنري: “السهروردي الحلبي (المتوفى سنة 1091) مؤسس المذهب الإشراقي“. تر: عبد الرحمن بدوي، في كتابه: “شخصيات قلقة في الإسلام“. دار النهضة العربية: القاهرة، ط:2، 1964. وهذه الدراسة كما تخبرنا آنماري شمل في كتابها “أبعاد صوفية في الإسلام” هي أول الدراسات العديدة التي خصَّ بها كوربان شيخ الإشراق. أما أعظم أعمال كوربان فيبقى كتابه: “في الإسلام الإيراني” في أربعة مجلدات، وقد خصّص المجلد الثاني منه للسهروردي المقتول، وللإشراقيين في إيران، وقد تُرجم منه إلى العربيَّة المجلد الأول فقط.
  3. ابن حزم، أبو محمد علي: “رسائل ابن حزم“. تحقيق: د. إحسان عباس، منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر: بيروت، ط:2، 1987، ص 28.
  4. المصدر نفسه. ص 93 و94.
  5. المصدر نفسه. ص 29.
  6. نقلاً عن: كوربان. انظر: “شخصيات قلقة في الإسلام“. ص 104.
  7. الشهرزوري، شمس الدين: “نزهة الأرواح وروضة الأفراح“. ص381.
  8. تدين، عطاء الله: “بحثاً عن الشمس من قونية إلى دمشق: جلال الدين الرومي وشيخه شمس تبريز“. تر: عيسى علي العاكوب، منشورات دار نينوى: دمشق، ط:1، 2015. ص 41.
  9. المصدر نفسه. ص 16.
  • المصدر نفسه. ص 31 و 36.
  • المصدر نفسه. ص 30.
  • السهروردي، شهاب الدين: “ديوان السهروردي“. صنعه وأصلحه وشرحه: د. كامل مصطفى الشيبي. منشورات مطبعة الرفاه: بغداد، 2005. وجميع الأبيات الواردة في النص لاحقاً من هذا الديوان.
  • كوربان، هنري: “الخيال الخلَّاق في تصوف ابن عربي“. تر: فريد الزاهي، منشورات مرسم. الرباط، ط: 2، بدون تاريخ.
  • يقتفي السهروردي في ذلك طريقة الأنبياء، فأمثالهم تشير إلى الحقائق، كما ورد في القرآن الكريم: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} العنكبوت: 42، وورد في الإنجيل: “أريد أن أفتح فمي بالأمثال” متى: 13،35، كما أنذر المسيح حين قال: “إنِّي أذهب إلى أبي وأبيكم، ليبعث إليكم الفارقليط الذي ينبِّئكم بالتأويل”. انظر: عبد الرحمن بدوي: “شخصيات قلقة في الإسلام“. ص 112.
  • تدين، عطاء الله “بحثاً عن الشمس“. ص 9.
  • كوربان، هنري مصدر سابق. ص 122و123
  • عدَّاس، كلود: “ابن عربي: سيرته وفكره“. تر: أحمد الصادقي، مراجعة: سعاد الحكيم. دار المدار الإسلامي: بيروت. ط:1، 2014، ص 187.
  • الخيال الخلَّاق في تصوف ابن عربي“. ص 30.
  • المصدر نفسه. ص 11.
  • بدوي، عبد الرحمن: “موسوعة المستشرقين“.دار العلم للملايين: بيروت. ط: 3، 1993، ص 484.
  • كوربان، هنري، بالتعاون مع السيد حسين نصر، وعثمان يحيى: “تاريخ الفلسفة الإسلامية“. تر: نصير مروَّة وحسن قبيسي. راجعه وقدَّم له: الإمام موسى الصدر، والأمير عارف تامر. منشورات عويدات: بيروت، ط: 2، 1998، ص 312.
  • نصر، سيد حسين: “ثلاثة حكماء مسلمين“. تر: صلاح الصاوي. راجع الترجمة ونقّحها: ماجد فخري، دار النهار، بيروت. ط: 1، 1971،ص 109.
  • ثلاثة حكماء مسلمين“. ص 106.
  • عدَّاس، كلود: مصدر سابق. ص 386.
  • أمَّا هنري كوربان فيعلِّق على تسمية السهرورديِّ (الشيخ المقتول) بما يلي: “توفي السهرورديُّ وهو في السادسة أو الثامنة والثلاثين، في الخامس من شهر رجب سنة 587 (29 يوليه سنة 1191)، وللتمييز بينه وبين من يشابهونه في الاسم أطلق عليه المؤرخون لقب (الشيخ المقتول) يرمون من ورائه ألَّا يدعوه باسم (شهيد)، ومع هذا فإنَّ تلاميذه لم يفهموا لقب (مقتول) إلَّا بمعنى شهيد. انظر: “شخصيات قلقة في الإسلام“. ص 95.
  • شخصيات قلقة في الإسلام“. ص 95.
  • إقبال، محمد: “تطور الفكر الفلسفي في إيران: إسهام في تاريخ الفلسفة الإسلاميَّة“. تر: د. حسن محمود الشافعي، ود. محمد السعيد جمال الدين. الدار الفنيَّة للنشر والتوزيع. ط:1، 1989.ص 97.

 

مقالات ذات صله

1 تعليقات

الرد على Hamdi cherif ounissa اغلق الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!