الإسلامُ سيكون روحانيًّا أو لن يكون

الإسلامُ سيكون روحانيًّا أو لن يكون
الإسلام سيكون روحانيا عاليا أو أنه لن يكون!
هاشم صالح 

تحت هذا العنوان أصدر المفكر الفرنسي المسلم إريك يونس جوفروا كتابا يستحق الاهتمام. وقد فاجأني العنوان عندما وقع بصري عليه لأول مرة وأنا أتصفح الكتب الجديدة في المكتبة القريبة من بيتي شرق باريس. قلت هذا كتاب يستحق أن يُقرأ فاشتريته فورا عساني أجد فيه إضاءات على واقعنا المظلم اليوم. من المعلوم أن الأطباء النطاسيين انكبّوا كلهم على مشكلة الإسلام لتشخيصها وعلاجها بعد أن استفحلت قضية الأصولية والتطرف منذ التفجيرات الكبرى وحتى اليوم. فالبعض قال بالحل العقلاني والتنويري والاستعانة بالفارابي وابن سينا وابن رشد وبقية فلاسفة العرب والمسلمين هذا بالإضافة إلى فلاسفة التنوير الأوروبي. وهذا هو موقف الليبراليين العرب عموما. فهذه هي الطريقة الوحيدة لمصالحة الإسلام مع الحداثة.

المستقبل الروحاني للإسلام

أما إريك جوفروا فيرى أن هناك حلا آخر يكمن في استلهام مشروع كبار متصوفة الإسلام وتنشيط الاجتهاد الروحاني من جديد وليس فقط الاجتهاد العقلاني. لم لا؟ للوهلة الأولى فاجأتني أطروحته ولم أستوعبها تماما. ثم بعد أن فكرت فيها مليا وجدت أنها لا تتعارض مع الأطروحة العقلانية التنويرية وإنما تكملها. كلتاهما تسعيان لإخراجنا من المأزق وإن عن طريقين مختلفين. وهذا ما قلته له بعد أن التقينا على فنجان قهوة في باريس مؤخرا. وبالتالي فلا مبرر لحصول أي تناقض بين الحل العقلاني لمشكلة الأصولية والحل الروحاني العميق. والدليل على ذلك هو أن إخواننا الأصوليين المتحجرين عقليا يقفون في وجه كلا الحلين ويكفّرون ليس فقط ابن رشد وإنما أيضا ابن عربي. لإخراج الإسلام إذن من محنته أو أزمته الكبرى الحالية مع نفسه ومع العالم الخارجي نحن بحاجة إلى مساعدة كبير العقلانيين العرب وكبير الروحانيين في آن معا. بمعنى آخر فإننا سنكافح بعض التراث ببعضه الآخر. الجانب المتحجر أو المتكلس منه سنواجهه بالجانب الديناميكي المضيء والمستضيء. سنتداوى منه به. وهكذا لا يعودون يتهموننا في كل مرة بالغزو الفكري أو بالانبهار بالغرب. فالعلاج وجدناه في الداخل ولم نعد نستورده من الخارج. ماذا تريدون منا أكثر من ذلك؟ هذي بضاعتنا رُدّت إلينا.

الشيء الذي يفاجئك في كتاب أستاذ التصوف الإسلامي في جامعة ستراسبورغ هو قوله بحصول ظاهرة مقلقة بعد الدخول في عصر الانحطاط والتحجر والتكلس. هذا الشيء هو: انعكاس القيم في الإسلام. فبعد أن كانت إيجابية، ديناميكية، خلاّقة للحضارات، أصبحت سلبية، تواكلية، مضادة للنزعة الإنسانية والحضارية. لقد حصل انعكاس كامل للقيم الإسلامية الأولية التي صنعت مجدنا الحضاري. فالفقه مثلا بعد أن كان علما ديناميكيا وإبداعيا بامتياز توقف وتكلس وتحول إلى قوالب شكلانية فارغة أو مفرغة من كل روح. لقد تحول إلى قوانين معيارية قسرية طغت على حياتنا وشلت طاقاتنا الإبداعية وشغلتنا بالتوافه والشكليات. والمرأة التي كانت محترمة جدا في عهد النبي المؤسس أصبحت محتقرة، مشبوهة، مغطاة من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها. والحب الذي كان مسموحا به في صدر الإسلام أصبح ممنوعا ومحرما. والقرآن الكريم الذي يقدم تصورا رائعا عن الإنسان باعتباره حرا مسؤولا ويرفعه إلى أعلى مقام حل محله تصور تشاؤمي يقول بالتواكل والاستسلام للمكتوب والمقدور. وهكذا غرقت مجتمعاتنا في التخلف والتقهقر والجهل بسبب هذه العقلية التواكلية الاستسلامية المضادة لروح القرآن وجوهر الإسلام الأولي الذي صنع المعجزات.

ويضيف الأستاذ جوفروا قائلا بأن الإسلام الأولي، أي إسلام عصور المجد والازدهار، كان كوني النزعة أو منفتحا على الكونية والعالمية ويستوعب كل الثقافات والحضارات ويعجنها عجنا ويصهرها صهرا لكي يأخذ عصارتها وأفضل ما فيها. فإذا به يتقلص ويتقوقع على نفسه وينحصر بالعرقية الضيقة والكليشيهات المتحنطة بعد الدخول في عصر الانحطاط. والإسلام الأولي كان يسمح بتعددية الآراء والأفكار والمعتقدات فإذا به اليوم يكره أي اختلاف ولو صغيرا في الرأي. وبعد أن كان الإسلام دين الحرية أصبح دين العبودية. بعد أن كان دين التسامح والاعتراف بكل الأديان التي سبقته أصبح دين التطرف وتكفير كل الأديان! وقس على ذلك.. فالقائمة طويلة. والآن ما العمل؟ ما الحل بعد أن شخصنا المرض العضال؟ يرى البروفسور جوفروا أنه ينبغي علينا أن نخرج من القراءة الحرفية الجامدة للقرآن الكريم والفقه وكل التراث الإسلامي. وينبغي علينا الخروج من تلك القائمة الطويلة من الأوامر والنواهي، أو المحظورات والممنوعات، التي تشلنا شللا أو تخنقنا خنقا. فنحن نتوهم أنها جوهر الدين في حين أنها قشوره السطحية فقط. ذلك أن جوهر الدين روحاني وأخلاقي وإنساني بالدرجة الأولى وليس قيودا وأصفادا فقهية تضبط كل شاردة وواردة من حياتنا. ثم يتساءل المؤلف محتجا: أين هو الجوهر الروحاني العظيم لرسالة محمد؟ وهل يمكن أن نتواصل معها من جديد إن لم نخرج من إمبريالية الفقه والفتاوى السطحية والحشو وحشو الحشو والتراكمات؟ لقد آن الأوان للخروج من السلفية الانغلاقية والأصولية الشكلانية الفارغة. لقد آن الأوان للعودة إلى جوهر الإسلام المطموس منذ قرون وقرون. هذا غيض من فيض من أطروحات هذا الكتاب المدهش الذي قد تتفق معه كليا أو جزئيا، ولكن لا يمكن أن تنكر أنه يحرك المياه الراكدة ويطرح بعض الأسئلة الجوهرية التي لم تعد تحتمل التأجيل.

(الشرق الأوسط)

***

مقتطفات من الكتاب ترجمة هاشم صالح 

نشرة المركز القومي للترجمة ، ونبض للنشر والتوزيع

والآن في عصرنا الحالي ماذا حدث لكل ذلك؟ هل تغيرت الأمور؟ هل خرجنا من عصر الانحطاط؟ في مواجهة الانطلاقة الصاعقة والبراقة للعولمة والتحديات الحاسمة لما بعد الحداثة يبدو أن الإصلاح الإسلامي كما كان قد مُورس بنجاحات وإخفاقات متفاوتة منذ أكثر من قرن، أصبح عاجزا عن تقديم حل لأزمة الثقافة الإسلامية. ما ينبغي فعله لإيجاد هذا الحل، ما نحتاج إليه فعلا هو ثورة في المعنى. هذه الثورة تتطلب التحول عن الماضي و”اعتناق” فكر جديد: تماما كما يحدث عندما يتحول المرء عن دينه كي يعتنق دينا آخر. هذا “الاعتناق” يجبرنا على تجديد نظرتنا، وإعادة الاعتبار لبحثنا عن العلامات والإشارات (أو الآيات كما يقول القرآن). هذه العلامات والآيات تتجه نحو المعنى الأساسي للوحي والمشروع الإلهي الذي يكمن داخله ضمنيا. في الواقع أن هذا الأمر مطلوب منا كل يوم، وممارسة الذكر، أي التذكر والتضرع لله ليس له هدف آخر. فالهدف بالنسبة للإنسان هو أن يعود إلى أصله عن طريق دفعه لأن يدرك دائما بشكل أفضل معنى خلق الكون وخلقه هو أيضا. والآن نطرح هذا السؤال: كشيء مضاد للأصولية الحرفية الشكلانية المسيطرة حاليا هل نستطيع أن نتحدث عن أصولية روحانية أو بالاحرى نزعة تأسيسية روحانية مضادة؟

****

وهذه الغزارة المعنوية التي تميز بها القرآن منذ البداية والتي تجلت على هيئة تعددية التجارب في علم الكلام، والتصوف، والفقه، والفلسفة، إلخ… خشيت عليها طبقة رجال الدين الوليدة من أن تنحل وتذوب في متاهات المذاهب والفرق. الرسالة القرآنية كانت في طور الانتشار بسرعة خاطفة ومذهلة في الأقاليم والأصقاع الأكثر بعدا، داخل الثقافات والمجتمعات ذات الخلفيات الدينية المتنوعة جدا والسابقة على الإسلام. وبالتالي فقد لزم عليهم آنذاك، أي على الفقهاء، أن ينظموا شؤون هذه التعددية المتنوعة ويتحكموا بها كي ينبثق أخيرا معيار موحد لها ندعوه بالأرثوذكسية النظرية أو الأرثوذكسية العملية. كان ينبغي أن ينبثق هذا المعيار الأرثوذكسي الجامع كي يتغلب على التيارات الانشقاقية أو الفرق المعارضة والخارجة على هذا المعيار بالذات. ولكن كان من الواضح أن هذه العملية التطبيعية المعيارية التي تضمن الأمان والطمأنينة الاعتقادية للمؤمنين والتي هي مفهومة في الواقع ولها مبرراتها، أقول كان واضحا أنها لا يمكن أن تحدث دون إطفاء النور النبوي الأولي. ما كان بالإمكان أن تحدث دون إغلاق ما كان الوحي قد فتحه أو دشنه نورا وهاجا في سماء الجزيرة العربية. ما كان بالإمكان أن تحدث دون إقامة تسوية ما مع العقليات العتيقة التي تنتمي إلى فترة ما قبل الإسلام.

 

إن أشكال قلب معنى القيم الأولية في الإسلام سوف تتجلى للقارئ على مدار هذا الكتاب، ولكني سأقدم عنها هنا صورة مختصرة وبالطبع غير كاملة. الأطروحة الأولى التي سأقدمها تخص القيمة النموذجية الإيجابية العليا التي بلورها الإسلام، والأطروحة الثانية تكشف عن كيف تم قلبها أو عكسها بالمعنى الذي يحدده رينيه غينون لهذه الكلمة، أو قد تكشف عن كيفية انحرافها في عالم الحلول الأرضي والتجسيد العملي داخل معاش المجتمعات الإسلامية. وبين هاتين الأطروحتين هناك أحيانا تناقض، وأحيانا تزوير أو تزييف. أثناء قيامى بعملية الجرد هذه لا أريد إطلاقا الاستسلام لنوع من النخبوية السهلة، أو أن أسيء إلى الممارسات العريقة والقديمة جدا للمؤمنين المسلمين، ولا أهدف إلى تشويه سمعتهم على الإطلاق، وإنما أحاول فقط أن أفهم الآليات التي أدت إلى تكلس الفكر وتحجره في العالم الإسلامي، وذلك قبل أن أقترح العلاج المناسب لفترتنا الحالية.

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!