حتى تستجيبَ الزوايا للحاجةِ الراهنةِ إلى التصوف

حتى تستجيبَ الزوايا للحاجةِ الراهنةِ إلى التصوف

إشراقات(12)

 

 

حتى تستجيبَ الزواياَ للحاجةِ الراهنةِ إلى التصوف..

محمد التهامي الحراق

 

إننا في أمس الحاجة إلى التصوف بما هو منجم منهاج وقيم قابلين للاستثمار في تشكيل رؤية قيمية وأخلاقية وروحية منيعة ضد مختلف أشكال الزيغ والانحراف الأخلاقيين اللذين يعرفهما العالم المعاصر، سواء تلك المتصلة بالانفجار الإعلامي والمعلوماتي غير المُرشَّد، أو بالتطورات الهائلة في الفتوحات العلمية المفصولة عن الضوابط الأخلاقية، أو بالصراعات المرعبة بين الاتجاهات الدينية والعرقية والطائفية المنغلقة؛ أو بحلول النشاط الافتراضي بمغامراته وأحيانا بعبثيته محل الحرية المسؤولة؛ فضلا عن مخاطر “قيم السوق” التي تنشرها وتفرضها “عولمة الهيمنة”؛ أي قيم تأليه الربح وتشييء الإنسان وتبضيعه واعتناق النسبية المطلقة المفضية للعدمية، وإطلاق العنان للنزوات الجسدية الجنسية والاقتصادية التوسعية والاستغلالية السياسية تحت مسميات شتى…نحتاج إلى التصوف، بما هو معرفة ذوقية وجمالية روحية ومنظومة قيمية، وبما يفتحه من أفق كوني في الثقافات والأديان، وكذا بتمحوره حول فهم الإنسان والسمو به وتفجير طاقاته اللامادية الكامنة فيه، وربطه بالتعالي رؤية وممارسة ومصيرا….إلخ؛ نحتاج إلى التصوف من حيث هو كذلك ذخيرة كونية نفيسة للقراءة وإعادة الاستثمار والتفعيل من أجل استعادة توازن ضروري يفقده الإنسان يوما بعد يوم، ومن أجل تدارك رهان روحي يخسره الإنسان لحظة بعد لحظة. 

هذا هو “الأمن الروحي” الذي بإمكان التصوف أن يسهم فيه، بشرط حسن الفهم وإبداعية القراءة والقدرة على تحيين أفق التجربة.

نعم إن الواقع الذي يعاني منه التصوف اليوم، و الذي رصدنا بعض آفاتِه سابقا (راجع مقالنا: “من أجل تجديد عمل الزوايا: نحو رؤية استشرافية” على موقع “إسلام مغربي”) يحول عائقا ضد هذا الأفق الكوني الرحب، لكن العمل من أجل إحياء الزوايا وإصلاح شأنها من خلال إعادة الاعتبار لدورها في العلم والتربية، هو الكفيل بالمساعدة على ما نذهب إليه. وهذه مقترحات في هذا السبيل:

1- نقترح تشكيلَ “لجنة حكماء” من مختلف الطرقِ والزوايا لعلاج القضايا المطروحة على الواقع الصوفي الراهن، مع اشتراط النسبةِ والنزاهةِ والكفاءةِ الخُلقية والعِلمية في أعضائها، ومنحها صلاحية رمزية عليا في المجال الصوفي انطلاقا من “ميثاق” متوافَق عليه بين أهل النسبة، وذلك لفض مختلف النزاعات الناشبة حول “المشيخة” أو “النقابة” أو “المقدمية” في عدة أسر وزوايا صوفية، وهو ما من شأنه أن يسعف في دفع آفة “الحظوظية”؛

2- ضرورة أن توكل لهذه اللجنة مهمةُ مراجعة ومراقبة كثير من “المواسم” لترشيدها شرعيا وروحيا، ومساعدتها على تجاوز آفتي “الفولكلورية” والطقوسية”؛ وهنا لزم أن ننوه بالمجهود الذي قامت بع وزارة الأوقاف بتنسيق مع “جمعية الحوز” في ما يتعلق بموسم “طير الجبال مولاي إبراهيم”؛ إذ تم تحويله من موسم تسوده الخرافة والبدع إلى موسم روحي ثقافي، يجمع بين التكوين والترويح، بين المحاضرات ومجالس الإنشاد الديني الرشيد، دون التفريط في بعده الاقتصادي الهام بالنسبة للمنطقة؛

3- العمل على جعل مختلف أشكال الدعم، القانونية والرمزية والمادية، المقدمة للزوايا مشروطة بـ”إصلاح البيت الداخلي” وبـ “العمل العلمي والتربوي”؛ سواء من خلال إحياء الزوايا باعتبارها مؤسساتٍ علميةً تلقن العلوم اللغوية والشرعية والروحية، أو بوصفها مراكز كبرى لمحاربة الأمية اللغوية والدينية والأخلاقية، أو باعتبارها مراكز تربوية اجتماعية لإصلاح ذات البين والإنصات لهموم الأفراد والمجتمع من زاوية روحية ترشيدية، وهو ما يقتضي صياغة رؤية عملية وهيكلية مبتكرة تجدد حياة الزوايا من حيث الوظائف وتحافظ على خصوصيتها من حيث الطبيعة، وهي رؤية يبقى لزاما أن يضطلع الراشدون والملهمون من أهل الزوايا في صوغها والإشراف على تنفيذها؛

4- العمل على تقوية الأدوار العلمية للزوايا بعقد شركات مع المجالس العلمية  والجامعات ومراكز البحوث ومختلف المعاهد الدينية والفكرية التي تتقاطع معها نفس الأهداف والتطلعات، هذا فضلا عن العمل على إنشاء دورية صوفيةٍ محكمة تستأنفوتعمِّقُ المجهود المحمود الذي بُذل من لدن مجلات سبقت إلى تدشينِ هذا الأفق مثل “المريد” و”عوارف” و”قوت القلوب”..، وتنشر مختلف الدراسات والمقاربات والأبحاث التعريفية والترشيدية والتجديدية للشأن الروحي بالمغرب؛

5- العملُ على تقوية وتصحيح الحضور الصوفي في الإعلام، وذلك من خلال إنشاء مواقع إلكترونية وازنة ومحكمة، واتخاذ مواقع استشارية في مختلف القنوات الإذاعية والتلفزية الوطنية، وذلك لتنخيل وغربلة ما يُعرض باسم التصوف من برامج وأفكار وفنون؛

6- التفكيرُ في إدخال النصوص الصوفية إلى البرامج التعليمية للتعريف التمهيدي بمعجم علم التصوف وأعلامه ومدارسه وتاريخه وخصائص متونه ومنهجه، وكذا بأدوار الزوايا التاريخية والاجتماعية والعلمية والجهادية وما تمثله من قيم رفيعة ومثل أخلاقية سامية، والعمل على استثمار آفاق تلك النصوص في الدرس الديني والفلسفي والفني، مع التركيز على الأبعاد الحضارية والكونية التي يفتحها هذا الإرث الروحي والعلمي والسلوكي في لحظتنا المعاصرة.

من شأن العمل بهذه المقترحاتِ- والتي بدأت تجدُ بعضَ الاهتمامِ بها في بعض المبادراتِ الغيورةِ كما هو شأنُ “رابطة مجمعِ الصلاح” التي تشكلت في السنتين الأخيرتين بالمغرب- أن تُسهم في تجاوزِ الآفاتِ التي تعتري  الحضورَ الصوفي الراهن في المغرب.كما أن من شأن التركيز على العلم والتربية مع تجديد الطرائق والصيغ أن يفتح للتصوف آفاقا أخرى لتجديد الوظائف ذات المنجَز المحلي والأبعاد الحضارية الوجودية والكونية. الأمر الذي يتطلب ثورةً على الذوات ومحوا للأنوات وتخلقا بروح الإحسان باعتبارهِ أرقى مراتب الإسلام.

 تلك هي في نظرنا للخطوات الأولى لترشيد مسار الحضور الصوفي الراهن بالمغرب على المستوى التأطيري والعملي، أما عرفانيا فما أحوجَنا اليومَ إلى صوفيةٍ مربين أبناءِ وقتهم قادرينَ على تطهير البواطن في زمن الفواتن…تلك ضفةٌ لا مقترحات ولا رهان لنا فيها؛و إن كانت تتعلقُبها، في الأفقِ القصيِّ، كلُّ المقترحاتِ والرهانات.

 

مقالات ذات صله

1 تعليقات

  1. حمزة الحساني بنطنيش

    الحمد لله حمدا كثيرا مباركا فيه، ان وفقني لقراءة مقال من هذا الوزن .. ابصم بالعشرة على رأي سيدي الكاتب الباحث المحترم .. وكان موفقا ثبتنا الله واياه .. صراحة هذا هو ما يفتقر اليه الواقع اليوم، في ظل تقاعس كثير من رواد المجال…
    شكر كبير وامتنان مني لإدارة الموقع، وللسادة الباحثين

    الرد

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!