موقع الذات في الخطاب الصوفي

موقع الذات في الخطاب الصوفي

 

 

موقع الذات في الخطاب الصوفي

 

صابر سويسي

كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان

وحدة البحث “حوار الثّقافات”

 

 

مقدمة:

يعدّ البحث في الخطاب الصوفي واستراتيجيات الكتابة فيه، عملا مضنيا وشاقا لاعتماده منظومة اصطلاحية مخصوصة وتنوع روافده الدينية والأسطورية، وتلبّس العبارة فيه بالإشارة والرمز، ولكنّ تتبّع الذّات المنتجة له يكفل الظفر بنتائج مهمّة لأنّ الصوفية يؤمنون بالطابع الفردي في تجربتهم ومن ثم يوكلون للذّات مطلق التصرّف في الخطاب واشتقاق العبارات والاصطلاحات التي بها يحمون أسرارهم ويفصحون عن أحوالهم.

وقد وضعوا لهذا الغرض ضابطا أو عقدا لا يستقيم فهم خطابهم إلا بموجبه وهو خوض التجربة وعدم الوقوف على عتبة الألفاظ، يقول الهجويري: “إذا حصل المعنى لا يفقد بالعبارة، وإذا فقد المعنى لا يوجد بالعبارة لأنّ الوهم يظهر فيها”[1]… وهذا يؤكد مركزية حضور الذات في الخطاب الصوفي سواءً لحظة إنشائه أو عند تقبله. فالمنشئ ينبغي له أن ينقل ما عاش من أحداث وأحوال والمتقبل عليه أن يستدعي هذه الأحداث والأحوال ويحيّنها أو يخوضها ليدرك كنه الخطاب وأسراره فبدونها تبقى العبارات مبهمة والدلالات قصية مستعصية.

ولا يتوقف هذا الفهم عندهم على ما يصدر عنهم من مقالات، شفوية كانت أو مكتوبة، إنّما يطال جميع أشكال الخطاب، والأمثلة على ذلك كثيرة لعلّ أبرزها يتمثل في كيفيّة التّفاعل مع الخطاب القرآني إذ يحرص الصوفية على ضرورة تلقّيه من مصدره الأوّل أي من الله[2] لأنّه في عرفهم تلبّس بناقليه (الملك جبريل والنبي محمد..) وتأثر بفهمهم ومحيطهم ولم يصل على صفته الأولى، لذا من رام الكمال في فهم القرآن وإدراك حقيقة معانيه ومقاصده عليه أن يفارق بشريته ويرقى بروحه ليسمعه من مصدره مباشرة ويتلقّى أسراره. ويفضي بنا هذا إلى القول بتوحّد الذوات إنتاجا وتلقّيا ومن ثمّ توحّد المعاني.

ومتى سلّمنا بحقيقة هذا الطرح انتظرنا أن يكون نتاج شرح الصوفية للقرآن واحدا، ولكنّ حصيلة التّفاسير الصوفيّة المتوفّرة لدينا تؤكّد خلاف ذلك، بل تقيم الحجة على مدى تفاعل الذات مع محيطها الثقافي والعقائدي والسياسي والنفسي.. وتأثّر خطابها به لتباين ما تقدمه من شروح للآية الواحدة. كما يسلمنا هذا إلى الإقرار بعجز اللغة عن احتواء مقاصد الصوفية ومعانيهم لمفارقتها مألوف الناس ومواضعاتهم، وتحرّرها من مقوّمات المنطق والعقل، يقول النّفّري : “لا تأخذ خبري عن الحرف ..الحرف يعجز أن يخبر عن نفسه فكيف يخبر عنّي”[3]. ويقول أيضا: “كلّما اتّسعت الرّؤية ضاقت العبارة”[4]. فلغة الصوفية وإن ولدت في رحم اللغة الأصلية واغترفت من معينها فإنّها عملت على تجاوزها وإكساب عباراتها دلالات جديدة تشتق من فضاء التجربة ومن المتصوف ذاته.

هذا فيما يخص الخطاب المتصل بخوض التجربة وسلوك أصحابها. أمّا التقنين والانتصار للتصوف فالقرائن فيه كثيرة على مدى حضور الذات وتوجيهها للخطاب، منها ما يتعلق بانتقاء الشواهد من النصوص المقدسة ومن أقوال المشايخ، ومنها تنظيم المواد المدرجة في فصول الكتب وأبوابها.. وجميعها يفضح مقاصد المؤلف وخططه لإيقاع فهم مخصوص أو الإقناع بوجهة نظر محددة.. مما يؤكد حجم تدخل الذات تصريحا وتلميحا حسب مقتضيات الحال والعصر.

وقد ارتأينا الاشتغال على هذا الموضوع انطلاقا من عرض عدد من اصطلاحات الصوفية ومقارنتها للوقوف على حجم الاختلافات بينها والبحث في أسبابها والسياقات التي أنتجتها لتأكيد أهمية حضور الذات في الخطاب الصوفي ومدى تعبيرها عن مشاغلها الوجودية والعقائدية والنفسية والاجتماعية والسياسية..

  1. مفهوم الذات في الفكر الصوفي:

تتجاذب مفهوم الذات في كتابات الصوفية ثنائيتا الوجود والعدم والحقيقة والمجاز، لأنّهم يحتكمون في مفاهيمهم واصطلاحاتهم إلى ما تفرزه تجربتهم من مقامات وأحوال، ولا يتقيدون بما ألفه الناس من تعابير ومواضعات. وهم يؤكّدون أنّ الصوفي يعمل على نفي ذاته وإقصائها شرطا من شروط اكتمال فعل التوحيد حيث يمحى السوى وتبقى الذات الإلاهية، وما التصوف إلاّ سعي دؤوب لإثبات هذه المقولة وتأكيدها، إذ يتجاوز العبد كل ما يعرض له من حجب وأوّلها نفسه ضمن ما يصطلح عليه بالفناء والفناء عن الفناء، ليعلق بالحضرة الإلاهية ويخضع لمطلق تصرفها وبهذا يتلاشى وجوده وتمّحي ذاته، فيسند جميع ما يصدر عنه إلى ربه ويكون مثل الريشة في مهبّ الريح لا تصرّف له ولا إرادة، يقول الخرّاز: “وليس لأحد أن يقول: أنا إلاّ الله عزّ وجلّ لسبق الكرم والإحسان”[5]، وهو ما قصده الجنيد في حديثه عن مرتبة “الشبحية”[6].

وينبثق من ثمة مفهوم جديد للباث وللخطاب: فلم يعد الباثُّ العبدَ بهويته الواقعية المألوفة وسياقاتها المعروفة، إنّما أضحى من صنف ثان ومن عالم مفارق لازمان فيه ولا مكان، واستعصى بذلك حصر دلالات ما يصدر عنه من عبارات وإشارات لكونها مشروطة بمعايشة الحال نفسها وبلوغ الدرجة ذاتها، يقول السراج: “هل يجوز لنا أن نحكم عليه فيما يبلغنا عنه إلاّ بعد أن يكون لنا حال مثل حاله ووقت مثل وقته ووجد مثل وجده؟”[7]، وههنا تكون المواقف والشطحات كما ورد عند النّفّري والبسطامي والحلاج..، فمن يتأمّل في خطابات هؤلاء وينظر في شروح الصوفية لها سيجد لديهم كبير حرج وتردّد في فهمها وتأويلها وتبريرها وفهم ما غمض منها. وهو ما يفسّر اختلاف ردود الفعل إزاءها بين معترض ومكفر ومستحسن مدافع ومتوقف عن الكلام عليها انطلاقا من اعترافه بعلو مقامات أصحابها وقصر هامته عن إدراكها.

وقد ترسّخ هذا الاعتقاد في كتابات الصوفية، وأضحى ركنا ثابتا ومسلّمة لا تقبل التشكيك، مما حدا بابن عربي إلى إعلان نسبة كتب بأكملها إلى مصادر مفارقة مثل فعله مع كتاب فصوص الحكم عندما نسبه إلى الرسول عبر فعل الرؤيا إذ يقول: “أمّا بعد فإنّي رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مبشّرة أريتها في العشر الأخير من محرم سنة سبع وعشرين وستمائة بمحروسة دمشق، وبيده صلّى الله عليه وسلّم كتاب، فقال لي: هذا كتاب فصوص الحكم خذه واخرج به إلى الناس ينتفعون به، فقلت: السمع والطاعة لله ولرسوله وأولي الأمر منّا كما أمرنا، فحقّقت الأمنية وأخلصت النية.. ولست بنبي رسول ولكنّي وارث ولآخرتي حارث”[8].. وكما تردد في كثير من الكتابات الصوفية الأخرى بتبرير ما يصدر من أقوال أو عبارات غامضة وملتبسة بإسنادها إلى الله، يقول الخرّاز: “فهو من الله وبالله وإلى الله ومع الله، ذهبت نسبته وذهب حسّه.. فالعبد ولسانه لله”[9].

ويرقى من ثم الخطاب الصوفي إلى درجة الوحي وتصبح الذات البشرية أو ذات الصوفي مجرد قناة يمرّر عبرها الكلام الإلاهي. وبهذه الطريقة يتفصّى الصوفية من تبعات ما يصدر عنهم فلا يتحملون مسؤوليتها، بل يحتمون بهذا الحصن ليرموا من اعترض عليهم بالقصور ويلقوا باللائمة عليه. وفي المقابل يقدمون لأنفسهم شهادة ضمنية بالتميّز والتفرّد والاختصاص بالقرب الإلاهي، فتغييب الذات ههنا والتقنّع بباث مغاير يتحكّم في إنشاء الخطاب ليس إلاّ خطّة فيه (أي في الخطاب) يستدعيها الصوفي علامة على التوفيق الرّبّاني، وكثافة حضور هذا الأسلوب يدلّ على رغبة الصوفية في انتزاع الاعتراف بعلوّ مقام شيوخهم وسموّ تجربتهم. فإذا كانت الذات عندهم غير مستقلة ولا محايدة في تلقي النص القرآني وبثّه، وإنّما هي متأثّرة بهويّتها ومقامها ولغتها، فالأولى أن تكون مثل هذه الخطابات أكثر تلبّسا بذوات منشئيها والتصاقا بعصورهم وواقعهم.

ويبدو أنّ الإجابة على هذا الإشكال حاضرة في كتابات الصوفية، فهم يبرّرون اختلاف العبارات وتفاسيرها، سواء في ما ينقلون عن مصادر مفارقة أو في ما يشرحون من آيات قرآنية، باختلاف الأزمنة وتفاوت درجات تقبّل المتلقين، فلا يسمح في عرفهم بالإفصاح عمّا تعجز الأسماع والعقول عن إدراكه وفهمه، وهم يقيسون موقفهم هذا على تجربة النبوّة ضمن تصورهم للحقيقة المحمدية ومنها قولهم بوراثة مقامات الأنبياء، فكما أنّ المعرفة الإلاهية تدرّجت في النزول من نبي إلى آخر واحترمت طاقة تقبّل كل جيل وعصر ولم تكتمل إلاّ مع النبي محمد، فكذلك عبارات الأولياء وتفاسيرهم أو ما يسمح لهم بالكشف عنه من معارف وعلوم يرتهن بدرجتهم وحاجة عصرهم وقدرته على استيعابه. ولهذا كان الرمز والإشارة لغة خاصة بهم لا يخاطبون بها غيرهم ممّن باينهم في الطريق واختلف عنهم في المذهب.

وهذا يعني أنّ الصورة المفارقة للذات لا تلغي حضور الصورة الواقعية للصوفي في علاقته بلغة عصره وثقافته وتصوراته وانفعالاته ومواقفه.. فمن خطابات الصوفية ما يرد في سياقات مألوفة مرتبطة بأحداث وأزمنة معروفة، تحضر فيها ذواتهم المألوفة معبرة عن هواجس وقيم وعقائد مخصوصة، ومنها ما يكون في مقام تعليم ونصح أو دعاء أو قصّ أو إجابة عن أسئلة مطروحة.. وفي كلتا الصورتين لا تغيب ذات الصوفي، فهي التي نتلقى عبرها الخطاب ومهما اتخذت من الوجه الأول قناعا فإنّها متى سلكت طريق التصريح أو التلميح ونحت منحى التواصل إشارة أو رمزا، فإنّها انخرطت في أشكال التخاطب المألوفة ولا تستطيع بأي حال من الأحوال العدول عن القواعد التي اعتاد العرب تصريف عباراتهم ومقالاتهم وفقها، لأنّ الفعل اللغوي مشروط بالمواضعة فهو من وضع الجماعة وليس وقفا على الفرد. يقول وليم راي: “لاتتحقق الكتابة إلاّ لأنّها تحمل في داخلها إمكانية القراءة”[10]. وهذا ما يلزم الصوفي بمراعاة أفق تقبل عصره في مختلف ما يصدر عنه من خطابات.

 

  1. تنوع أشكال الخطاب في التجربة الصوفية:

يفرز مفهوم الذات أشكالا عدة للخطاب تختلف حسب هويّة المتكلم ومقاصده ولكنها جميعا تمر عبر الصوفي الباث الصريح والظاهر لها ونذكر من هذه الأشكال:

  • خطاب الصوفي للصوفي وتغلب عليه الإشارات والرمز يقول القشيري: “وهم يستعملون ألفاظا فيما بينهم، قصدوا بها الكشف عن معانيهم لأنفسهم، والستر على من باينهم في طريقتهم، لتكون معاني ألفاظهم مستبهمة على الأجانب، غيرة منهم على أسرارهم أن تشيع في غير أهلها”[11]. وهو خطاب تحكمه اصطلاحات مخصوصة متى عرضناها على محك المقارنة والنقد تبين اختلافها من صوفي إلى آخر لاختلاف المقام والحال، وهي من ثمّ في حاجة إلى التأويل والنظر لا بإعمال العقل في تركيب الألفاظ وسياقاتها ودلالاتها المعجمية وفق المعايير والأساليب المألوفة، إنّما في ارتباطها بواقع التجربة الروحية كما عاشها صاحبها واعتقد فيها. يقول الروذباري: “علمنا هذا إشارة فإن كان عبارة خفي”[12]. وهذا يعني خضوع الخطاب لمراتب المتخاطبين، فالفهم والتواصل يقتضي تكافؤ الأحوال والمقامات، ومن هنا يكون خطاب المشايخ مغايرا لخطاب المريدين، لهذا يشترط الصّوفيّة طاعة المريد العمياء لأستاذه في قولهم: ” من قال لشيخه لم لا يفلح أبدا”[13]، فالشّيخ أكثر خبرة ودراية بمزالق الطريق وما قد يعرض فيه لسالكه وهو العالم بخفايا النّفوس وعللها وسبل معالجتها لتثبت في المقامات وتترقى في الأحوال ويكون من ثمّ خطابه حاملا لسلطة تستوجب تقبّل المريد لها واستجابته لمتطلّباتها فالمقام تعليميّ وتوجيهيّ ووعظيّ تحضر فيه صيغ الأمر والنّهي بكثافة.
  • خطاب الصوفي لغير الصوفية ونعني العامة والعلماء ورجال السياسة.. وتتّخذ اللغة في هذا السياق سبيل التصريح والوضوح في حدود مخصوصة، فهي قابلة للفهم المباشر ولا تحتاج إلى كبير عناء وبحث أو تأويل، ويتجلى هذا الصنف من المخاطبات في المناظرات التي تجمع الصوفية بغيرهم ممّن اعترض على مذهبهم أو قصدهم طلبا لمعرفة أو مشورة من فقهاء ومفسرين.. كما نجده أيضا في عدد من أخبارهم التي تحكي طرق عيشهم وتفاعلهم مع بيئتهم ومحيطهم.
  • خطاب الصوفي الصادر عن عوامل أو تدخلات متعالية كأن يذكر نقله عن الله أو الرسول.. وهو يرفض الاعتراض على مضامينه ويعتقد في ضرورة التسليم والتصديق معلنا خضوعه التام لسلطان المنقول عنه وأمانته في النقل، فلا يحق له التصرف فيه أو التغافل عنه، وهو صنفان: سرّ يستوجب الكتمان، ورسالة تستدعي التبليغ والإعلام. ويحرص الصوفية في الصنف الأول على ضرورة عدم إفشائه إلاّ لمن يعتبرونه مؤهلا لتقبله ويستخدمون في ذلك أسلوب التلميح والإشارة ممّا يعتقدون انفرادهم بفهمه ويخشون سوء توظيفه. يقول السّرّاج الطّوسي: “الحكمة ربما تجري ويحضرها من لا يقف على معانيها، ولا يلحق فهمه مقاصد المتكلم بها فعند ذلك تجري على الألسنة بضدّ معناها”[14]. أمّا الصنف الثاني فيجهرون به في شكل نصيحة أو موعظة أو توجيه وكثيرا ما ترد صيغته مطلقة حاملة لنفس حكمي[15] أو تستخدم فيه أفعال الأمر[16] أو النهي لأنّ الباث يعتقد في إلزاميّة التقيّد بما يرد في هذا النوع من الخطاب إلى درجة تقرّبه من الوحي والنبوة.

ولعلّنا ههنا نقف على ميزة من مميزات الخطاب الصوفي وهي انطلاق صاحبه من موقع العارف، مالك الحقيقة، لأنّه بهذا يبدو صاحب سلطة يسعى إلى تأسيس وعي جديد بالوجود وإقامة صلة مخصوصة بالله عبر تعميق النظر في معاني العقيدة واستبطان ظواهر الشريعة، فلا يخلو كلامه من صبغة تعليمية وتربوية، ولا تغيب عنه النزعة الاستعلائية سواء في محاولة خلق لغة تواصل جديدة تعدل عن المقاييس المألوفة وتكسب الألفاظ دلالات جديدة، أو في اعتبار ذاته خاصة الخاصة وإعلانه عن مراتب في القرب من الله ينفرد بها، مثل الولاية والقطابة.. يقول القشيري: “لقد جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه، وفضّلهم على كافة عباده، بعد رسله وأنبيائه.. واختصّهم من بين الأمّة بطوالع أنواره”[17].

كما نلمس في خطاب الصوفية ضمنيا استعدادا مسبقا للجدل والمناظرة مع السلطة الدينية المهيمنة ممثلة في الفقهاء والمتكلمين والمفسرين.. لأنّهم لم يخفوا اعتراضهم على هذه السلطة[18] ولم يتوانوا في كشف تناقضاتها واتهامها بالقصور والعجز في أكثر من موضع جمعهم بممثليها في مناظراتهم ومحنهم التي أخضعوا فيها لاختبارات تقيّم اعتقاداتهم وتهدّد مصيرهم لتدخّل أطراف سياسية فيها[19].

هذا من جهة خطاب المتصوّف ذاته أو ما يصدر عنه، ولكنّنا إذا تناولنا الجهة المقابلة أي تلك التي منها يتلقى نصوصه وإشاراته وعقائده فإنّ المسألة تختلف. إذ يصبح الخطاب وسيلة ضرورية للعملية التعبدية وأداة أساسية لإنجاحها فلابد للسالك أو المريد من شيخ يأخذ بيده ويرشده إلى تعاليم التجربة ويوجّهه في اختيار ورده والترقي في المقامات والأحوال. وفي هذا السياق كثيرا ما يعترضنا إلحاح الصوفية على ضرورة التقيّد بالكتاب والسنة والالتزام بأقوال المشايخ. وإن كان هذا مشروطا بما يقدّمونه هم أنفسهم من فهم لهذه النصوص منطلقهم في ذلك ما أدركوه من مكاشفات وحكم إلاهية، فلا يعدو هذا الإلحاح أن يكون مناورة لتثبيت صورة تستجيب لانتظار عصر اتّهم فيه الصوفية بالعدول عن الأصول.

ويقيم هذا دليلا على الطابع الانتقائي الذي يتفاعل بموجبه الصوفي مع الخطاب، فهو من يتحكم في شكله تصريحا وتلميحا أو حتى صمتا، وهو من يتخيّر عناصره وفق ما يستجيب لغرضه أو مقصده، وهو أيضا من يمتلك دلالاته وزمام توظيفها لأنّ المسألة تفارق ههنا الواقع لتلتصق بالمقدّس والمتعالي في رسم معالم الذات المخاطِبة والمخاطَبة في آن.

  • تجليات الذات في الخطاب الصوفي:

نرصد حضور الذات في الخطاب الصوفي في مستويات عدة أساسها المقارنة بين وضعيات مختلفة نضع خلالها نصوصا للصوفي ذاته في موضوع موحّد أو لصوفيّة مختلفين وفي أزمنة متقاربة ومتباعدة وننطلق في ذلك من حدّهم للتصوف ذاته:

فالتصوّف يحظى بتعريفات شتّى نظر فيها نيكلسون وعلّق عليها بقوله: “إنّ كلّ انتساب إلى الصّوف يقابله اثنا عشر تعريفا تعتمد على الصّفاء”[20]. وهذا يعني رغبة أصحابه في تركيز نعت الصفاء في مذهبهم، وهو مضمون قول أحمد بن محمد الروذباري في تعريفه للتصوف: “صفوة القرب بعد كدورة البعد”[21] وكذلك قول عسكر النخشبي : “الصوفي لا يكدّره شيء ويصفو به كل شيء”[22]. وتتجاوز هذه الملاحظة أقوال الصوفية لتشمل المنظرين لتجربتهم أمثال أبي القاسم القشيري والكلاباذي فكلاهما انطلق من الحديث عن الصفاء في مفتتح الفصل الذي خصّه لهذا المفهوم ثمّ اعترف أنّ الاشتقاق اللغوي لا يسند نسبة التصوف إلى الصفاء[23] في محاولة للإيهام بالحياد والموضوعية. ولكن لم يكن هذا النهج في الكتابة بريئا أو اعتباطيا إنّما هو مرتبط أيّما ارتباط بسياق تاريخي أشار إليه المؤلفان وتمثّل في الانتقادات الموجهة للمتصوفة نتيجة انضمام صنف من المتطفّلين والدخلاء عليه ممّا ألبس عقائده وعدل بها عن الأصول. وهو ما دعا المنتصرين له إلى الذود عنه بتوضيح مفاهيمه ومبادئه وتوثيق صلته بالكتاب والسنة، ومثل هذا الربط للتصوف بالصفاء، وإن سياقيّا، يكشف تدخّل ذات المصنّف وسعيها إلى توجيه المعنى وجهة أخلاقية وروحية تنأى به عن الرسوم والأشكال الظاهرة التي يعمل الصوفية على تجاوزها والتخلّص منها. ويتعارض هذا التعريف مع ما قدّمه السراج الطوسي لأنّه فوّق المعنى الثاني المتصل بلبس الصوف[24] ودافع عنه بناء على ما شاهده في عصره من إقبال الصوفية على نوع من اللباس مخصوص. ويكشف هذا السلوك مدى حضور الذات في الخطاب الصوفي وأثرها في توجيه دلالاته استجابة لمنطق العصر وحاجة المؤلف وأغراضه. وقد تجلّى خاصة في خطّة عرض مادة الكتب فالمتتبّع للرسالة القشيرية مثلا يلاحظ دائما نهجا واحدا في كلّ مواضيع الفصول، منطلقه آية قرآنية أو حديث نبوي فتفسير وشرح لغوي فاستعراض لجملة أقوال المشايخ المرضيّ عن سيرتهم ودعم بشواهد من نصوص مقدسة مستقاة من توراة وإنجيل وزبور.. والغاية تسييج التصوف بحدود الالتزام بالشريعة وما ورد في الكتب السماويّة والسّنّة النبويّة وتركيز البعد الأخلاقي فيه دفعا لاتهامات الخصوم واعتراضاتهم على التصوف وأصحابه، فمثل هذه الخطة تكشف مقاصد الذات المنشئة للخطاب وكيفية تصرّفها في مادته وتفسّر ما قد يثير التساؤل في الكتاب من قبيل تأخير تعريف التصوف بدل الانطلاق منه[25]، والحال أنّه أنشأ الرسالة لإدراجه في باب العلوم الدينية وإثبات حقيقته، وقد يكون مأتاه تحرّج المؤلف من صلة المفهوم بلبس الصوف وقناعته بذلك وهو ما حاول إخفاءه وتهميشه.

وتتأكّد هذه الملاحظة في التعامل مع الشطحات[26] الصوفية وهي عبارات لاقت ردود فعل متباينة ودعت إلى توضيحها وتحديد أسبابها. وقد عمل مصنفو كتب التصوف على تبريرها والاحتجاج لها بمحاولة ضبط سياقاتها الأصلية أو كشف ظروف صدورها وحقيقة مدلولاتها وذلك عبرالبحث عن النّصّ الأمّ الذي احتواها أو أنشأه صاحب الشّطح في صورته الأولى، وهو في معظم الأحيان مفقود بحرفيته لعدّة أسباب منها أنّ أقوال الصوفيّة مرتبطة أشدّ الارتباط بالأحوال والمواجد التي يعيشونها، ومتوقّفة على درجة قوّتها وتأثيرها فمنهم من يصدر عنه كلام تامّ قابل للفهم ومنهم من يستعصي عليه الكلام فيكتفي بعبارات متقطعة ترد وكأنّها غير ذات معنى أو حاملة لمعان مبهمة قد يكون لها في صمت الصوفي قبل فورة الوجد سياق يحتويها متى لم يدركه الراوي أساء تقدير المعنى وتبليغه، يقول الغزالي في معرض الاعتذار لشطحات أبي يزيد البسطامي:”إمّا أن يكون ذلك جاريا على لسانه في معرض الحكاية عن الله تعالى كما لو سمع وهو يقول “لاإله إلاّ أنا فاعبدني”[27]  لكان يحمل على الحكاية وإمّا أن يكون قد شاهد كمال حظّه من صفة القدس على ما ذكرنا في الترقي بالمعرفة عن الموهومات والمحسوسات وبالهمّة عن الحظوظ والشهوات فأخبر عن قدس نفسه فقال سبحاني ورأى عظم شأنه بالإضافـة إلى شأن عموم الخلق فقال ما أعظم شأني وهو مع ذلك يعلم أنّ قدسه وعظم شأنه بالإضافة إلى الخلق ولا نسبة له إلى قدس الربّ تعالى وعظم شأنه ويكون قد جرى هذا اللفظ على لسانه في سكر وغلبة حال “[28] .

وجميع هذه الاحتمالات المقدّمة لتفسير كلام أبي يزيد وتبريره لدفع تهمة الإلحاد وادعاء الألوهية عنه تكشف أنّ السياق عند الصوفية كامن في امتداد حال الصوفي ومعاناته، أي هو حاصل انسجام المنطوق بالمعيش والمحسوس، ممّا يستدعي توفّر قدر من الفطنة والفراسة في الرّاوي لفهمه واستكمال ما نقص منه والأمانة في نقله وأدائه. وهذا يفرض على الذات المنشئة للخطاب معرفة بقدر أدنى بخصائص التجربة الصّوفيّة وطبيعة أحوال أصحابها وإحاطة بسياقات مقالاتهم، فالرواية عرضة للزيادة والنقصان وقد تنأى العبارة عن المعنى المقصود حقيقة، وربّما تخلّ به ما لم يتفطّن إليه الراوي ويضبطه باختيار الألفاظ المناسبة له أو المحافظة على ما ورد على لسان المرويّ عنه دون المساس به. ويخشى الصّوفيّة في هذا المجال اكتفاء الرّواة، على اختلاف انتماءاتهم ومراتبهم، بمجرّد الفهم الشخصي في ما ينقلون من أقوال أو أخبار لأنّهم قد يلحقون بالنصّ الأصلي تصحيفا أوتحريفا لاختلاف الأفهام وتنوّع الأحوال والدرجات ، يقول السراج: “والتصحيف الذي يقع في الحكمة يقع من وجهين: فوجه منها تصحيف الحروف وذلك أيسره والوجه الثاني تصحيف المعنى وهو أن يتكلّم الحكيم بكلمة من حيث وقته وحاله فلا يكون للمستمع لذلك الحال والوقت فيصحف معناه “[29]. فلسنا بهذا الاعتبار أمام خطاب عادي لأيّ كان أن ينقله أو يسمح له بالتّصرّف فيه، إنّما أضحى الخطاب الصوفي محمّلا بضرب من القداسة ينفي عنه إمكانية الخطإ ويعصمه من الزّلل،

فلكلّ لفظ فيه أو حرف موقعه الخاص متى تحوّل عنه أو حذف اختلف المعنى أو تخلخلت بنيته. وللذّات في تشكيله ونحت دلالاته دور مركزي لكونه ناطقا بلسان حالها وعقيدتها، ومترجما عن مرتبتها ومذهبها. وهذا يعني أنّ عزل الخطاب عن الذات المنشئة له والسياقات الحافة بها يفقده قيمته ويخلّ بمعانيه.

وتنطبق مثل هذه الوضعية على مختلف مصطلحات الصوفية، لأنّ اختيارهم لها واتّفاقهم في دلالاتها ووظائفها، وتفردهم بها، يجعلها فاقدة لصلاحيتها إذا ما تم تداولها في مجال لساني آخر، ولا يعني هذا انغلاقها واحتكار أصحابها لها، إذ يمكن شرحها وتقريبها إلى الأذهان وهو ما سعى إليه القشيري مثلا في استعراض اصطلاحات الصوفية إذ يقول: “ونحن نريد بشرح هذه الألفاظ تسهيل الفهم على من يريد الوقوف على معانيهم من سالكي طريقتهم ومتّبعي سننهم”[30]. وإليه قصد سائر من قدّم اصطلاحاته في رسله وكتبه مثل الخراز في كتاب الحقائق والسراج الطوسي في كتاب اللّمع والكلاباذي في التعرف لمذهب التصوف والغزالي في إحياء علوم الدين وابن عربي في كتاب اصطلاح الصوفية.. حتّى تتّضح المفاهيم ولا تلتبس على الأذهان.

ولا ينكر الصوفية أنّ شرحهم لمثل هذه الاصطلاحات يأتي تصدّيا لسلوك درج في كتابات عدد منهم تمثّل في التأنّق في العبارات والإمعان في التلاعب بها لمجرّد التسلية والإغراب ففي “كشف المحجوب” للهجويري اعتراف وتصحيح لمصطلح من مصطلحات الصوفية وهو الفناء وفيه يقول: “والفناء اسم محال فيه المبالغة ليقول شخص إنّ الفناء يفنى لأنّ المبالغة في نفي أثر وجود ذلك المعنى يمكن أن تكون في الفناء وطالما بقي أثر فإنّه لا يكون فناء بعد فإذا حصل الفناء فإنّ فناء الفناء لا يكون شيئا سوى الإغراب في عبارة بلا معنى. وهذه ترهات أرباب اللسان في وقت عبادة العبارة. ولنا من هذا النوع كلام في كتاب “الفناء والبقاء” وقد عملته في أيام هوس الصبا وحدّة الأحوال ولكنّي أورد أحكامه في هذا الكتاب على سبيل الحيطة”[31].

ونستنتج أنّ الخطاب الصوفي لم يكن يخضع فحسب إلى موقف من اللغة البشرية، إنّما كان تعبيرا عن حاجة الذات إلى التسلية والترفيه عبر ما تجد في تزويق اللفظ من جمال وأثر، يقول الهجويري: “وأمر أحبّائه من أوّله إلى آخره هو أنّهم صاغوا عبارات مزخرفة لتسلى قلوبهم وبيّنوا المقامات والمنازل والطريق لراحة أرواحهم، فعباراتهم منهم وإليهم”[32]. وكأنّ الصّوفي يقصي المتلقّي فيكتب لذاته لا لغيره ويؤسّس خطابا خاصا به ينسجم مع إحساسه بالتفرد والتعالي، وإن كان الهجويري يسند مثل هذا السلوك إلى ضرب من هوس الصبا وترهات أرباب اللّسان لأنّه قرين التكلّف والاستهتار والتّلاعب السّقيم باللّفظ من جهة، ولكونه لا ينتج إلاّ عبارة جوفاء فارغة من أيّ محتوى، ويبدو أنّ مثل هذا الاستعمال قد درج في أوساط الصوفية لعلّة أخرى أيضا تمثّلت في توهّم المخاطب تحقق المعنى المقصود وبلوغه درجة عالية من الأحوال وقصوره عن التعبير عنها بما ألف من استعمالات اللّغة.

لذا ينبّه الهجويري إلى ضرورة الاحتراز والاحتياط في استخدام عبارات الصوفية لأنّها لا تعكس وجوبا المعنى ذاته، ويقتضي هذا: التفريق بين التعبير “الحالي” والتعبير “العلمي” فالأوّل ليست له حدود مضبوطة تقيّده لأنّه قرين اللحظة ورهين حركات نفسية مختلفة ومعقّدة قد تقصر العبارة عن نقلها أحيانا، في حين يلتزم الثاني بالصرامة والوضوح والتأنّي في اختيار الاصطلاح الأنسب والأقرب إلى المعنى المراد.

وهذا يؤكّد قيمة السياقات الحافة بالخطاب في إدراك دلالاته وأبعاده وخلفياته، إذ تنتج ههنا صورة مخصوصة للذات في تفاعلها مع لغة عصرها وإنصاتها لمنطق أحوالها، فهي ذات تتوق إلى التفرد والإغراب ولكنّها لا تعدل كبير عدول عمّا يدور حولها من ظواهر، مثل ما أسماه الهجويري بوقت عبادة العبارة، إذ تنخرط في هذه الظاهرة معتقدة في قدرتها على الاستجابة لما تعيشه من مواجد ولحاجتها إلى التميز ولكنّها من حيث أرادت التعالي على زمنها تصبح شاهدة عليه وعلامة على لغته ومنطقه.

هكذا يفضح الخطاب الذات المنشئة له مهما رامت التخفي وراء ستر أناقة العبارات وزخرفها، ومهما أوغلت في اشتقاق الألفاظ وعدلت بها عن مألوف استعمالاتها، إذ تصبح هذه الأقنعة كاشفة لا ساترة، وتتجلى من خلالها ذات متذبذبة مضطربة بين عالمين مادي وروحي، أرضي وسماوي، ظاهر وباطن، تسعى بين هذا وذاك إلى معرفة هويتها وضبط مقاصد وجودها وحدود حركتها وعلاقتها بمن حولها وتسطير نهج خاص بها في التعبد والحياة.

ولعلّ الصورة تتضح أكثر في تعامل الصوفية مع النصوص المقدسة وفي مقدمتها النص القرآني إذ نلاحظ في خطابهم توجيها لمعاني هذه النصوص بقطع النظر عن سياقاتها وممكنات ألفاظها أو تعابيرها، من ذلك تفسير القشيري للآية: “فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون”[33] إذ يقول: “الذكر استغراق الذاكر في شهود المذكور ثمّ استهلاكه في وجود المذكور حتى لا يبقى منك أثر فيقال قد كان مرّة فلان.. “فاذكروني أذكركم” أي كونوا مستهلكين في وجودنا نذكركم بعد فنائكم عنكم.. وطريقة أهل العبارة (فاذكروني) بالموافقات (أذكركم) بالكرامات، وطريقة أهل الإشارة (فاذكروني) بترك كلّ حظّ (أذكركم) بأن أقيمكم بحقّي بعد فنائكم عنكم”[34]. ففي مثل هذا التفسير تستخدم اصطلاحات مستمدة من متداول الصوفية وتوجه المعنى وفق ما يستجيب لأدبياتهم فليس الذكر ههنا مجردا باللسان أو القلب إنّما يتجاوز المألوف لدى عامة الناس والمفسرين ليلتصق بمفهوم صوفي يتمثل في الفناء وبذلك يكون معنى الآية متحققا لدى الصوفية دون غيرهم وهو ما تؤكده المقارنة التي أقامها القشيري بين أهل العبارة وأهل الإشارة. ويصبح تفسير القرآن من ثمّة ناطقا باتجاهات صاحبه وعقائده وانتصارا لها واتهاما لغيرها بالقصور.

هكذا يعلن الخطاب هوية صاحبه ويبرز موقعه الذي يروم احتلاله والذود عنه وهو الأحقية بامتلاك الحقيقة الدينية والمشروعية في السلوك والاعتقاد.

 

خاتمة:

يخضع الخطاب الصوفي إلى وضعية الذات المنشئة له والسياقات الحافة به، فيتشكل بناء على ثقافتها وهواجسها وتصوراتها ومواقفها، وفي غياب مراعاة هذه الجوانب يعسر الولوج إليه والتفطن إلى مزالقه وخفاياه، خاصة وقد رسم لنفسه نهجا في التعبير ينأى عن المواضعات ويغوص في الرمز والغموض ويلحّ على البعد الفردي والذاتي في توليد المعاني. ولا يعدّ هذا وقفا على التصوف إنّما يشمل جميع أشكال الخطاب لكونها تنطق بهوية صاحبها واختياراته وترتهن بمقاصده.

وقد تبيّن لنا أنّ الذات في الخطاب الصوفي تحتلّ مواقع مختلفة في الظاهر فهي ناقلة حينا ومنتجة حينا آخر. ولكنّنا متى أنعمنا النظر في صيغ هذا الخطاب ووقفنا على العبارات المشكّلة له وبحثنا في خططه أدركنا صورة مخصوصة لمنشئه من علاماتها التعالي على الواقع والرغبة في القطع معه للتواصل مع عالم آخر مفارق، فهو يتهم لغة زمنه بالقصور ويبتكر لغته الخاصة والذاتية ويأبى مشاركة غيره له فيها إلاّ إذا فارق بدوره بشريّته وانضمّ إلى عقيدته وخاض في مقاماته وأحواله. وهو ما جعل خطاب الصوفية في مرحلة من مراحله التاريخية فئويا وملغزا، أثار اعتراضات شتى بلغت حدّ الطعن في سلامة الإيمان وحكمت بإعدام المتداولين له وإجبارهم على العدول عنه، وهو ما بلغ ذروته في محنة الحسين بن منصور الحلاّج.

وتلت هذه الفترة صورة جديدة للخطاب الصوفي علامتها التبسيط والتوضيح، فكانت دالة على استجابة المتصوفة لمنطق العصر ورغبتهم في تعديل منهجهم في التفاعل مع محيطهم ووعيهم بالحاجة إلى دعم صفوفهم، فكانت الذات المنشئة للخطاب معلّمة ومتكلّمة وفقيهة ومفسّرة لآيات القرآن ومتون الحديث وشارحة لمقالات المشايخ جامعة لها وناشرة. فضبطت اصطلاحات التصوف وكانت محاولة توحيدها وتأصيلها ببيان صلتها بما ورد في النصوص الأصول وتمّت مراجعة ما بدا فيها من شطط ومغالاة. لتمهّد السبيل في مرحلة ثالثة للتجريد والتنظير والتجويد.

وهكذا يحكي الخطاب الصوفي جملة التحولات التي مرّ بها أصحابه ومختلف المواقف التي تبنوها تجاه عصرهم وقضاياه ومجمل العقائد التي آمنوا بها ودافعوا عنها.

المصادر والمراجع

 

  • الخرّاز (أبو سعيد)،
    • كتاب الفراغ، تحقيق قاسم السامرائي، ضمن رسائل الخراز، مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد الخامس عشر، مطبعة المجمع العلمي العراقي، 1967.
    • كتاب الصفاء، تحقيق قاسم السامرائي، ضمن رسائل الخراز، مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد الخامس عشر، مطبعة المجمع العلمي العراقي، 1967.
  • راي (وليم) ، المعني الأدبي من الظاهراتية إلى التفكيكية، ترجمة يوئيل يوسف عزيز، الطبعة الأولى، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد، 1987.
  • السّلمي (أبو عبد الرّحمان) ، جوامع آداب الصّوفيّة و عيوب النّفس ومداواتها، حقّقها وقدّم لها ايتان كولبرغ، معهد الدّراسات الآسيوية والإفريقيّة، الجامعة العبريّة في أورشليم، المطبعة الأكاديميّة، القدس، 1962.
  • الطّوسي (أبو نصر السّرّاج) ، اللمع، تحقيق وتقديم عبد الحليم محمود / طه عبد الباقي سرور، دار الكتب الحديثة بمصر، مكتبة المثنّى ببغداد، 1960.
  • ابن عربي (محيي الدين) ، فصوص الحكم، دار الكتاب العربي، بيروت/لبنان، د.ت.
  • بن عامر (توفيق) ، مواقف الفقهاء من الصوفية في الفكر الإسلامي، حوليات الجامعة التونسية، مجلة حولية تصدرها جامعة الآداب والفنون والعلوم الإنسانية تونسI كلية الآداب منوبة، العدد39، السنة 1995، صص7/63.
  • الغزالي (أبو حامد)، المقصد الأسنى شرح أسماء الله الحسنى، المكتبة العلامية، مصر، د.ت.
  • القشيري (أبو القاسم) ،
    • الرسالة القشيريّة، شرح وتقديم نواف الجراح، الطبعة الأولى، دار صادر، بيروت/لبنان، 2001.
    • لطائف الإشارات، قدّم له وحقّقه وعلّق عليه د. إبراهيم بسيوني، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، د.ت.
  • المهدوي (عبد العزيز)، محجة القاصدين وحجة الواجدين، تهذيب عبد الرّحمان البجائي، مخطوط بمكتبة آل عاشور بتونس، رقم243.
  • النفري (محمد بن عبد الجبار) ، المواقف والمخاطبات، تحقيق أرثر أربري، تقديم وتعليق د.عبد القادر محمود، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1985.
  • نيكلسون (رينولد) ، في التصوف الإسلامي وتاريخه، نقلها إلى العربية وعلق عليها أبوالعلا عفيفي، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1956م.
  • الهجويري (أبو الحسن) ، كشف المحجوب، دراسة وترجمة وتعليق إسعاد عبد الهادي قنديل، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، 1980.

[1]أبو الحسن الهجويري، كشف المحجوب، دراسة وترجمة وتعليق إسعاد عبد الهادي قنديل، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، 1980، ج1، ص365.

[2] انظر مثلا: قول أبي سعيد الخرّاز: “أوّل إلقاء السمع لاستماع القرآن هو أن تسمعه كأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم يقرؤه عليك ثمّ ترقى عن ذلك فكأنّك تسمعه من جبريل عليه السلام وقراءته على النبي صلّى الله عليه وسلّم… ثمّ ترقى عن ذلك فكأنّك تسمعه من الحق… فكأنّك تسمعه من الله”. (أبو نصر السّرّاج الطّوسي، اللمع، تحقيق وتقديم عبد الحليم محمود / طه عبد الباقي سرور، دار الكتب الحديثة بمصر، مكتبة المثنّى ببغداد، 1960، ص 114.) وانظر: أبو طالب المكي ، قوت القلوب، الطبعة الأولى، المطبعة المصرية، 1932، ج1، ص 72. “ومازلت أردّد الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم بها”. وانظر: قول عبد العزيز المهدوي: “القرآن كلام الله والكلام صفة قائمة بالمتكلم والصفة لا تفارق الموصوف فالقرآن من جهة الحق كلمة واحدة وإنّما يتصرّف بالعبارات على ألسنة الملائكة والمرسلين إلى الخلق، كلام كل مبلّغ لا يشبه كلام غيره، فجبريل عليه السلام خلق له كلام، فبلّغ النبي صلى الله عليه و سلم كلّ كلمة لا تشبه الأخرى بل توجد فيه وتخلق عند بروزها بقوله تعالى كن.. وأمّا تبليغ النبي صلى الله عليه و سلم إلى الصحابة فليس ذلك بانتقال كلامه لأنّ الكلام معنى قائم بنفس المتكلم وإنّما هو عبارته.. فكل مخلوق لا يوافق غيره.. فكلّ شخص تختلف أوقاته وعالمه ونطقه ولا يقال إذا كتب إنّ كلامه هو الذي في القرطاس بل عبارات عن كلامه”. (المهدوي، محجة القاصدين وحجة الواجدين، تهذيب عبد الرّحمان البجائي، مخطوط بمكتبة آل عاشور بتونس، رقم243، الورقة97 ظ).

[3] محمد بن عبد الجبار النفري، المواقف والمخاطبات، تحقيق أرثر أربري، تقديم وتعليق د.عبد القادر محمود، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1985، ص123.

[4] المصدر السابق، ص 115.

[5] أبو سعيد الخرّاز، كتاب الفراغ، تحقيق قاسم السامرائي، ضمن رسائل الخراز، مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد الخامس عشر، مطبعة المجمع العلمي العراقي، 1967، ص200.

[6] هذه العبارة تمّ اشتقاقها من كلام الجنيد وقد سئل عن توحيد الخاصة فقال:”أن يكون العبد شبحا بين يدي الله عز وجلّ..”. (السراج، اللمع، ص49).

[7] السراج ، اللمع، ص 473.

[8] محي الدين بن عربي، فصوص الحكم، دار الكتاب العربي، بيروت/لبنان، د.ت، ج1،ص46.

[9] أبو سعيد الخرّاز، كتاب الصفاء، تحقيق قاسم السامرائي، ضمن رسائل الخراز، مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد الخامس عشر، مطبعة المجمع العلمي العراقي، 1967، صص181-182.

[10] وليم راي، المعني الأدبي من الظاهراتية إلى التفكيكية، ترجمة يوئيل يوسف عزيز، الطبعة الأولى، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد، 1987، ص25.

[11]أبو القاسم القشيري، الرسالة القشيريّة، شرح وتقديم نواف الجراح، الطبعة الأولى، دار صادر، بيروت/لبنان، 2001، ص 21.

[12] السراج، اللمع، ص414.

[13] أبو عبد الرّحمان السّلمي، جوامع آداب الصّوفيّة و عيوب النّفس ومداواتها، حقّقها وقدّم لها ايتان كولبرغ، معهد الدّراسات الآسيوية والإفريقيّة، الجامعة العبريّة في أورشليم، المطبعة الأكاديميّة، القدس، 1962، ص27. (الكلام لأبي سهل محمد بن سليمان المتوفّى سنة369هـ.)

[14] السراج، اللمع، ص475.

[15] انظر مثلا قول القشيري: “قيل من دقّ في الدّين نظره جلّ في القيامة خطره”. (القشيري، الرسالة القشيرية، ص 63).

[16] انظر مثلا قول معروف الكرخي: “احفظ لسانك من المدح كما تحفظه من الذّمّ”. (المصدر السابق، ص 63).

[17] المصدر السّابق، صص 9-10.

[18] انظر مثلا: توفيق بن عامر، مواقف الفقهاء من الصوفية في الفكر الإسلامي، حوليات الجامعة التونسية، مجلة حولية تصدرها جامعة الآداب والفنون والعلوم الإنسانية تونسI كلية الآداب منوبة، العدد39، السنة 1995، صص7/63.

[19] راجع مثلا: محنة غلام الخليل التي تعرّض لها صوفية بغداد حيث اتّهموا بالزندقة وحكم الخليفة عليهم بالقتل ثم عفا عنهم، لكنّها تسبّبت في تشتّتهم وهرب بعضهم مثل الخرّاز والنوري والدقاق…(انظر: الهجويري، كشف المحجوب، ج 2، ص 421.).

[20] رينولد نيكلسون، في التصوف الإسلامي وتاريخه، نقلها إلى العربية وعلق عليها أبوالعلا عفيفي، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1956م، ص 28.

[21] القشيري، الرسالة القشيرية، ص184.

[22] المصدر السابق، ص 185.

[23] يقول القشيري: “اشتقاق الصوفي من الصفاء بعيد في مقتضى اللّغة”. (المصدر السّابق، ص183.)

[24] يقول السراج: “إن سأل سائل فقال : قد نسبت أصحاب الحديث إلى الحديث و نسبت الفقهاء إلى الفقه فلم قلت : الصوفية و لم تنسبهم إلى حال و لا إلى علم… فيقال له : لأنّ الصوفية لم ينفردوا بنوع من العلم دون نوع، و لم يترسموا برسم من الأحوال والمقامات دون رسم … فلما لم يكن ذلك نسبتهم إلى ظاهر اللبسة لأنّ لبسة الصوف دأب الأنبياء عليهم السلام و شعار الأولياء و الأصفياء … ألا ترى أنّ الله تعالى ذكر طائفة من خواص أصحاب عيسى عليه السلام فنسبهم إلى ظاهر اللبسة فقال عزّ وجلّ: ” و إذ قال الحواريّون ” و كانوا قوما يلبسون البياض فنسبهم الله تعالى إلى ذلك”. (السراج، اللمع، صص 41-40.)

[25] يأتي حديث القشيري عن مفهوم التصوف في الفصل الثالث المخصص لشرح المقامات أو مدارج أرباب السلوك وهو المصطلح التاسع والثلاثون في جملة هذه المقامات ممّا يبعث على التساؤل.

[26] الشّطح كما يعرّفه السّرّاج: “معناه عبارة مستغربة في وصف وجد فاض بقوّته، وهاج بشدّة غليانه وغلبته”. (السراج، اللمع، ص 453.)

[27] سورة طه، الآية 14.

[28] الغزالي، المقصد الأسنى شرح أسماء الله الحسنى، المكتبة العلامية، مصر، د.ت، ص 75.

[29] السراج، اللمع، ص 475.

[30] القشيري، الرسالة القشيرية، ص 21.

[31] الهجويري ، كشف المحجوب ، ج1، صص 256- 257.

[32] المصدر السابق ، ج1، ص 223.

[33] سورة البقرة، الآية152.

[34] أبو القاسم القشيري، لطائف الإشارات، قدّم له وحقّقه وعلّق عليه د. إبراهيم بسيوني، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، د.ت، المجلد الأوّل، ص149.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!