الحبُّ الحسيُّ و الحبُّ الصوفيُّ في تجربة ابن عربي

الحبُّ الحسيُّ و الحبُّ الصوفيُّ في تجربة ابن عربي

 

 

 

      إشراقات (6)

جدليةُ الحبِّ الحسيّ و الحبِّ الصوفي

في التجربةِ العرفانيةِ الأكبريَّة

                                                      محمد التهامي الحراق

thamiherak

-1-

  الحبُّ، في العرفانِ الأكبري، ثلاثةُ أصنافٍ: حُب إلهي، وحب روحاني، وحب طبيعي.أما الحبّ الإلهي، فهو حُبّ الخالق للمخلوق باعتباره الصورةَ التي يتجلّى بها لنفسِه، إذ معلوم في “نظرية الكَنْزِيَّة” أن إيجادَ الكونِ وخلقَه كان عن حُبٍّ؛ إذ ما خَلَق الحقُّ الخلقَ وما أوجَد الكونَ إلا من أجلِ أن يتَعَرَّف على ذاتهِ في مَجَاليهِ. جاء في الحديث القدسي، “المُصَحَّحِ كشفاً لدى القوم”: “كنتُ كنزاً مَخْفِيّا فأحببتُ أن أُعرَف، فخلقتُ الخلقَ، فَبِي عَرفُونِي”. ومن ثَمَّ  كانَ أصلُ الخلق هو الحُبّ وغايتُه هي المعرفَةُ، وهذا ما يؤكِّدُه تفسير ابن عباس لقوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ” ( الذاريات، الآية 56)، قال: “إلا ليعرفونِي”. من هنا كانَ الحبُّ الإلهي، هو هذا الحب الإلهي الأزلي في أصل الإيجادِ والتكوين، والذي خلق اللهُ بهِ العالمَ وتجلَّت في مرآتِه أسماؤهُ وصفاتُه حتى يتعرف على نفسِه من خلالِها، وكانَ حبُّ المخلوقِ لخالقه ليس سوى شوقِ الإله المُتجلِّي في الخَلْقِ لنفسه وتوقهِ إلى العودةِ إلى ذاتِه.

 

-2-

 أمَّا الحب الروحاني فهو حُبُّ الخلقِ الذي من خلاله يبحثُ عن الموجود الذي يكتشف فيه صورتَه، وهو حب ليس له مِنْ هَمٍّ أو غَرض غير مرضاة محبوبه والاستجابة لما يرغب فيه. و خلال هذا الحُبِّ يُحِبُّ المحبُّ المحبوبَ من أجلِ مرضاته، ولا يقصدُ فيه المُحبُّ امتلاكَ المحبوبِ أو تقديمَ رغباتِه على رضى المحبوبِ. فيما يسعى المُحِبُّ، في الحب الطبيعي، إلى الامتلاك وتحقيق رغباته من غير اهتمام برضى المحبوب، إنه يُحِبُّ نفسَه في المحبوب، وعلى هذا أكثر الناس كما يؤكد الشيخ الأكبر. فالحب الإلهي خاص بالحق، فيما الحب الروحاني والحب الطبيعي متعلقان بالخلق. يقول ابن عربي: «المحب الإلهي روحٌ بلا جسم، والمحب الطبيعي جسم بلا روح، والمحب الروحاني جسمٌ وروح». إذ لما كانت النفس من بنية ثنائية جسمانية وروحانية، فإنها تحب بالطبيعة الجسمانية، فيحب المحب نفسه في محبوبه، وتحب بالطبيعة الروحانية فتحب المحبوب حيث لا ترغب سوى في مرضاته. ومن ثم فإن الحب الصوفي حب جسماني وروحاني؛ جسماني لأنه يدرك صورة عينية ويتأملها، وفي الوقت نفسه حب روحاني لأن النفس لا تقصد تملك تلك الصورة، وإنما ترغب في أن تستبطنها كلية، “إن هذا الجمع بين الحب الروحاني والحب الطبيعي بتحول الواحد منهما في الآخر، يصف وصفا حقيقيا الحب الصوفي” كما أكد ذلك رُزْبَهَان البقلي(تـ.606هـ).

 

-3-

بيِّنٌ مما سبق أن جدلية الروحاني والطبيعي هي التي تميز الحب الصوفي، من هنا ذهب بعض العارفين بأن العشق الإلهي لا يُعاش إلى من خلال العشقِ الإنساني. كما ينبهنا إلى ذلك روزبهان البقلي، والذي أكَّدَ أن أحسن القصص التي قصَّها القرآنُ الكريمُ على رسوله هي قصةُ العشق إذ وردت الآية الكريمة نََحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصََصِِ”  (الآية 3) في سورة يوسف عليه السلام والمتضمنة لعشقِ زوليخا له. يكتب روزبهان في “عبهر العاشقين”: «العشقُ محمود على أية حال، سواء كان في مقام العشق للطبيعيات أو للروحانيات، لأن العشق الطبيعي هو منهاج العشق الرباني، ولا يُستطاع حملُ أثقال العشق الإلهي إلا على مثل هذا المركبِ كما لا يُستطاع احتساءُ روائق صفاء الجمال الإلهي إلا في أقداحِ أفراح الصور الحسية. فالعشقُ الطبيعي والعشقُ الروحاني والعشق الإلهي جواهر ثلاث مستمرة دائما في الحركة»، ويؤكد هذا الارتباط العضوي بين الحب الطبيعي والعشق الروحاني الشاعر الفارسي عبد الرحمن الجامي (898 هـ):

لا تَـْصِرْف وجهـكَ      عن الحبِّ الترابيّ

ما دامَ الحبُّ التُّرابـيّ           سيرفعُكَ إلى الحقِّ

ولهذا قال الشيخ الأكبر:

لنا أسوةٌ في بِشْرِ هِنْدٍ وأُخْتِهَا      X  وقيْسٍ وليلَى ثُمَّ مَيٍّ وغَيْلَانِ

 

-4-

أضاءَ  ابن العربي هذا الارتباطَ بين الحب الترابي والحب المتعالي، في شرحه على ديوانه “ترجمان الأشواق“، فقال: «الحبُّ من حيثُ ما هو حبٌّ لنا ولهم حقيقةٌ واحدة، غير أن المحبينَ مختلفون لكونهم تعشَّقُوا بِكَوْنٍ، وإنَّا تَعَشَّقْنَا بِعَيْن، والشروطُ واللوازمُ والأسبابُ واحدةٌ فلنا إسوةٌ بهم. فإن الله تعالى، ما هيَّمَ هؤلاء وابتلاهم بحبِّ أمثالهم إلا ليُقيم بهم الحججَ على من ادَّعى محبَّته ولم يهِمْ في حبِّهِ هيمانَ هؤلاء حين ذهبَ الحبُّ بعقولهم وأفناهم عنهم لمشاهداتِ شواهد محبوبهم في خيالهم، فأحْرَى مَن يَزْعُم أنه يُحِب من هو سمعُه وبصرُه ومن يتقرب إليه أكثرَ من تقربه ضِعفا».

الحبُّ الترابيّ قد يرفع نحو حُبِّ الحقِّ بطرائقَ عدة؛ منها الائتساءُ بأهل هذا الحب في فنائهِم في محبوبيهم، مع ما في الفرق بين هذا المحبوب ومحبوب القوم من تبايُنٍ بين “الحبِّ بِكَوْنٍ” و “الحبِّ بِعَيْنٍ”؛ وقد يكون المحبوبُ التُّرابيّ مَجْلًى للمحبوب الحقّ، ينطلق منه المُحبُّ بوصفه مجلىً حِسيّا ما يفتأ يَتلطَّفُ في بصيرةِ المُحِبِّ الذي لا يرى فيه سوى آثارِ وتجلياتِ محبوبِه المتعالي الحقّ، كما هو حال ابن عربي في “ترجمان الأشواق“. والشيخ الأكبر، من خلال هذا، يعتبِر أن حبَّ النساء هو أثر من آثار الحب الإلهي، مصداقا لحديث المصطفَى صلى اللهُ عليهِ وسلم: “حُبِّبَ إلي من دنياكم ثلاثٌ، الطيبُ والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة”. فالمصطفى صلى الله عليه وسلم لم يّحِبَّ النساءَ من تلقاء نفسه، بل “حُبِّبَ” إليه ذلك، مما يجعلُ من حُبِّهِنَّ مظهرا من مظاهر الحبِّ الإلهي.

-5-

لما كانتِ النَّفْسُ ذاتَ بنيةٍ ثنائيةٍ كما مر معنا جسمانيةٍ وروحانية، وكانت النّفسُ تحبُّ بالطبيعتين؛ تُحب بالجسمانية فيُحِب المحبُّ نفسَه في محبوبه، وتُحِب بالروحانية فلا يرغب المُحِبّ سوى في مرضاة محبوبه، و كانت المرأةُ قد تُعشَق بالطبيعتين، وكان لحُبِّها أصلٌ إلهي، صار حبُّها مِعراجاً يُترقَّى فيهِ من الحب الطبيعي إلى الحب الروحاني إلى الحب الإلهي الصرف الذي تُطلَب فيه وحدة المحب والمحبوب. على أن هذهِ الوحدةَ ليست، أبدا، وحدةٌ تطابقية ولا اندماجية، بل وحدةٌ ثنائية تفاعلية، إذ الربُّ ربٌّ والعبدُ عبدٌ، والوحدة هنا ثنائيةٌ يشتاق فيها الحقُّ إلى الظهور في الخلقِ مثلما يشتاق إلى العودة إلى نفسه من خلال اشتياق الخلق له. ولا علاقة لهذه الوحدة بالتطابق الماهوي أو الوحدة الجوهرية بين جِرْمَيْن أو ذاتين، فهذا محالٌ عقلا وذوقاً عند الصوفية، ولدى الشيخ الأكبر بوجه خاص. على أن ما يصالح بين الحبِّ الطبيعي والحب الروحانيّ ويحقق الوحدةََ الشهودية للإلهي والإنساني هي مَلكةِ الخَيال، وهي  ملكةٌ وسيطةٌ بما هي حضرةُ إدراكٍ بين عالمي المعاني والأجسام، ومَجْمَعُ بحري الأواني والمعاني. الخيال، بهذا الاعتبار، طاقة تمثل أداةَ التجربةِ الشهودية، بحيث تُحوِّل المحسوسَ فيصبحُ المحبُّ وكأنه يرى محبوبَه، وتُنَزّل وتُجسِّد الملائكيّ في الحِسِّيّ مثلما هو شأن جبريل المتجسِّد حسِّيا في دحيةَ الكلبي كما ورد في الحديث الشهير عن الإسلام والإيمان والإحسان.

 

-6-

الخيال، بهذا المعنى، هو الذي يقيم التفاعل بين المرئي واللامرئي، بين الجسماني والروحاني، وبوساطته يتم القيام بفعل تصعيدي تلطيفي للانتقال من المحسوس إلى اللامحسوس في الحضرة الشهودية، واستشعارُ الحضور الباطني المحبوب، حيثُ يغدو الحاضرُ الحقُّ هو المحبوب دون سواه. وحين يصل الصوفي إلى هذه الدرجة من صقل مرآة شهوده لا يرى سوى محبوبه في كل محبوب كما يؤكد ذلك الشيخ الأكبر في “الفتوحات“؛ نقرأ له: «ورد في الخبر الصحيح في صحيح مسلم عن رسول اللهe أنه قال: “إن الله جميل يحب الجمال” وهو تعالى صانع العالم وأوجده على صورته، فالعالم كله في غاية الجمال، ما فيه شيء من القبح، بل قد جمع الله له الحسن كله والجمال […] فما رآى العارفون فيه إلا صورة الحق […] فهو المتجلِّي في كل وجه، والمطلوب في كل آية، والمنظور إليه بكل عين، والمعبود في كل معبود […] فجميعُ العالم له مُصَلٍّ وإليه ساجد، وبِحمده مُسبِّح، فالألسنةُ به ناطقة، والقلوب به هائمة عاشقة […] ولولا أن هذا الأمر كما ذكرناه ما أحبَّ نبي ولا رسول أهلا ولا ولدا». عند هذا التحقق الشهودي لا يبقى من محبوبٌ سوى المحبوب الحق سبحانه، إذ هو المحبوبُ في كل حُب، إلا أنه قد تعترض الطالبَ لهذه الوحدة الشهودية أمراضُ أحوال تحول دون الارتقاء من الحب الترابي إلى محبة الحق. وهنا يُحتاج، من منظور العرفان التربوي، إلى الشيوخ والمربين ليعالجوا أتباعَهم حين يصابون بمثل هذه العلل.

-7-

في مثل هذا الشأن، يروي ابن العربي في “فتوحاته” واقعة حدثت لولي شيراز أثناء مقامه في مكة يقول: «حكي عن الشيخ روزبهان أنه كان قد ابتلي بحب امرأة مغنية وهام فيها وجدا، وكان كثير الزعقات في حال وجده في الله، بحيث إنه كان يشوش على الطائفين بالبيت في زمن مجاورته، فكان يطوف على سطوح الحرم وكان صادق الحال. ولما ابتلي بحب هذه المغنية لم يشعر به أحد، وانتقل حُكم ذلك الذي كان عنده بالله  بها، وعلم أن الناس يتخيلون فيه أن ذلك لله على أصله، فجاء إلى الصوفية وخلع الخرقة ورمى بها إليهم، وذكر للناس قصته، وقال: لا أريد أن أكذب في حالي، ولزم خدمة المغنية، فأخبرت المرأة بحاله، ووجده بها، وأنه من أكابر أهل الله، فاستحيت المرأة وتابت إلى الله مما كانت فيه ببركة صدقه، ولزمت خدمته، وأزال الله ذلك التعلق من قلبه فرجع إلى الصوفية ولبس خرقته».

إن هذه الواقعة تحكي عما يمكن أن يعترض المُحِبَّ من ابتلاءات، لكن صدقَ المُحِبِّ قد أنقذه من هذا الابتلاء، وحرَّرَه من أسْرِ الحبِّ الترابي ليعود إلى الحُبِّ المتعالي الشهودي، والذي في إطاره يجِبُ أن يُفهم “دينُ الحُبِّ” الذي اشتهر عن الشيخ الأكبر قولُه به.

 

مقالات ذات صله

  1. علاء الدين التهامي

    الفقرة الأولى من المقال مشكلة و تحتاج مزيد بيان، فالقول بأن الله تعالى ما أوجد الكون إلا من أجل أن يتعرف على ذاته في مجاليه يتعارض مع أزلية علم الله من ناحية و يتعارض أيضا مع غناه عن العالمين من ناحية أخرى .

    الرد
  2. محمود

    الإمام محي الدين بن عربي سلطان العاشقين
    والمحبين ….وعند تفسي كتبه تحتاج إلى نور ومدد من الله ….
    ولا يجب أن يتعرض العوام فيفسرون كتبه رضي الله عنه … حتى لايقعوا في المحذور
    وفي المقال .مذكور أن الله يحتاج تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
    وهذا خطأ فادح
    فالله قائم بذاته غني عن كل خلقه واحد في صفاته وأفعاله مخالف للخلق ليس كمثله شيء
    والإمام ابن عربي لا يقول بذلك
    فهو من أئمة أهل السنة والجماعة رضي الله عنهم جميعا .

    الرد

الرد على علاء الدين التهامي اغلق الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!