لذة المشاهدة والشهود المحمّديّ

لذة المشاهدة والشهود المحمّديّ

 

لذة المشاهدة…

ونظرية الشهود المحمدي

د. وفاء أحمد السوافطة

 

اعتبر الشيخ اليشرطي أن أرض (حق اليقين) هي أرض المشاهدة. فالمتصوف يسير في طريق الله، مخترقاً عدة مراتب تقوده من المحبة، وصولاً إلى المراقبة حتى تحصل له المشاهدة، وأخيراً الفناء. وذلك ما نستشفـّه بالعودة إلى الحديث الذي حدد فيه الشيخ مراتب الطريق بأربع مراتب، هي: ((المحبة، والمراقبة، والمشاهدة، والفناء)) ([1]). واعتبر الشيخ أن مرتبة المشاهدة حتمية، بالنسبة للمريد الذي يرتقي في المراتب، ويتسامى صعوداً نحو المعرفة اليقينية المطلقة، لذا، قال الشيخ: (( العارف لا ينطوي، [ أي لا يموت ] إلا عن شهود ))([2])

الشهودالمشاهدة

وهنا، نلاحظ استعمالاً لمصطلحين، استخدم الشيخ في أحدهما لفظ ” الشهود” واستخدم في الثاني لفظ ” المشاهدة “.  فهل ” الشهود ” و” المشاهدة ” يحملان ذات الدلالة في فلسفة الشيخ اليشرطي ؟ وهل يعني بهما مشاهدة وجه الحق ؟ أم شهود صفاته وأسمائه المتجلية في الوجود ؟

هناك فارق يقيمه الشيخ بين ” الشهود ” و” المشاهدة ” ([3]). فالشيخ لا يتحدث عن مشاهدة الذات الإلهية، بمعنى رؤية الحق ببصر الحس، في صريح أحاديثه، وإنما هو يتحدث عن رؤية الحق ببصر القلب؛ فالمشاهدة، في فلسفته، مقدمة ضرورية لكمال وتمام المعرفة؛ لأنها تبدأ من الأدنى صعوداً إلى الأعلى. لكن الشهود هو تمام المشاهدة، أو تمام الكمال. فالمشاهدة، في حال عدم تمامها، قد تعني الوقوع في أوحال التوحيد، التي ذكرت أن فلاسفة الشاذلية، عموماً، يسمون عنها. إذن، فما هو الشهود، بنظر الشيخ اليشرطي؟.

الشيخ يساوي بين الشهود والمكاشفة، أو الكشف الذي لا تستخدم فيه أدوات الحس التقليدية، فيجعله على ثلاث مراتب:كشف عن صور الأنبياء؛ وكشفٌ عن أرواح الأنبياء؛ وأخيراً، كشفٌ عن روحانية محمد ﷺ، الذي بدوره يضع في قلوب المريدين “نور التوحيد الذاتي” ([4]). ويبدو من خلال الحديث أن هذا الشهود متدرّج، بحسب “استعداد” المريد. لكنه، في نهاية الحديث، يربط المريد، مرة أخرى، بالقابل المحمدي الذي يقوم بمساعدة المريد في الكشف عن أنوار التوحيد الذاتي؛ وهو، بمعنى آخر، يعني أنوار الذات الإلهية التي تلوح للعارف، خلف مظاهر التلوين والتنويع في الوجود.

إذن، فهي مسألة عمق وصعود وتدرّج، تتحقق للمريد في ـ وبحسب ـ إدراكاته ووعيه، حتى وإن وصل إلى مرتبة الشهود أو المكاشفة، فهناك صعود وتسامي في الشهود ذاته، فهناك شهود صورة، وشهود روحانية، وشهود محمدي ذاتي([5]). لكن، كيف تختلف درجات المشاهدة مع أن المشهود واحد؟ الجواب ذو شقين: 

الأول ـ أن نتائج العمل وثمرات السير في الطريق الصوفي تختلف، بل تتدرّج، بحسب المنطلقات التي ينطلق منها المتصوفة، على اختلاف مشاربهم وسلوكياتهم، فهناك من يذكرون الله باللسان، فقط، ويكون الله “جليساً” للسانهم؛ وهناك من يذكرون الله بلسانهم وقلبهم، فيكون الله جليساً للسانهم وقلبهم؛ أما من ذكر الله بلسانه وقلبه وجوارحه، فإن الله يكون جليساً للسانه وقلبه وجوارحه([6]).

والشق الثاني ـ أن ذات المشهود (الله) متعددة الصفات والتجليات، والتي، بالتالي، ستنعكس بآثارها على العارف. 

إذن، فما هي الدرجة الأسمى من درجات ” الاتصال “، بحسب مفهوم الشيخ، هل هي ” المجالسة “، كما ورد في الحديث السابق،؟ أم هي ” المشاهدة ” ؟ أم هي ” الشهود ” ؟ أم هي ” الفناء “، بحسب اصطلاح شيوخ التصوف([7])، وبحسب تصنيف الشيخ لمراتب الطريق (المحبة، المراقبة، المشاهدة، الفناء)؟ ثم ما المقصود بـ ” المجالسة ” هنا، وما ” الفناء” إذن؟ هل هما مجرد ” المشاهدة “، أم نـتجاوز ذلك لنصل إلى درجةٍ تزول فيها صفات العارف أمام دهشة ونورانية المعروف؟

حال المشاهدة، عند الشيخ اليشرطي، هو حال صحو وشهادة ووضوح وبقاء بعد الفناء. فهو يقول: ((الشهادة، كما في الحديث النبوي الشريف، }اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك{([8])، لا أن تكون الشهادة غيباً دون الرؤية))([9]). والذي تتميز طريقته بالصحو بعد السُكر، أو البقاء بعد الفناء، لا يعني، بأي حال من الأحوال، زوال صفات العارف أو انطواء شخصيته، بل هو يعني فناء الأسباب الموضوعية من أمام العارف لوضوح الرؤية. فقد سُئل الشيخ، مرة، عن مقام الفناء، فقال: ((… أتظن أن معنى فناء نفسك أنك تفنى ؟! ماذا قال صاحب الوظيفة الشريفة، رضي الله عنه ؟!. قال: “وأزل عن العين غينك”، مع أن العين لم يتصل بها حرف من الحروف. ولكن لوجود النقطة فوقها وُصفت بالغين. وما هي الغين؟! هي وجودي ووجودك. فيجب أن تزيل النقطة من فوقها. أزل النقطة مِن فوقها وضعها في باطنها. فلو وضعنا ألف نقطة في باطن العين وطمسناها بالحبر لا يضرّ، بعد أن أصبحت النقطة في باطنها ))([10]). إذن، فالاتصال، لدى الشيخ اليشرطي، لا يماسّ دائرة الاتحاد أو الحلول، وهو لا يؤدي إلى فناء (بمعنى موت حسي ) الوجود البشري، بل هو يكون فناء للكثافة البشرية، أو الحجب الوجودية التي تقف بين العارف وبين المعرفة، والتي عبر عنها الشيخ بـ “وجودي ووجودك”، وإذابة للظلمانية البشرية في النور المحمدي. 

لقد ختم الشيخ اليشرطي مراتب الطريق بمرتبتي (المشاهدة) و(الفناء) اللتين تشكلان ميدان أو أرض (حق اليقين)، لأن المعرفة في هذه الأرض معرفة (سَلْب) و(وَهْب): سلب للصفات البشريّة (الحس، والمادة، والكـثافة)؛ ووهب للذة الاتصال، والمحبة، والمجالسة في معية الحق، عزَّ وجل. الشيخ يصف هذه المعرفة، فيقول إن العبد لا يزال يذكر الله، حتى يستولي عليه هذا الاسم. وعندها، تنطوي العبدية بالربـّية، وتظهر عليه صفات الرب. (( ولذة الرب تغـيّب العبد عن وجوده، حسّاً ومعنى ))([11])

لكن، كيف سـتكون عملية الانطواء هذه؟ هل هي المعايشة لمقام الفناء الصوفي؟ ثم، ألا تعني عملية الانطواء هذه استواءً وتماثلاً بين ذاتي العارف والمعروف؟ ولماذا تم تجنّب الحديث عن اتحاد ذات العارف بذات المعروف وحلول الموجِد في الموجود؟ ومن ثَم، إذا حصل هذا الانطواء، بأي شكل من الأشكال التي تخيّلها الشيخ، ماذا يبقى من شخصية العارف، إذا انطوت كلّيته في كلّية الحق، وغيّبته لذة الرب عن وجوده، حسّاً ومعنى؟ وأخيراً، كيف سيرجع إلينا هذا العارف، ليحدّثنا عن مشاهداته؟ وبأية لغة سينقل معاناته وتجربته الذاتية تلك؟ بالتصريح أم بالتلميح؟

لقد وضع الشيخ اليشرطي قيوداً شبه مستحيلة بين الإنسان وبين رؤية الحق (المشاهدة)، فقال: ((لا يرى وجه الحق من حَصَرته الجهة، ولا يفارق الجهة إلا من نفذ من أقطار السموات والأرض. ولا ينفذ من أقطارها من حكمت عليه بقية جسمانية، لأن جسم الإنسان هو سجنه، فإذا فارقه فارق سجنه)) ([12])، فهو الفناء، إذن. وقال إن من يصل إلى مرتبة التوحيد يصل إلى مرتبة الكشف، لكن ليس الكشف عن مغيبات الوجود، وإنما عن مغيبات القلوب (( إن أقل مرتبة يحصل عليها من يدّعي التوحيد، مرتبة الكشف عن القلوب، لا عما وراء الجدران كما تفعل السحرة… ))([13]). إذن، فالنفس البشرية تتصاعد في جدليتها، وتسمو على ماديتها الكثيفة، حتى تدخل عالم الروح، عن طريق الذكر والصلاة، وعندئذ تبدأ رحلة النـزول، فتدخل “عالم الملكوت، وتظهر في عالم الأنوار وتكتشف المغيبات ” ([14]). وما تطّلع عليه النفس، بعد سموّها، أو تشاهده، في معراجها ليس مغيّـبات الوجود، بل حقيقة ما اختفى وراء هذه المظاهر الوجودية من حقائق. يقول الشيخ: ((الفقير المتكمّل من رجال الله، يصل إلى مقامٍ، يصير عنده الغيب شهادة، وتصير الشهادة غيباً ))([15])؛ وحضور عالم الغيب إلى عالم الشهادة أمر يمكن تصوّره، في منظور شيخ صوفي يؤمن بقدرة الإنسان العارف على اختراق عالم الغيب بقدرة الاستبطان والحدس؛ لكن، ما معنى أن تصير الشهادة غيباً، لديه ؟ إنه نور التوحيد الذاتي، أو شهود الكمال المحمدي، إنه إشراق النور المحمدي على الظلمة الكونية، وإلغاؤه للحدود والقيود والحجب والعوائق في عين المشاهد الذي يفنى في ذلك النور، حتى تختفي المسافة بين المشاهد والمشهود، دون مماسة، أو اتحاد، أو حلول.

لا شك في أن الشيخ اليشرطي، في ذلك، مثله مثل الكثيرين من المتصوفة، الذين يؤمنون بضرورة إزالة حجاب الأكوان من طريق السالك، حتى تتضح لديه الرؤية، ((… العقل عقال، أي تراكم الحجب. ولا يقدر على الخلاص من تلك الحجب، إلا صاحب مرتبة نورانية محمدية…))([16]). لكن الشيخ لا يتعامل مع هذه الحجب الدنيوية بسلبية واعتزال، بمعنى دعوة مريده إلى ترك المجتمع، وهجر ملذات الحياة، والتخلي عن العقلانية، وإن كانت بعض أحاديثه يمكن تأويل ظاهرها بهذا الاتجاه، كقوله: ((معرفة الله عزل النفس))([17]). لكن، يبدو أن ما كان يدعو إليه هو جعل كل المظاهر الحياتية والوجودية في بصر العارف لا في بصيرته، وفي يده لا في قلبه. لذا، كان يطيب له أن يردد الدعاء القائل: ((اللهم اجعلها [أي الدنيا] في أيدينا، ولا تجعلها في قلوبنا))([18]). فالغين (أي الحجاب) مطلوب من المريد أن يطمسه في قلب العين (أي الحضور)، كما جاء في الحديث السابق([19])، أي أن يربط المريد مظاهر الوجود المختلفة بمعنى التوحيد الكامن خلفها؛ إذ لا يغيب عن فلسفة الشيخ أن هذه المخلوقات مظاهر الحق. 

وما سيتحقق منه المريد بعد الكشف، هو معرفة معنى الألوهية الكامن خلف تلك المظاهر، وهذا لا يتحقق ((بالعقل المقيد بطبيعته، بل بمعرفة الله ذوقاً وحالاً))([20]). لذا، كانت أولى مهمات العارف، هنا، هي تنحية العقل المجرّد، عن طريق المعرفة الحق، إذ إن أدواته يمكن أن تسير مع العارف إلى حدود بعينها، ثم مطلوب، من هذا العقل، أن يتنحى، ليترك للعلم الإلهي أن يأخذ بيده إلى عوالـِمَ يعجز عن مجاوزتها، وحده، وبأدواته التقليدية، من تحليل وقياس واستنباط… ألخ. 

وحدة الشهود المحمدي

آمن الشيخ اليشرطي بأن الحقيقة المحمدية أول مخلوق برز من الحضرة الأحدية، بل كانت تلك الحقيقة هي مادة القابل والاستعداد التي يسري ماؤها في هياكل الوجود، وينطوي نورها في ذرات الكون. من هذا المنطلق، دعا الشيخ إلى تحقيق مقام العبدية بتحقيق المقام المحمدي، فقال: ((اعرف محمدك؛ فإنه باب الحق)) ([21]). ويفسر الشيخ أبعاد نظرته، مؤكداً وعيه التام للبُعدين، الفلسفي والاجتماعي، لهذه النظرية التوحيدية، فيقول: ((من أخذ بالمجمل هلك. والفائدة بالتفصيل. يقولون([22]) “ما في [الوجود] إلا الله”.  نحن نسلّم لهم بذلك. لكن بالتفصيل، لا بالمجمل. فهم لا يعرفون الفائدة، كالنجار الذي يعمل ولا يعرف أن هذه القطعة تصلح لأن تكون نافذة أو خزانة. فمن أخذ بالمجمل هلك))([23])

الشيخ اليشرطي يطلب من المريد، في حال تذوقه معنى التوحيد، أو شهود الحق في ذرات الوجود، أن لا يتعامل مع الوجود بمفهوم العدمية، فيضيع أحكام المراتب الوجودية. ويوضح، في موقع آخر، فكرته المتمثلة بأن الوقوف بمقام الجمع المطلق، أي الاستهلاك في شهود الحق، وإلغاء الوجود الخارجي، وتضييع أحكام المراتب المعيّن بها ـ أي الجمع المعبّر عنه بمقام الطمس والعماء ـ ((جهلٌ وضلال، وخروج عن دائرة الحق المتعال..))([24]). وما كان يقصده الشيخ بعباراته “التفصيل” و”الحفاظ على أحكام المراتب”، هو البقاء بعد الفناء، بمعنى نقل أحوال المكاشفة والشهود والفناء إلى أرض البقاء والجماعة، أو الطريقة، بمعنى أدق. فمفاهيم الولاية، أو المعرفة، أو حتى الشهود، يجب أن تخضع لمعيار الاستمرارية، أو الثبات، أو البقاء الذي يحافظ، ضمناً، على مفهوم شمول الوجود ببعديه، الإلهي والبشري؛ وبالتالي، يحافظ على مفهوم الجماعة التي تحفظ الصلات بين العباد [العبدية]، لأن الشهود أو المعرفة، دون تجسيد على أرض الواقع، أو دون تأثير في الجماعة الإنسانية لا قيمة له، في نظر الشيخ. كما أنه لا قيمة للفناء دون اقترانه بالبقاء. ويمكن، أيضاً، أن نضيف أنه لا قيمة للمضمون دون الشكل.

من هذا المنظور الشمولي، يمزج الشيخ اليشرطي نظريته في وحدة الشهود المحمدي بمعانٍ اجتماعية، ويدمجها بمفهومه هو للوحدة الشهودية، فيفسر مقام وَحدة الشهود تفسيراً فريداً، يتعامل مع الموجودات تعاملاً حقيقياً، لا عدمياً. فيقول: ((… مَن يعطف على الفقير، ربنا، سبحانه وتعالى يحنّن عليه. ومَن يرحم الفقير، ربي يحسن إليه. وهذه وحدة الشهود، لا يحصل عليها أي إنسان، فهي للأنبياء والأصفياء ))([25]).  وهذا المفهوم يبعدنا كلياً عن ما ألفناه من تفسيرات فلسفية مُغرِقة في النظرية والشطح لوَحدة الشهود، أو وَحدة الوجود. ويرتبط حديث وَحدة الشهود، السابق، بأحد الأحاديث القدسية، التي مرت معنا، والتي يخاطب فيها الحق عبده قائلاً: (( يا ابن آدم ! مرضتُ فلم تعدني. قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟! قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده. أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ؟… ألخ )) الحديث([26]).

ولو ربطنا هذا المفهوم بالمعنى الإجرائي للمعرفة لدى الشيخ اليشرطي، لاتضحت لنا ملامح النظرية اليشرطية. فهو، في نظرته الشمولية، لا يفصل الفناء عن البقاء؛ كما أنه لم يفصل الظاهر عن الباطن، ولا النظرية عن التطبيق. وهو، هنا، لا يفصل وحدة الشهود المحمدية عن الواقع المعاش، انسجاماً مع نظريته التي يوجه بها مريديه، قائلاً: ((اجعل ظاهرك عبودية، وباطنك أحدية، وميـّز، ومهـّد))([27])، بمعنى أن المريد الذي يجتهد في السير الصوفي، حتى يصبح عارفاً متحققاً، عليه أن يعود إلى واقعه، فيؤثر فيه، ويتأثر به، انطلاقاً من بُعدين: البُعد الأول، بشري، يؤدي معاني العبودية، فيفرّق ويميز؛ والبُعد الثاني، أحدي، يتفاعل فيه باطن العارف مع شهوده الذي وصل إليه، والذي أوصله إلى معاينة حضور الذات الإلهية في كل ذرة من ذرات الوجود، فيجمع ويوحّد؛ لكن دون خلط أو شطح، أو تضييع لمراتب الوجود.

إن وحدة الشهود المحمدية اليشرطية توصل العارف لمعاينة أنوار الذات الإلهية، التي تقودنا إليها الحقيقة المحمدية، ضمن ظلال الوجود ومعانيه وكثرته. وهي معادلة صعبة، إلا على الممارس للمحبة الصوفية، بمعناها الواسع: محبة الناس، ومحبة الوجود، ومحبة الأخ، ومحبة الطريقة، ومحبة الشيخ.

وحتى نفهم نظرية (وحدة الشهود المحمدي) عند الشيخ علي نور الدين اليشرطي، يلزم أن ننظر نظرة مقارنة بين نظرية وَحدة الوجود([28])، بمجملها، وما يطرحه الشيخ اليشرطي من وحدة الشهود المحمدي، وعندها، ندرك أن وَحدة الوجود نظرية (فلسفية) تؤكد شهود العارف المستمدّ من بحار الوحدة التي تجمع الكثرة في الواحد؛ أما (وحدة الشهود المحمدي) فهي تشير إلى (مقام صوفي) يقوم على شهود العارف المستمدّ من بحار الحضرة المحمدية التي تتوسط بين الوَحدة والكثرة في الوجود، مع بقاء كل طرف في موقعه. وبفعل المحبة من الذات انبثقت – ولا نقول فاضت –الحضرة المحمدية. ومن الحضرة المحمدية برزت معاني الكثرة لتجمعها الوَحدة. وبالإرادة ينتشر الوجود لتقبضه العناية. وما بين الوَحدة والكثرة مراتب، مثلما بين الظهور والخفاء، أو ما بين الإرادة واللاإرادة.

ويمكن القول، كذلك، إن الوَحدة الوجودية تعني سريان (الذات) في الموجودات، بما يشمل الكون بكل ما فيه، مع احتمال الوصول إلى مرحلة المزج بين الخالق والمخلوق؛ بينما (وحدة الشهود المحمدي) حالٌ يصل فيه العارف إلى الشهود، في أعلى مراحل السلوك المعرفي، تشفّ فيه الحجب لدى العارف، بين نفسه وبين الحضرة المحمدية، فتتحقق الرؤية، دون خلط أو خلل في مراتب الوجود. مع إدراك أن وَحدة الوجود ليست تعبيراً عن اتصال شخصي بالذات أو فناء فيها؛ بل هي فكرة تعبر عن وحدة الخالق والمخلوق، إلى درجة الاندماج والخلط([29]). أما (وحدة الشهود المحمدي) فهي اتصال روحي، قوامه المحبة مع إثبات الإثنينية. وكذلك، فإن (وحدة الشهود المحمدي) تمثل، للصوفي، (ثمرة) لمعاناة الاتحاد بالواحد؛ بينما تعني وَحدة الوجود، للفيلسوف، (معرفة) ترتيب الكون بصدوره عن الواحد، مع التأكيد على أنه لا وجود، على الحقيقة إلا للواحد([30]).

يضاف إلى ذلك، أنه، فيما يقول أصحاب وَحدة الوجود([31]) بأن الله أصل لظل كل شيء، فإن صاحب نظرية محمدية الشهود يسعى لكي يرى النور المحمدي في كل شيء، مع مخالفته لكل شيء، دون إقلاق الروح والعقل بالتنظير الفلسفي، ومحاولةِ البحث عن أصل للأشياء. وفي حين أن أصحاب الوَحدة الوجودية يبحثون عن الوَحدة في المظاهر المتنافرة، ولو على حساب الموضوعية، هم يردّون الأشياء كلها إلى جوهر أو عنصر واحد، فيستنتجون وَحدة الأديان وغيرها؛ فإن المؤمنين بـ(وحدة الشهود المحمدي) لا يسعون وراء ذلك، فهم يحترمون تنوّع المظاهر؛ وبالتالي، فهم لا يقولون بجوهر أو عنصرٍ أصل، بل هو تجلٍ أو علة غائية، بمعنى أنها علة وغاية لوجود الأشياء. واعتماداً على هذه النقطة الأخيرة، فإن أصحاب الوَحدة الوجودية يقومون بإلغاء شخصية الأشياء، بمعنى ذوبان خصائص الوجود الموهوم في الوجود الحقيقي، بينما أصحاب شهود الوحدة المحمدية يقولون بالإثنينية، بمعنى احتفاظ كلِ طرف بكيانه وشخصيته المستقلة عن الآخر، فهم لا يقولون (بالوحدة)، بل (بشهود) الحقيقة المحمدية الواحدة.

وأسترجع، هنا، مع أستاذتي د. سعاد الحكيم، ما قالته من أن تجارب التعبير عن وَحدة الوجود، أو وَحدة الشهود، على الرغم من أنها تكررت، مرات عديدة، في التاريخ الفلسفي، فإنها لم تكرر نفسها أبداً… ([32]). لذا، فلا عجب أن تظهر الوَحدة، عند شيخنا اليشرطي، بثوب المحمدية الشهودية، متميزة بميزات مختلفة. فهو كان يؤمن أن (وحدة الشهود المحمدي) مقام دائم، يترجم هذا الشهود المحمدي إلى واقع مستمدّ من مقام (الفرق الثاني)، الذي جعله الصوفية أسمى من (مقام الجمع). حيث يرى الشيخ اليشرطي أن مقام المحمدية الشهودية حالُ اتصالٍ مستمرٍ، وقانونٌ ثابت([33])،كما يرد في أحاديثه، حيث قال: ((مَن استوى جمعه صار قيّوم كل ذرة من ذرات الوجود)) ([34])، مع إدراكنا أن القيومية ديمومة، ولا تتقيد بزمان أو مكان.

وكما أن الفارق بين وَحدة الوجود ووَحدة الشهود كالفارق ما بين الحقيقة الواقعة في ذاتها، مستقلة عن حس الإنسان وشعوره وعقله، وبين الحقيقة من حيث إدراكها في حالة خالصة، وتحت تأثير شعور معين؛ فإن الشيخ اليشرطي يرى أن كمال المحمدية لا يتم، إلا إذا أصبح الشهود مقاماً يستقر فيه العارف، ويؤثّر في كل مَن يحيطون به، وهذا لا يتحقق، إلا بتجاوز مقام الجمع، وربط الشهود بمقام المحمدية الثابت، الدائم، أولاً، ثم ربط الفناء الفردي بالبقاء الجماعي – الطرقي. يقول الشيخ: ((مـَن استوى جمعه، تتابعت العلوم مِن قلبه، وجوارحه، وحواسه)) ([35])، لأنه لا يضحى تجربة فردية منعزلة عن غيرها من التجارب، وغير خاضعة للتعميم([36])؛ بل يرتقي ليصبح مقاماً سلوكياً جماعياً طرقياً. يقول الشيخ، أيضاً،: ((مِن جملة النفل الموصل إلى المقام المحمود، إن وجدت أخاك جوعان فأطعمه، وإن وجدته عرياناً فأكسه؛ وإن لم يكن معه شيء، فأعطه)) ([37]).

إذن، فقد حاولت الشاذلية، أولاً؛ واليشرطية، ثانياً، ترسيخ مفهومٍ تحديثيٍ جديدٍ، يبتعد عن الإغراق في الغيبيات، والفلسفة النظرية، ويقترب من النبض الاجتماعي، والفلسفة العملية؛ حين يتخلّص شيخ الطريقة، في هذه المرحلة، من لغة التجريد، ويخلّص مريده من السعي وراء وحدة وجودية، أو اتحادٍ يجرّ عليه الريـبة والاتهام والعزلة. وتتلخص هذه النظرة اليقينية الجديدة في تحويل تلك المفاهيم، أعني مفاهيم السرّ الإلهي والحقيقة المحمدية،… وغيرها؛ إلى تجسيد أرضي. يقول الشيخ اليشرطي: (( أنا لا أحكم على ما يظهر في عالم الملكوت، ولا في عالم الجبروت، ولا في عالم من العوالم. لا أحكم إلا على ما يظهر في عالم الشهادة ))([38])

 

 

 

([1]) اليشرطية، نفحات، ص 57.

([2]) م. ن، ص 595.

([3]) (الشهود صوفياً، هو رؤية الحق بالحق. أما (المشاهدة)، فتطلق على رؤية الأشياء بدلائل التوحيد، وتطلق على رؤية الحق في الأشياء، وذلك هو الوجه الذي له تعالى، بحسب ظاهريته في كل شيء؛ انظر: الجرجاني، التعريفات، ص ص87 و145؛ وترى سعاد الحكيم أن ابن عربي استعمل الشهود بمعنى المشاهدة، على الترادف التام، والمشاهدة عنده هي: رؤية يسبقها علم بالمرئي، ولذلك يحكمها إقرار ونفي، على حين أن الرؤية لا إنكار فيها؛ وميز ابن عربي كذلك بين المشاهدة والكشف، من حيث إن الكشف هو رفع الحجاب والاطلاع على كل ما ورائه من أسرار. انظر: المعجم الصوفي، ص ص 659 و662 و664؛ وكذا قال أنور أبي خزام إن المشاهدة والمكاشفة يتقاربان في المعنى، إلا أن الكشف أتم في المعنى. وهو يقول إن المشاهدة، عند الغزالي، ثلاثة: مشاهدة بالحق، وهي رؤية الأشياء بدلائل التوحيد؛ ومشاهدة للحق، وهي رؤية الحق في الأشياء؛ ومشاهدة الحق، وهي حقيقة اليقين، بلا ارتياب؛ وهي، عند التهانوي، رؤية الحق ببصر القلب من غير شبهةٍ، كأنه رآه بالعين. انظر: أبي خزام، معجم، ص 163.

([4]) اليشرطية، نفحات، ص 415.

([5]) ورد عند أبي النصر الطوسي في كتاب اللمع، أن اليقين هو المكاشفة، والمكاشفة على ثلاثة أوجه: مكاشفة العيان بالأبصار يوم القيامة؛ ومكاشفة القلوب بحقائق الإيمان بمباشرة اليقين بلا كيف ولا حد؛ ومكاشفة الآيات بإظهار القدرة للأنبياء بالمعجزات، ولغيرهم بالكرامات؛ انظره، ص 102.

([6]) اليشرطية، نفحات، ص 447.

([7]) (الفناء)، عند بعض شيوخ التصوف،: التلاشي بالحق؛ وهو عند آخرين: سقوط الأوصاف المذمومة؛ وهو، كذلك، عدم شعور الشخص بنفسه ولا بشيء من لوازمها؛ وبمعنى أدق، هو تبديل الصفات البشرية بـالإلهية دون الذات. فكلما ارتفعت صفة قامت صفة إلهية مقامها، فيكون الحق سمعه وبصره، كما ورد في الحديث الشريف؛ انظر: أبي خزام، معجم، ص 137.

([8]) النص جزء من حديث ” الإسلام والإيمان والإحسان”، الذي أورده البخاري في صحيحه. انظر: موسوعة الحديث الشريف، الرياض: دار السلام، 1999م، ص6.

([9]) اليشرطية، نفحات، ص 433.

([10]) م. ن، ص 469.

([11]) م. ن، ص 69.

([12]) طه، أحاديث، خ، ص 74.

([13]) اليشرطية، نفحات، ص 523.

([14]) م. ن، ص 475.

([15]) م. ن، ص 278.

([16]) م. ن، ص 106.

([17]) م. ن، ص 317.

([18]) رواية شفوية.

([19]) اليشرطية، نفحات، ص 469.

([20]) اليشرطية، نفحات، ص 168.

([21]) م. ن، ص 120.

([22]) يقصد أصحاب نظرية التوحيد؛ ولعله يشير من طرف خفي إلى ابن عربي وابن الفارض والجيلي.

([23]) اليشرطية، نفحات، ص543.

([24]) اليشرطية، نفحات، ص ص 87-88.

([25]) م. ن، ص295.

([26]) هذا جزء من حديث قدسي ورد في صحيح مسلم، ج 4، ص1990.

([27]) اليشرطية، نفحات، ص 116.

([28]) ترى د. سعاد الحكيم أن مذهب وحدة الوجود ينقسم إلى وحدة حلولية ترى أن الله يحل في كل شيء، وكل شيء يتحد بالله لأنه جزء منه، كما هو شأن البراهمة؛ ووحدة صدورية ترى أن الواحد، مع تمام وحدته، يفيض عنه كل شيء بتراتب وجودي، وكل شيء يصبو للاتحاد بالله، الذي هو مصدر وجوده، كما قال بذلك أفلوطين. أما في التصوف الإسلامي فقد قال ابن عربي، والجيلي، وأتباع الشاذلية، بوحدة تقبل النِسَب والإضافات والأسماء؛ ورأوا أن الوجود واحد لا يتجزأ، وأن الموجودات هي صور قائمة بالوجود الواحد، فما ثـمة إلا وجود واحد، وصور موجودة، قائمة بالوجود الواحد. كما قال ابن سبعين، والعفيف التلمساني، والششتري، بوحدة مطلقة، ترى أن الله هو كل شيء، وكل شيء هو الله؛ أما السهروردي فقال بوحدة إشراقية نورانية، ترى أن الوجود كله نور. انظر: الحكيم، وحدة الوجود، ص ص 1518-1519

([29]) سارة، نظرية الاتصال، ص 59؛ وسعاد الحكيم، المعجم، مادة 674؛ مع أن نيكلسون يصرّ على أن الصوفية، الذين وصلوا إلى وحدة الوجود، وصلوها بالإدراك الذوقي في أحوال وجدهم، ولم يكن ذلك نتيجة النظر الفكري الفلسفي؛ انظر، له : في التصوف ، ص 72.

([30]) بدوي، تاريخ التصوف، ص 22 .

([31]) أقصد ما نسب إلى بعض المتصوفة، أمثال إبن عربي والحلاج وابن الفارض والنابلسي، من قول بوحدة الوجود أو وحدة الشهود .

([32]) الحكيم، وحدة الوجود، ص 1518.

([33]) إدراك الذات الإلهية، في التصوف، هو ” أن تعلم بطريق الكشف الإلهي أنك إياه وهو إياك، وأن لا اتحاد ولا حلول، وأن العبد عبد والرب رب .. ولا يكون ذلك إلا بعد السحق والمحق”؛ انظر: عبد الكريم الجيلي، الإنسان الكامل، ص 34 .

([34]) اليشرطية، نفحات، ص 583.

([35])م. ن، ص 214.

([36])يرى بعضهم أن التصوف يمتاز عن غيره من العلوم بأنه تجربة ذاتية، ومنهجه الذوق؛ وبالتالي، تتفاوت تجارب الصوفية وفقاً لمقام كل صوفي واستعداده؛ انظر: أحمد صبحي، التصوف، ص ص 45-46.

([37]) اليشرطية ، نفحات ، ص ص 60-61.

([38]) م. ن، ص 77.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!