في ماهية المصادر الإسلامية المبكرة وأهميتها التاريخية

في ماهية المصادر الإسلامية المبكرة وأهميتها التاريخية
في ماهية المصادر الإسلامية المبكرة
واختلاف آراء الباحثين في أهميتها التاريخية
 
حياة عمامو [*]
 
لكتابة تاريخ أية فترة زمنية في أي مجال جغرافي يتوجب الاعتماد على المصادر، التي عادة تتنوع وتتعدد. فإذا ما أردنا النظر في مسألة هذه المصادر بالنسبة إلى فترة الإسلام المبكر، نجد أنها اتسمت بانعدام التدوين التاريخي الرسمي. وبالرغم من ذلك وخلافا لما يتبادر إلى ذهن غير المختصين، تختص المصادر الإسلامية المبكرة بالوفرة وكثرة التنوع، مع تفاوت هام في القيمة والأهمية المتصلة بالأحداث والفترات. إذ يتعين على الباحث فيها أن يعود إلى القرآن والتفاسير والأحاديث النبوية وكتب السيرة، والأخبار والتراجم وكتب الفرق والنحل والفقه والأحكام وكتب الجغرافيا والمسالك والممالك وحتى كتب الأدب والشعر والأمثال…
 
وفضلا عن تنوع المصادر المعتمدة لا بد من اعتبار الفرق بين المصادر المتقدمة التي لم يتجاوز تأليفها القرن الرابع هجري/ العاشر ميلادي، والمصادر المتأخرة التي تكاثرت ابتداء من القرن السابع هجري/ الرابع عشر ميلادي، لأن المصادر الأولى أدق وأكثر تفصيلا وذلك لتعدد روايات الحدث الواحد واختلاف النظر إلى الظاهرة المدروسة. ولكن هذا الأمر لا يجب أن يقلل من أهمية المصادر المتأخرة تلك التي يمكن أن نعثر فيها على شذرات قديمة أخلت بها المصادر المتقدمة. وإلى جانب التمييز بين المصادر المتقدمة والمتأخرة يحسن التمييز بين الكتابات السنية والكتابات الخارجية والكتابات ذات الميول الشيعية وهي كتابات يزداد التضارب بينها فيما يتعلق بالأحداث والمواقف الواردة فيها كلما تقدمنا في الزمان.
 
وبالرغم من تعدد المصادر الإسلامية التي تؤرخ للفترة التأسيسية، فإن ما فيها من مادة غير متوازن لا تتكافأ فيه الفترات والأحداث. ففيما يتعلق بالسيرة النبوية نجد أن المادة العائدة إلى فترة المدينة أوفر بكثير من المادة العائدة إلى فترة مكة وأكثر تاريخية منها. وأن ما توفر من أخبار ومعلومات عن فتح العراق مثلا لأهم بكثير مما يتوفر من مادة عن فتح “بلاد المغرب” أو مناطق شرق آسيا.
 
وتتسم المادة التي توفرها مختلف المصادر أيضا بالتعقيد والتشعب في بعض الأحيان، وبالوضوح والبساطة في احيان أخرى. فما ورد فيها مثلا عن إنشاء عمر بن الخطاب لديوان العطاء وحكم أرض السواد من العراق لهو شديد التعقيد والتشعب حتى أنه ليس من السهل فهم إن كان العطاء يوزع حسب القرابة من الرسول أو حسب الأقدمية في الإسلام والبلاء في الجهاد. كما أن الاطلاع على المصادر بمختلف أنواعها لا يخول فهم إن كانت أرض السواد فيئا لكل المسلمين (أي ملكا مشاعا بينهم) أو فيئا للفاتحين لهذه الأرض فقط، وبناء على ذلك ما يمكن أن يكون نصيب كل فرد من السواد … أما الأحداث الواضحة والمبسطة فتهتم عادة بتواريخ تتالي الخلفاء على الحكم أو المعلومات المتعلقة بالأحداث الكبرى مثل أحداث الفتوح أو الحروب الأهلية بالرغم من ان التعمق في دراسة هذه الأحداث يكشف التعقد والغموض.
 
فضلا عن كل خاصيات المصادر الإسلامية المبكرة هذه، فإنها تختص بطبيعة خاصة تحدد ماهيتها، وهذا ما جعل الباحثين يتجادلون ويختلفون في تقييم قيمة هذه المصادر، فمنهم من اعتبرها مادة غير موثوق بها لكتابة تاريخ المسلمين الأول، ومنهم من اعتبر ان هذه المصادر تحتوي على مادة يمكن أن يقع اعتمادها لكتابة هذا التاريخ. فكيف يمكن تحديد ماهية هذه المصادر؟ وما هي آراء الباحثين حول أهمية هذه المصادر وقيمتها في كتابة تاريخ المسلمين المبكر؟
 
في طبيعة المصادر الإسلامية المبكرة:
تنقسم المصادر التي نعتمدها لكتابة تاريخ ما إلى مصادر مباشرة ومصادر غير مباشرة. اما المصادر المباشرة فتشمل الآثار المادية المكتوبة مثل النقائش والمسكوكات والآثار المادية الصامتة مثل المعالم الدينية والمعمارية والخزف …. والأثار المكتوبة التي حفظت في أرشيف إدارات الدول أو عند الخواص مثل الرسائل الرسمية وعهود الصلح والقرارات وعقود الملكية والمذكرات الشخصية وغيرها من الوثائق المباشرة التي وصلت إلينا باصولها أي كما كتبها أصحابها المباشرين. وأما المصادر المكتوبة غير المباشرة فهي عادة ما تكون آثار مكتوبة وصلت إلينا بشكليها المخطوط والمطبوع، وتتميز هذه المصادر غير المباشرة بكونها إعادة إنتاج لكتابات رسمية وغير رسمية، ولذلك يتمثل أبرز ما تتسم به في عدم مواكبتها للأحداث التي تنقلها.
 
تنتمي المصادر الإسلامية المبكرة إلى صنف المصادر غير المباشرة، فباستثناء بعض القطع النقدية المتفرقة في كثير من متاحف العالم وبعض النقائش وآثار القصور الأموية وبعض المنمنمات، لا تكاد توجد أية آثار مادية تمكن من دراسة أية ناحية من نواحي الإسلام المبكر وخاصة فترة النبوة، وفترة الخلفاء الراشدين وحتى العهد الأموي.
 
فضلا عن قلة المصادر المادية المباشرة وشحة ما توقره من معلومات، لا نكاد نعثر البتة على آثار مكتوبة مباشرة. تحدثنا المصادر غير المباشرة كثيرا عن رسائل بعث بها النبي إلى ملوك العرب والفرس والبيزنطيين، وتحدثنا أيضا عن صلح الحديبية وعن وثيقة دستور المدينة، التي نشر جميعها محمد حميد الله في كتاب سماه مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة ([1]). يتبادر إلى الذهن أن الباحث الباكستاني حميد الله قد جمع هذه الوثائق باصولها ثم حققها ونشرها، غير ان المتأمل فيها يجد أن ما سماه هذا الباحث وثائق لا يعدو أن يكون تجميعا لها من خلال مصادر القرن الثالث مثل تاريخ الطبري وأنساب البلاذري أو فتوحه وطبقات ابن سعد وغيرها من المصادر، وهي بذلك لا تمثل سوى إعادة كتابة لما أعيد إنتاجه في القرن الثالث عن كتابات لا يرقى تدوينها في أحسن الحالات إلى أكثر من منتصف القرن الثاني للهجرة.
 
تورد المصادر غير المباشرة التي دونت في منتصف القرن الثاني والقرن الثالث للهجرة الكثير من عهود الصلح التي عقدها المسلمون مع شعوب المناطق المغلوبة العائدة إلى العهد الراشدي والعهد الأموي، وتورد هذه المصادر أيضا العديد من الرسائل والخطب الرسمية العائدة إلى هذين العهدين. وكثيرا ما يضيف مؤلفو هذه المصادر لفظ “رأيت بأم عيني” لأول شخص في سلسلة الإسناد الذي يروي خبر عهد الصلح أو الرسالة أو الخطاب، غير ان هذا التدقيق لا يعفي من اعتبار ان ما تنقله هذه المصادر هو إعادة إنتاج لما تحويه وليست الوثائق بعينها، وهو الأمر الذي يحولها من وثائق أصيلة authentique إلى نصوص إخبارية غير مباشرة.
 
وتورد هذه المصادر غير المباشرة أيضا الكثير من المعلومات عن ديوان الإنشاء الذي أسسه الأمويون منذ عهد معاوية بن أبي سفيان، ولكن ما وصلنا من رسائل دواوين الإنشاء في دمشق وعواصم أقاليم الأمبراطورية الإسلامية لا يمثل سوى نسبة ضئيلة من الرسائل المكتوبة على ورق البردي في مصر، ويعود تدوينها على ما يبدو إلى بداية الفتح الإسلامي لمصر؛ أما بقية الرسائل الأخرى والتي من المفروض أن تكون أطنانا من الورق فلم يصل لنا منها سوى ما وقع إعادة كتابته في المصادر اللاحقة للعهد الأموي.
 
فضلا عن كل ما قيل عن مصادر الفترة الإسلامية المبكرة، لا بد من الإشارة إلى ان تدوين أحداثها في شكل مؤلفات متعددة ومتنوعة لم يتم إلا انطلاقا من منتصف القرن الثاني للهجرة. وقد وقع استعادة كتابتها في مؤلفات القرن الثالث للهجرة وهو الأمر الذي ادى إلى فقدان كتابات القرن الثاني للهجرة إلا ما ندر منها مثل كتاب وقعة صفين لنصر بن مزاحم المتوفي سنة 160هـ. ادى بروز التدوين بوصفه حركة ثقافية رسمية شاملة في منتصف القرن الثاني للهجرة إلى طرح مسألة نقل المعرفة من جيل إلى آخر، فهل تناقل المسلمون معرفتهم لتاريخهم المبكر بصفة شفوية أم بصفة شفوية ومكتوبة في آن واحد؟
 
لا يمكن الإجابة بصفة قطعية عن هذا السؤال لأن الباحثين اختلفت آراؤهم في هذا الشأن، فمنهم من يرى أن ما وصلنا من مادة تاريخية وأدبية في كتب القرن الثالث للهجرة خاصة لم يكن في الأصل سوى مادة شفوية تم تناقلها من جيل إلى جيل طيلة قرنين كاملين من الزمن، ومن القائلين بهذا الرأي نذكر تحديدا لامنس H.Lammens وسوفجيه J. Sauvaget وبلاشير R. Blachére وكايتاني T. Caetani تلاهم الكثير من المستشرقين الجدد مثل ونزبرو J. Wansbrough وكوك M. Cook وكراون P. Crone وغيرهم. ومن هؤلاء الباحثين من دافع عن فكرة التدوين المبكر للرواية الإسلامية مثل شبرنجر A. Sprenger منذ 1855 “حول التدوين المبكر للرواية الإسلامية فنقل نصوصا وأثبت عدم صحة الرأي القائل بأن الحديث كان يتداول أساسا بالرواية الشفوية” ([2])، وهوروفتس J. Horovitz الذي قام من خلال اهتمامه بمؤلفي السيرة النبوية منذ 1927 بدحض فكرة النقل الشفوي للرواية الإسلامية المبكرة ([3])، وبين من خلال إعادة بناء الروايات الشفاهية المتعلقة بالسيرة، انها تمثل في الأصل نصوصا مكتوبة تم استعادتها كليا أو جزئيا في الكتب الإخبارية العائدة إلى القرن الثالث هجري. ومن هؤلاء الدارسين من اطنب في تبيان خطإ كثير من المستشرقين في الحكم على الروايات الإسلامية المبكرة مثل فؤاد سزكين الذي أكد على أن المسلمين ورثوا أسلوب النقل الشفوي للكتب المدونة عن فترة ما قبل الإسلام ([4]).
 
أما شاكر مصطفى فيذكر فيما يتعلق بمسألة نقل المعرفة عند المسلمين خلال عصر ما قبل التدوين الرسمي بأنها كانت تقوم على ثلاث عمليات متتالية تبدأ بعملية استماع الشهادة من الشهود المباشرين للحدث التاريخي وهي عملية شفهية خالصة، ثم عملية حفظ المعلومات التي لا تتم عن طريق الذاكرة وحدها بل تتم في الكثرة الساحقة من الأحوال بالتسجيل والتدوين الكتابي الشخصي، ثم تليها عملية نقل المعلومات إلى الآخرين وهي بدورها عملية شفهية، ويعود شك الدارسين في موثوقية ما ورد في المصادر من مادة تاريخية – حسب شاكر مصطفى – إلى خلطهم بين هذه العمليات الثلاثة التي لا يقرون فيها بوجود فعل الكتابة من الأصل ([5]).
 
لقد حاول سزكين تفسير الأسباب التي جعلت “الباحثين وخاصة منهم الكثير من المستشرقين يخطئون في الحكم على الروايات الإسلامية ذات الشكل المتميز الفريد، والتي قد تكون ورثت أسلوب نقلها عن فترة ما قبل الإسلام حيث كانت دواوين الشعر تروى شفويا عن طريق الرواة مع أنها كانت مكتوبة مدونة، ومن المرجح أن صحابة الرسول كانوا يروون كتبه (رسائله) أو أوامر الخلفاء، إلى الولاة بنفس الطريقة” ([6]).
 
وعن هذه النقطة المتعلقة بالرسائل والكتب التي انبثقت عن الدولة الإسلامية المبكرة، وأمام ما يوجه من نقد إلى الإسلام المبكر لعدم وجود أرشيف يحفظ كل وثائق هذه الفترة، قامت وداد القاضي بمحاولات في اتجاه توثيق الرسائل وعهود الصلح الإسلامية التي تعود إلى القرن الأول للهجرة.
 
ويمكن تقسيم الرسائل الإسلامية المبكرة إلى ثلاثة أنواع وهي الرسائل الإدارية والرسائل السياسية وكلاهما يتعلق بالدولة، والرسائل العقدية وهي الرسائل المنسوبة إلى الحسن البصري والحسن بن محمد بن الحنفية وعمر بن عبد العزيز في موضوعي الإرجاء والقدر ([7]).
 
اما الرسائل العقدية فليس الخوض فيها من اختصاصنا. وأما الرسائل الإدارية فقد وقع ما يشبه الاتفاق على توثيقها بسبب اكتشاف عدة كميات من أوراق البردي خلال القرن التاسع عشر، نشر عدد لا بأس به عديد المستشرقين ومنهم خاصة كارل هاينرش بيكر K.H. Beker وأدولف غروهمان A. Grohmann وخاصة نابيا أبوط N. Abbott. وقد اعتمدت هذه الرسائل البردية الموجودة أساسا في مصر كنماذج لقياس مدى موثوقية بقية الرسائل الإدارية المتعلقة بالعهد الأموي وخاصة منذ عهد عبد الملك بن مروان.
 
واما الرسائل السياسية فتمثل أكثر ما وصلنا من رسائل الفترة المبكرة، وهي أعسر الرسائل على التوثيق ومع ذلك فإن عملية توثيقها ليست مستحيلة منهجا ([8]).
 
انطلقت الباحثة وداد القاضي من إنشاء ديوان الرسائل في عهد معاوية بن أبي سفيان وافترضت أن الوصول إلى الرسائل بنصوصها الأصلية (على الأقل بالنسبة إلى الفترة الثانية من العهد الأموي)، لم يكن امرا مستحيلا، غير أن الخراب والدمار الذين لحقا بأجهزة الدولة الأموية في دمشق وحران قد يكونا سببا إتلاف هذه الرسائل على الأقل بالنسبة إلى المركز. اما الأطراف فقد بقي أرشيف رسائلها محفوظا إلى فترة لاحقة بديلة وجود برديات مصر التي تم العثور عليها بعد مرور أكثر من ألف سنة ([9]).
 
وفي محاولة توثيقها لعهود الصلح الإسلامية المحفوظة في كتب التاريخ والخراج والأموال، اتبعت وداد القاضي طريقتين أساسيتين:
 
أما الطريقة الأولى فقد اقتبستها عن ألبرشت نوث A. Noth ([10]) وهي تلك التي اعتمد فيها أساسا على مقارنة شكل كتابة الوثائق ومحتوياتها من خلال عدة أشخاص رأوا بأم أعينهم النسخ الأصلية للعهود المروية مثل أبي عبيد بن سلام في “الأموال” والبلاذري في “فتوح البلدان” وابن أعثم الكوفي في “الفتوح” وحتى ابن عساكر (ت. 512هـ/ 1123م) في تاريخ دمشق ([11]). وقد تمكن نوث Noth، بعد التدقيق والبحث في عهود الصلح العائدة إلى القرن الأول هجري من التوصل إلى أنها وإن كانت لا تمثل نقلا نصيا حرفيا لأصول العهود المبرمة زمن الفتح إلا أنها ليست موضوعة من حيث المبدأ، وإنما الأمر الذي حدث هو ان روايتها وقع تناقلها خلال فترة زمنية طويلة وبصفة شفوية على الأكثر، فحدثت ألوان من الخلل في روايتها (استبدال المفردات بمفردات مطابقة في المعنى مخالفة في اللفظ أو السهو عن عبارة …) وهي بشكل عام، يمكن أن تعطي صورة تقريبية لخصائص المعاهدات المكتوبة وشكلها في عصر الفتوحات المبكر ([12]).
 
أما الطريقة الثانية فتمثل منهجا خاصا استنبطته المؤلفة ويمثل إضافة شخصية في دراسة عهود الصلح. ويقوم هذا المنهج على “مقارنة بعض خصائص هذه العهود من حيث الشكل بخصائص وثائق إدارية وصلتنا نصوصها الأصلية على ورق البردي وإن كانت ترجع إلى عصر متأخر عن عصر الفتوح الرئيسي بين سنتي 81 و110هـ” ([13]). وقد توصلت وداد القاضي من خلال هذه المقارنة إلى “تعزيز موثوقية هذه العهود المدروسة من حيث الخصائص العامة لها، بحيث يمكن اعتبارها صورة طيبة عن المادة الأصلية المفقودة ….” ([14]).
 
هكذا إذن، ومن خلال هذه المحاولات من أجل توثيق الرسائل والعهود الرسمية الإسلامية المبكرة يتبين – وإن لم تكن تمثل الأصول – أن الحالة التي وصلت إلينا بها والتي تعود إلى القرن الثالث هجري. وفي اقصى الحالات إلى النصف الثاني من القرن الثاني هجري، لم تكن من الاختلاق والكذب والتزوير الذي يجعل اعتمادها غير ممكن بالنسبة إلى المؤرخ.
 
ولئن كان البعض قد أكد على التدوين الإسلامي المبكر، وبذل البعض الآخر جهودا لتوثيق العديد من “الوثائق” الإسلامية الأولى، فإن هشام جعيط لم يبرز حرصا خاصا على إثبات أن الروايات الإسلامية المبكرة كانت مكتوبة وتم تناقلها على هذا الأساس بقدر ما حرص على إبراز فضل إخباريين قصاص من حجم أبي مخنف الذين لهثوا وراء أصالة الماضي فاقتلعوا بذلك المادة التاريخية المجمعة من أهواء النقل الشفوي وسجلوها ليستفيد من هذه المادة التاريخية مؤرخون مجمعون من امثال الطبري والبلاذري ([15]). فالمسألة فيما كتبه جعيط لا تتعلق بالتدوين المبكر أو المتأخر لما كان يتناقله المسلمون من اخبار الإسلام الأول أو حتى ما سبقه، وإنما تتعلق بسيرورة تاريخية بدأت ببروز الوعي التاريخي بعد أحداث الفتنة الثانية مباشرة، فظهر بذلك مجمعون محترفون Professionnels de la mémoire collective احترفوا باخبار الإسلام الأول عن طريق المشافهة ليظهر بعدهم بين 80 و 100هـ جيل ثان اعتمد في نقل هذه الأخبار – إلى جانب الذاكرة – على الصحف الشخصية، ومنهم انتقل الأمر إلى الذين نشطوا بين 100 و 140هـ والذين كثر معهم تدوين الأخبار في صحف شخصية دون ان يبلغ مرحلة التدوين التاريخي التي بدأت مع أبي مخنف المتوفي سنة 157هـ وتلاه سيف بن عمر والواقدي والمدائني. وبذلك تكون المادة التي اعتمدها مؤلفو القرن الثالث هي مادة مكتوبة أساسا وقد أدى ظهور هذه الكتب الموسوعية إلى اندثار الكتب السابقة باستثناء وقعة صفين لنصر بن مزاحم (أي تلك التي تعود إلى النصف الثاني من القرن الثاني وقبله بقليل).
 
على أساس ما تقدم يمكن اعتبار ما وصلنا من كتابات عن صدر الإسلام تتويجا لسيرورة إنتاج مادة تاريخية توقرت فيها عديد العناصر التي تجعل اعتمادها لا يتنافى مع الكتابة التاريخية والمتمثلة أساسا في:
 
الكتابة المبكرة لكثير من عناصر المادة التاريخية سواء فيما يتعلق بالوثائق الرسمية (رسائل وعهود صلح) والتي ضاعت أصولها ووصلتنا بصور طيبة لا تختلف عن الأصول إلا في بعض المفردات وليس في المعاني، أو الأخبار التي سجلت خلال القرن الأول وبداية القرن الثاني بصفة فردية وجزئية قبل أن تصبح منذ النصف الثاني من القرن الثاني حركة ثقافية عامة لتتويج سيرورة تاريخية تعود جذورها إلى اكثر من قرن؛ وبذل خلالها مؤرخون كبار من أمثال أبي مخنف وسيف بن عمر والواقدي والمدائني مجهودا جبارا لتخليص المادة الخام من كل ما علق بها من تناقضات وفوضى فانتقوا منها وحذفوا وأعادوا صياغتها بشكل آخر حتى أصبحت مادة تاريخية لم يتمثلها مؤلفوها من واقع ذهني واجتماعي وثقافي لزمنهم وإنما تمثلوها من عالم سبقهم بقرن من حياتهم وهو ما يحيل على خيال تاريخي متطابق مع ما حدث فعلا ([16]).
دور محترفي الذاكرة الذين برزوا منذ نهاية الفتنة الثانية في الحفاظ على ذاكر الأمة من التلف. ويبدو ان هؤلاء كانوا يتدربون بطريقة خاصة تجعلهم يتذكرون تقريبا حرفيا كل ما يسمعون أو يقرؤون لما يمكن أن يوصموا به من الضعف في الحافظة والجهل إذا ما اعتمدوا على صحف مكتوبة “إذ كان من دواعي الفخر عند المسلمين الأوائل الاعتماد على الحافظة وحدها في كل وقت ومكان وعدم اللجوء إلى المدونات وعدم الاشتغال بالتدوين” ([17]).
تقيد المسلمين الأوائل منذ فترة مبكرة بـ “علم الجرح والتعديل” والذي يقوم على أساس “نقد السند ونقد التحثيل”. ويذكر أيمن فؤاد السيد في هذا الصدد أن “النقد ظهر مبكرا مع ظهور رواية الخبر ولكنه لم يمارس بقصد تمييز الصحيح من الزائف إلا بعد انقسام المسلمين وظهور الفتن” ([18]). وهذا ما يعني أن المسلمين وهم ينقلون أخبار الفترة الإسلامية الأولى لم يكن بإمكانهم أن يرووا ما يشاءون دون قيد أو ضبط لأنهم لو لم يتقيدوا بشروط رواية الأخبار فإنهم يجرحون ويتهمون بالضعف ومن ثم تسحب منهم الثقة في رواية الأخبار.
الرحلات التي كان يتكبدها مجمعو الأخبار والتي كانت تستغرق الفترة الأكبر من أعمارهم من اجل التثبت في الأخبار والسعي إلى استقائها من مصادرها الأصلية مما يوحي بوجودها مكتوبة في اماكن معينة.
لقد تباينت الآراء إذن حول مدى فائدة اعتماد المادة الواردة في المصادر غير المباشرة في كتابة التاريخ الإسلامي المبكر، ورغم هذا الاختلاف في تقييمها فقد اتفقت ضمنيا على تدوينها المتأخر مما أفقدها اعتبار الدارسين لها كوثائق مباشرة. وما الخلط بينها باعتبارها مصادر غير مباشرة وغير أصلية وبين الوثائق المباشرة لوصولها إلى الدارسين بأصولها. إلا نتيجة الخلط الشائع بين الوثيقة والنص الإخباري أو الأدبي والناتج – فيما نعتقد – عن الخلط بين المصطلحات في اللغات الأوروبية ذات الجذور اللاتينية مثل الفرنسية التي تستعمل لفظ document وترجمتها وثيقة في اللغة العربية على كل ما يصلح استعماله حجة أو مصدر للمعلومات؛ غير أن اللغة الفرنسية وربما بقية اللغات الأوروبية لا تذكر كلمة document وتصمت، وإنما تضيف ألفاظ أخرى لتدقيق طبيعتها كأن نجد document d’archive, document juridique, document épigraphique, document littéraire…..
 
اما في اللغة العربية فإن المصادر تقسم إلى صنفين كبيرين: الوثائق أو المصادر الأرشيفية، والكتابات السردية ومنها النصوص الأدبية والإخبارية والفقهية والجغرافية. يفرق جعيط بين هذين النوعين من المصادر، فيذكر أن المصادر السردية دونت عن وعي من اجل ترك شهادة في حين تشارك الوثائق الأرشيفية في الحركة العادية للوجود الإنساني ([19]).
 
عل هذا الأساس من التفريق بين معنى المصادر في اللغة العربية وبعض اللغات الأوروبية، يتضح أن مصادر الإسلام المبكر هي أساسا مصادر غير مباشرة كتبت بعد زمن طويل من حدوث الأحداث التي ترويها وتكاد تفتقد كليا لوجود وثائق بأصولها.
 
مقاربات الباحثين في اعتماد المصادر الإسلامية لكتابة تاريخ المسلمين المبكر:
مثلما تعددت مواقف الباحثين التقييمية للمصادر الإسلامية المبكرة، تعددت أيضا المقاربات التي اعتمدوها في تاريخ المسلمين الأول بالاعتماد على هذه المصادر.
 
المقاربة التمجيدية:
توخى هذه المقاربة أغلب الدارسين المسلمين وخاصة من المؤرخين، إذ اعتبروا ان ما ورد في المصادر العربية عن فترة الإسلام المبكر يمثل حقائق مطلقة ومسلمات لا يرقى إليها الشك. فكان تعاملهم مع نصوص هذه الفترة من الإسلام وكأنها “مقدسات”، وليست نصوصا تاريخية قابلة للنقد. وهو ما حدا بهؤلاء المؤرخين إلى أن يعتمدوا كل ما ورد عن هذه الفترة التأسيسية ليكتبوا عنها ما يشبه الميتا تاريخ وليس التاريخ.
 
المقاربة الوصفية:
تعتمد هذه المقاربة على كل ما ورد في المصادر دون إعمال الفكر النقدي. وقد سادت هذه المقاربة الوصفية للمصادر العربية على كتابة تاريخ المسلمين المبكر منذ العصور الوسطى وتواصلت إلى وقتنا الحاضر. يتمثل أهم ما يميز الكتابة التاريخية عند أصحاب هذه المقاربة في الأسلوب الجذاب الذي يثير فضول القارئ. ومن أقطاب المقاربة الوصفية يمكن أن نذكر W. Muir و V. Grunbaum و H. Kennedy و W.M. Watt وعبد الحي شعبان.
 
إلى جانب أصحاب المقاربة التمجيدية وأصحاب المقاربة الوصفية، برزت مجموعة من المستشرقين أبدوا حرصا خاصا على نقد الروايات الإسلامية المتعلقة بالإسلام الأول قصد تخليصها من كل ما علق بها من الشوائب التي طرأت عليها عبر السنين، غير ان بعضهم بالغ في نقد هذه الروايات وشكك في كل ما وصلنا منها.
 
وهنا لا بد من التأكيد على فضل الاستشراق في بحث قضايا الإسلام المبكر وخاصة قضية المصادر التي دار حولها جدل شارك فيه إلى جانب المستشرقين، العديد من الدارسين المسلمين. وقد استغرق هذا الجدل زمنا يفوق القرن وأسفر عن تبلور أكثر من موقف اتخذه الباحثون تجاه هذه المصادر المتضمنة لمادة ضخمة عن الإسلام المبكر. ويمكن حصر هذه المواقف في مقاربتين بارزتين:
 
المقاربة التشكيكية:
يمكن نعت أصحاب هذه المقاربة بـ “التشكيكيين”، لتشكيكهم في أصالة كل ما روي عن الإسلام الأول من روايات سواء كانت أحاديث أو اخبار أو غيرها. وترجع وداد القاضي إثارة هذه المسألة إلى “الغموض الذي لا يزال يحيط بالتدوين التاريخي عند العرب” ([20]). وقد بلغ أمر التشكيك في مصداقية الروايات الإسلامية في صدر الإسلام أوجه في فترتين هامتين. بدأت الأولى منذ أواخر القرن التاسع عشر مع ما كتبه المستشرق المجري جولدزيهر Goldzhier، الذي يرى سزكين “أنه يصر على مفهوم خطأ يقول بأن الرواية العربية لم تكن إلا شفوية ([21])”. أما الثانية فتعود إلى أواخر القرن العشرين إثر صدور كتاب ونزبرو Wansbrough Coranic Studies سنة 1977، الذي شكك في موثوقية النصوص العربية القديمة بما في ذلك القرآن نفسه، وصدور كتاب P. Crone & M. Cook Hagarism سنة 1977 أيضا، وفيه تم نزع أية موثوقية على النصوص العربية ووقع تفضيل النصوص “غير الإسلامية” عليها مثل النصوص اليونانية والسريانية ([22])، لأن النصوص العربية “المتأخرة” التدوين حسب هذين المؤلفين لا يمكن سوى الاستئناس بها مع اعتماد كلي على غيرها من النصوص ([23]). ولم يكتف هؤلاء المشككون بنفي أية أهمية عن المصادر الإسلامية التي تتضمن روايات عن الإسلام المبكر، وإنما هاجموا الكثير من كبار المستشرقين من أمثال ريتر Ritter، ومادلونج Madlung، وفان آس Van Ess، في محاولاتهم لرد بعض النصوص إلى القرن الأول ([24]). وقد تخلل فترتي أوج التشكيك في مصداقية المصادر الإسلامية الراجعة إلى الفترة الأولى العديد من الكتابات التي نسجت بشكل أو بآخر على منوال ما كتبه جولدزيهر مثل مادة “الطبري” في دائرة المعارف الإسلامية، وقد أكد صاحبها على أن أبا جرير الذي عاش في اواخر القرن الثالث للهجرة (310هـ/ 923م)، استمد مادته تارة عن طريق الرواية الشفوية وأخرى عن طريق المصادر المدونة ([25]). أما سوفاجيه Sauvaget فقد اعتبر أن كل مادة الكتب التي وصلت إلينا إنما هي مصادر شفوية ([26])، ولذلك فإن المعلومات الواردة فيها لا معنى لها. وبنفس الطريقة شكك بلاشير Blachére في مؤلفات اللغويين المفضل الضبي (ت. 170هـ/ 789م) وابن الأعرابي (231هـ/ 844م) ([27]).
 
وتواصل شك الكثير من المستشرقين في نقطة أو أكثر من مادة التاريخ الإسلامي المبكر فنتج عن ذلك العديد من الدراسات القيمة التي طورت إلى حد كبير المنهج النقدي في التعامل مع هذه المادة، ومن أبرز هذه الدراسات ما كتبه دي كوجويه M.J. De Cojoe وفلهاوزن Y. Welhausen في اواخر القرن التاسع عشر؛ وكايتاني L. Caetani ولامنس H. Lammens وشاخت J. Shacht وبرانشفيك R. Brunshvig في النصف الأول من القرن العشرين ([28]).
 
بالرغم من أن الشك في أصالة بعض عناصر التاريخ افسلامي المبكر كان قائما منذ أواخر القرن التاسع عشر، إلا أن أهدافه الأساسية كانت منصبة – على ما يبدو في اتجاه تركيز منهج نقدي صارم من أجل التفريق بين ما هو تاريخي في هذه المادة يساعد على إعادة تركيب النواة التي قامت عليها الحضارة الإسلامية للقرون اللاحقة وما هو إضافي ووهمي وأسطوري وقع إلحاقه بالمادة الأصلية لأسباب دينية عقائدية واجتماعية حضارية وهو أمر طبيعي، ينم عن مناخ اجتماعي سليم، في مجتمع متعدد الانتماءات الإتنية والدينية والاجتماعية والحضارية.
 
أما الموجة التشكيكية المتأخرة والتي اندلعت في العالم الأنقلوسكسوني أساسا ومن أقطابها ونزبرو J. Wansbrough وكرون P. Crone وكوك M. Cook وجرالد هاوتنغ G. Hawting وموشي شارون M. Sharon وجوديت كورن J. Koren ويهودا نيفو Y. Nevo ونورمان كلدر N. Calder، فإنها تنفي “الأصالة” عن كل أنواع المصادر العربية الإسلامية وبالتالي كل مصداقية لها ويدعو معظم أقطاب هذه الموجة إلى اعتماد المصادر الأجنبية وخاصة اليونانية والسريانية عوض المصادر العربية الإسلامية.
 
يعتبر هذا التمشي الجديد الذي نقده الكثير من الباحثين المستشرقين الآخرين في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، خطيرا لأكثر من سبب:
 
لا يمكن دراسة تاريخ أمة ما باعتماد مصادر “أجنبية” اعتمادا رئيسيا خاصة إذا كانت لهذه الأمة مصادرها، ومن ثم يصبح اعتماد المصادر الأجنبية أمرا مستحسنا إذا كانت الغاية منه المقارنة والإثراء والإضافة والإيضاح والتدقيق.
ماذا نفعل في حالة غياب هذه المصادر “الأجنبية” في بعض المناطق وبعض الفترات مثلما هو الشأن بالنسبة إلى دراسة تاريخ “شمال إفريقيا” خلال القرنين الأول والثاني للهجرة، حيث لا نجد أي مصادر يمكن اعتمادها باستثناء المصادر العربية المتأخرة عن الفترة. انحذفها من التاريخ بحجة أن ما يوجد من مصادر لا يمكن من الوصول إلى “الواقع الحقيقي” La réalité vraie ([29]) الذي نادت به المدرسة التاريخية الوضعية منذ أواخر القرن التاسع عشر، مع العلم أن هذا المنهج التاريخي قد تجاوزه علماء الغرب منذ زمن طويل.
المقاربة النقدية:
لقد استفاد المشككون في “أصالة” المادة الإسلامية المبكرة كثيرا من أصحاب المقاربة النقدية للمصادر. بدأ ظهور هذه المقاربة منذ منتصف القرن التاسع عشر، وهو نفس الزمن الذي برزت خلاله المدرسة الوضعية في اوروبا. قامت المقاربة النقدية للمصادر على اعتبارين إثنين، يتعلق أولها بنقل المعرفة من شخص إلى آخر وما يمكن أن يلحق المادة التاريخية من جراء هذا النقل، خاصة إذا ما تعلق الأمر بالإخباريين المتأخرين من الذين تأثروا بالجدل العقائدي مما من شأنه أنه يؤثر على المادة التاريخية في اتجاه تحريفها بتضخيم أو طمس بعض جوانبها. أما الاعتبار الثاني فتتقاسمه المقاربة النقدية مع المقاربة الوصفية، إذ يعتقد أنصار كلا المقاربتين في هامشية مادة الحديث بالنسبة إلى إعادة تركيب التاريخ الإسلامي، لأن أساس هذه المادة، حسب أصحاب هاتين المقاربتين، غير تاريخي فضلا على أن مشاغله دينية مستمدة من النص القرآني. ويسوق لنا دونر بعض المؤلفين الذين اعتمدوا المقاربة النقدية للمصادر، فيبدأ بذكر دي كوجويه M.J. de Cojoe، ثم فلهوزن J. Welhausen، ثم يتعرض إلى آخرين وخاصة منهم كايتانني L. Caetani ([30]) مبرزا أهم ما توصلوا إليه من نتائج فيما يتعلق بنقد رواة المصادر وخاصة ابن إسحاق والواقدي بالنسبة إلى دي كوجويه، وسيف بن عمر بالنسبة إلى فلهوزن، مع الإشارة إلى امتناع كليهما عن التعرض مباشرة إلى حياة النبي محمد، وقد يعود هذا الامتناع إلى عدم ثقتهما في مادة الحديث ([31]).
 
الحصيلة:
 
كي ننتهي من الجدل القائم منذ أكثر من قرن بين الباحثين في “أصالة” الروايات الإسلامية المبكرة وما إذا كان بالإمكان اعتمادها كمادة تاريخية لبحث قضايا الإسلام الأول، لا بد من التركيز على أن المقاربة التشكيكية التي برزت في اواخر القرن الماضي، استفادت كثيرا من أبحاث المقاربة النقدية للمصادر والمقاربة النقدية للحديث اللتين تطورتا في اواخر القرن التاسع عشر إلى حدود نهاية النصف الأول من القرن العشرين. غير ان المقاربتين الأخيرتين، ورغم أنهما أشارتا إلى بعض الأساطير الخيالية وبعض التحوير والاختلال والاختلاق والإسقاط بشتى أنواعه في الروايات الإسلامية المبكرة، إلا أن هذا لم يمنع أصحابها من الاعتراف بوجود مادة “أصيلة” يمكن التوصل إليها باستعمال المنهج النقدي الصارم في التعامل مع هذه الروايات خلافا لأصحاب المقاربة “التشكيكية” الذين أو غلوا في النقد إلى أن توصلوا إلى أنه لا حقيقة إطلاقا في المصادر الإسلامية المبكرة فكانت دعوة بعضهم إلى البحث في حقيقة الإسلام الأول خارج النصوص الإسلامية (كوك وكرون)، وقول البعض الآخر باستحالة البحث في هذا الأمر (ونزبرو).
 
لقد أثار ما توصل إليه أقطاب المقاربة “التشكيكية” من نتائج حول الإسلام الأول الكثير من الضجيج في الأوساط الأكاديمية الغربية. ومن أبرز الذين كتبوا في هذا المجال المستشرق الفرنسي ديكوبار C. Décobert ([32]) الذي استعرض في البداية أهم النتائج التي توصل إليها كل من كراون وكوك في كتابهما Hagarism، ثم ونزبرو J. Wansbrough في كتابيه Quranic Studies وThe Sectarian Milieu. تقوم الفكرة الأساسية للكتاب الأول على أن ما سمي إسلاما، مثل في الحقيقة نتاجا متأخرا نسبيا لحركة التقاء ثم افتراق مع مجموعات دينية مسيحية وخاصة يهودية. وقد حدث هذا الالتقاء والافتراق في سوريا، وبذلك يكون الإسلام مولودا في سوريا، حسب مؤلفي كتاب Hagarism، وليس في مكة أو في المدينة. اما أساس تأليف ونزبرو لكتابيه فيتلخص في استنتاجه لاستحالة كتابه تاريخ الإسلام الأول، ولا تعود هذه الاستحالة إلى نقص في المعلومات، وإنما تعود إلى اعتباره لها مجرد ترتيب مناقبي متأخر للماضي.
 
ويعلق ديكوبار ([33]) على النتائج التي توصل إليها مؤلفو الكتب المذكورة أعلاه، فينعتها بالمغالاة، لأن كراون وكوك اللذين نسفا أية اهمية للمصادر العربية الإسلامية، قد اعتمدا للقيام بذلك على مادة ضعيفة وفي بعض الأحيان مغلوطة. اما ونزبرو فقط سقط وبدون أي حذر في اعتبار المصادر الإسلامية المبكرة مصادر تم تأليفها عن طريق عناصر أجنبية عن العرب، وبذلك يضع مقاربته موضع تساؤل، لأن نعته للعلماء المسلمين الأوائل بكونهم عراقيين متهودين أمر غير مقبول لا تاريخيا ولا سوسيولوجيا.
 
وبالرغم من تقليل ديكوبار ([34]) لأهمية النتائج التي توصل لها كل من كراون وكوك وونزبرو، فهو لا ينكر أن طرح ما ورد فيها عن مادة المصادر العربية الإسلامية المبكرة يعتبر محرجا ولافتا للانتباه، لأنه يضع الباحث أمام مشاكل حقيقية لعل اهمها فعل ولادة الإسلام بوصفه ظاهرة دينية، مذكرا أن مثل هذه المشاكل هي قديمة قدم الاستشراق الأكاديمي الذي نحت الأبحاث فيه منحيين إثنين فإما اعتماد مادة مصدرية خارجية (آثار ومصادر أدبية خارجية)، وإما تسليط النقد الداخلي على مصادر داخلية (المصادر العربية الإسلامية)، مع رغبة في كلا الحالتين إلى عدم الخلط بين الميادين، وعدم اعتبار المصادر الأدبية العربية على أساس انها مصادر مباشرة، وهو الأمر الذي لم تستطع دراسات كراون وكوك وونزبرو تجنب الخلط بين عناصره.
 
وأما دونر Donner ([35])، فيعتقد أن تاريخ الإسلام الأول، لا يمكن أن يوجد إلا في النصوص وبقايا النصوص القديمة المنتشرة في الكثير من الكتب التاريخية العائدة إلى القرن الثالث هجري وما بعده، وهو نفس ما توصل إليه جعيط ([36]) من خلال تأكيده على القيمة التاريخية لما وصل إلينا من مؤلفين كبار أمثال أبي مخنف وسيف بن عمر والسائب الكلبي والواقدي والمدائني الذي تؤدي قراءة آثارهم المتأنية والثرية بالأشخاص والأحداث إلى الاندماج في واقعهم بشكل يجعل الباحث في هذه الفترة وكأنه يعيش فيها حقا.
 
خلافا لديكوبار ودونر وجعيط، كان تأثر دي بريمار L. A. De Premare ([37]) إيجابيا بكتابات أصحاب المقاربة “التشكيكية”. إذ خصص مقدمة كتابه للتأكيد على عدم وجود وثائق عربية إسلامية مباشرة يمكن اعتمادها لكتابة التاريخ الإسلامي الأول. وأشار بطريقة غير مباشرة إلى أنه لا يمكن تعويض هذا العيب الأساسي في طبيعة المصادر الإسلامية بالاعتماد الكلي على المصادر السريانية واليونانية والأرمينية والقبطية المسيحية نظرا لقلة المعطيات الواردة فيها وعدم تناولها لكل القضايا المطروحة دراستها على مؤرخي الفترة التأسيسية للإسلام، بالرغم من أن المعطيات في هذه المصادر ما زالت غير معتمدة بما فيه الكفاية من قبل هؤلاء المؤرخين. وعلى هذا الأساس توصل دي بريمار إلى استحالة كتابة تاريخ المسلمين الأول وخاصة سيرة نبيهم. ورغم هذا الاستنتاج الواضح لم يمتنع هذا المستشرق الفرنسي عن الكتابة في عديد القضايا المتعلقة بالتجارة وعرب شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، وعن يثرب والهجرة و “دستور المدينة”، واليهود والغزوات الإسلامية في عهد النبوة … معتمدا في ذلك على ما ورد في المصادر العربية الإسلامية بدرجة أولى، وعلى المصادر الخارجية بدرجة ثانية ([38]).
 
إن ما يثير الانتباه بالنسبة إلى جدل الباحثين في أصالة المادة المصدرية للإسلام المبكر هو التشكيك في مصداقيتها بسبب كتابتها المتأخرة وغياب الوثائق الأرشيفية، وهو أمر يستوجب بعض التوقف.
 
لا يمكن كتابة التاريخ الإسلامي المبكر، بإقصاء المصادر الإسلامية بدعوى عدم أصالتها، لأن المصادر غير الإسلامية سواء كانت يونانية، سريانية، أرمينية، قبطية أو حتى عربية تعاني من نفس المشكل المتعلق بأصالة مادتها. إن هذه المصادر بمختلف أنواعها سواء كانت إخبارية، مناقبية، أو جدالية تمجيدية، لم تصل إلينا كما هو شأن المصادر الإسلامية في أصولها وإنما في نسخ، بعد عدة قرون من تأليفها الأصلي. وهذا ما يجعل تعويل كوك وكراون على هذه المصادر لكتابة التاريخ الإسلامي المبكر أمرا لا معنى له لأنها تفتقد إلى الأصالة مثلما هو شأن المصادر الإسلامية ([39])، ولذلك يصبح اعتمادها لكتابة تاريخ الآخر العدو لا مبرر له إلا نظرة الاستعلاء التي تعود المسيحيون على توخيها إزاء المسلمين منذ بداية الإسلام ([40]). هذا فضلا على أن التدوين غير المعاصر للأحداث لا يهم المسلمين وحدهم وإنما يشتركون في ذلك مع كل الشعوب الأخرى إذ يؤكد لوسيان فيفر L. Febvre” أن الناس إلى حدود القرن السادس عشر ميلادي، كانوا يستمعون أكثر مما يرون ويدونون ([41])”. اما رأي ونزبر والقائل باستحالة كتابة تاريخ المسلمين المبكر فلا يمكن أخذه مأخذ الجدية، لأن المبررات التي يسوقها تفتقد إلى الحجة والمنطق.
 
كما يتسنى رفض الرأي القائل بأن غياب الوثائق الأرشيفية يعيق كتابة التاريخ الإسلامي المبكر، لأن زمن المدرسة الوضعية الذي يستوجب وجود مثل هذه الوثائق قد ولى، ولأن غيابها لا يهم المسلمين وحدهم، وإنما يهم كذلك الإغريق والرومان، وفي هذا الصدد يذكر جعيط أن المصادر المكتوبة بالنسبة إلى شمال إفريقيا في الفترة القديمة، وبالرغم من طول سيطرة الرومان عليها تفتقد تقريبا كليا إلى الأرشيف ([42])، باستثناء النقائش التي لا يمكن أن تفيد في كل ما يهتم به المؤرخ، ولا بالنسبة إلى كل الفضاء المزمع كتابة تاريخه. وفي هذا السياق لا يفوتنا أن نسوق ما قاله شكسبير “افترضوا أنه لا يوجد أرشيفا، أفلا يكفي أن تنقل الحقيقة من عصر إلى عصر لتبلغ الأجيال القادمة إلى آخر يوم في العالم ([43]).
 
الخاتمة:
على أساس ما تقدم، يمكن القول بأن المقاربة التشكيكية مغرقة في المبالغة عندما تسحب كل مصداقية عن المصادر الإسلامية فيما يتعلق بالإسلام المبكر، خاصة وهي تتناول المسألة خارج النسق الإنساني لتجعلها خاصة بالمسلمين وحدهم، مما يوحي بأن أصحاب المقاربة التشكيكية تعاملوا مع حضارة المسلمين وتاريخهم على أساس انهما دون مستوى حضارة وتاريخ الإغريق والرومان والبيزنطيين وحتى الغرب المسيحي.
 
لا نرمي من خلال هذه المآخذ، الدعوة إلى التعامل مع ما ورد في المصادر الإسلامية كحقائق مطلقة لا يجب نقدها ووضعها موضع سؤال، بقدر ما ندعو إلى التعامل مع هذه المصادر على أساس المناهج المعتمدة في دراسة تاريخ كل الحضارات الأخرى، مع مقارنة المشاكل التي تعترضنا فيها على صعيد المنهج مع ما يشابهها في تاريخ الحضارات الأخرى التي عاصرتها أو سبقتها. باعتماد هذه الطريقة في التعامل مع المصادر الإسلامية يمكن اعتبار تاريخ المسلمين حلقة من حلقات التوجه العالمي ([44])، وهي النظرة الوحيدة التي من شأنها أن تمكن المؤرخون سواء كانوا من داخل هذه الحضارة أو من خارجها من كتابة تاريخ أقرب إلى الإنصاف و”الموضوعية”.
 
يسعى الغرض من وراء طرح هذا الموضوع بصفة مقتضبة إلى دعوة المشتغلين على المصادر العربية الإسلامية المبكرة من العرب والمسلمين إلى إعادة النظر في المناهج المعتمدة في التعامل مع هذه المصادر من اجل إرساء طرق الكتابة الجديدة، التي ما زالوا يصرون على عدم الانخراط فيها رغم أن مصادرهم تزخر بتعدد القراءات ([45]).
الهوامش 
 
[*] كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس (قسم التاريخ).
 
[1] محمد حميد الله الحيدر آبادي، مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، القاهرة، 1956، الطبعة الثانية.
 
[2] ذكره أيمن فؤاد السيد في “مناهج النقد التاريخي عند المؤرخين المسلمين”،
 
Sprenger, « On the origin of writing down historical records among the Muslim», IRSB, XXV, pp.303-329 et 375-381
صدر في: Les Annales Islamologiques, Institut Français d’Archéologie, Le Caire, 1998, p. 3
 
[3] نقله إلى العربية حسين نصار بعنوان المغازي الأولى ومؤلفوها، تعريب حسين نصار، القاهرة، 1952، ص 6 و 7.
 
J. Horovitz, The earliest biographies of the prophet and their authors in Islamic culture,
 
[4] فؤاد سزكين، تاريخ التراث العربي، المملكة العربية السعودية، وزارة التعليم العالي، 1986، المجلد الثاني: التدوين التاريخي، ص 5 و 6.
 
[5] شاكر مصطفى، التاريخ العربي والمؤرخون، دار العلم للملايين، بيروت، د.ت. ص. 76 و 76.
 
[6] يقصد سزكين هنا كايتاني م.م. ص. 8 و 5.
 
[7] وداد القاضي، “نحو منهج سليم في موثوقية الرسائل العربية المبكرة”، سلسلة موافقات، ديسمبر 1989، الدار التونسية للنشر، تونس، ص 155.
 
[8] نفس المقال، ص 134.
 
[9] وداد القاضي، “مدخل إلى دراسة عهود الصلح الإسلامية زمن الفتوح”، المؤتمر الدولي الرابع لتاريخ بلاد الشام، بلاد الشام في العهد الأموي، الندوة الثانية، 1987، ص. 196.
 
[10] A.Noth, Quellenkritishe studien zu themen, ذكرته وداد القاضي في “مدخل إلى …” م.م. ص. 202.
 
[11] وداد القاضي، “مدخل إلى …” م.م. ص. 202.
 
[12] نفس المقال، ص. 202. نقلا عن A. Noth
 
[13] نفس المقال، ص. 203.
 
[14] نفس المقال، ص. 205 و 206.
 
[15] H. Djait, La Grande Discorde. religion et politique de l’Islam desorigines, Gallimard, Paris, 1989, p. 170.
 
[16] المرجع السابق، ص 172.
 
[17] جواد علي، “موارد تاريخ الطبري”، مجلة المجمع العلمي العراقي، ج 1، 1950، ص، 154، وهو رأي يخالفه سزكين الذي يذكر أن الإخباريين والمحدثين كانوا ينقلون الأخبار والأحاديث شفاهيا مع وجودها مكتوبة لديهم. م.م. ص. 6.
 
[18] مناهج النقد التاريخي….”، م.م. ص. 15.
 
[19] H. Djait «Les sources écrites antérieures au XVème siècle», in Histoire Générale de l’Afrique, Jeune Afrique, UNESCO, p. 118.
 
[20] وداد القاصي، “نحو منهج سليم في موثوقية الرسائل العربية المبكرة”، م.م، ص. 127.
 
[21] فؤاد سزكين، تاريخ التراث العربي، م.م، ص. 3.
 
[22] وداد القاضي، م.م. ص. 127 و 128.
 
[23] فرد دونر، “تكون الدولة الإسلامية”، الاجتهاد، عدد 13، خريف 1991، ص. 70.
 
[24] أنظر كتاب M. Cook, Early Muslim Dogma, Princeton, 1980.
 
[25] Encyclopédie de l’Islam, art. Al-Tabari, de H.R. Paret, 1ère édition, T. IV, p. 608.
 
[26] J.Sauvaget, Introduction à l’Histoire de l’Orient Musulman, Paris, 1943.
 
[27] R. Blachère, Histoire de la littérature arabe des origines à la fin du XV siècle, Paris,1952.
 
[28] عن كتابات هؤلاء أنظر كتاب F. Donner, Narratives of Islamic Origins: the beginnings of Islamic historical writting, The Darwin Press, Princeton, New Jersey, 1998, p.10-22.
 
[29] G. Martinez-Gros, «Mahomet, Prophète et Guerrier», les collections de l’HISTOIRE, n°30, 2006, p.29-30.
 
[30] L. Caetani, Annali dell’Islam (1905-1926), cité par Donner, Narratives, op. cit., p. 12.
 
[31] M. J. De Goeje, Mémoire sur la conquête de la Syrie, 1ère édition, 1864, et l’édition critique de Kitab al-Buldan de Balathuri, édition Leiden 1863-66. J. Welhausen, Prolegomena zur altesten Gechichtedes Islam, 1899, et Das arabishe Reich und sein sturz, 1902.
 
[32] C. Décobert, Le Mendiant et le Combattant : L ’institution de l ’Islam, éditions du Seuil, 1992, p.30-53.
 
[33] المرجع السابق، ص 30 و 31.
 
[34] نفس المرجع، ص. 31 و 32.
 
[35] F. Donner, Narratives of… ,op. cit. p.30 et 31.
 
[36] Hichem Djait, La Grande Discorde..op.cit. p. 165-177
 
[37] A.L.De Prémare, Les Fondations de l’Islam entre écriture et histoire, Editions du Seuil, 2002, p. 12-31
 
[38] A.L.De Premare, op. cit. voir bibliographie, p.469-492.
 
[39] أنظر ما اورده تيودور خوري حول التشكيك في أصالة الكتابات المنسوبة إلى جان الدمشقي.
 
J. Damascène وتيودور أبو قرة Th. Abù Qurra: Th. Khoury, Les théologiens byzantins et l’islam: textes e auteurs (VIII-XIIIs.), Louvain, 1969, p.49 à 55 et 87.
 
[40] J. Tolan, Les Sarrasins : l islam dans l ’imagination européenne au Moyen Âge, Ed. Flamarion, Paris, 2003, p. 18 et 19.
 
[41] R. Mandrou, Histoire des mentalités”, Encyclopédie Universalis, Corpus 11, p. 48.
 
[42] هشام جعيط، تأسيس المغرب الإسلامي، دار الطليعة، بيروت، 2004، ص. 224.
 
[43] Supposez qu’il n’existe pas d’archives
 
Ne suffirait-il pas que la vérité
 
Fût transmise d’âge en âge
 
Pour atteindre la postérité
 
Jusqu’au dernier jour du monde
 
Shakespeare, Richard II
 
ذكره عبد الله العروي في كتابه Islam et Histoire: essai d’épistémologie, Flamarion, 1999, p.9.
 
[44] A. Laroui, Islam et Histoire… op. cit. p. 17
 
[45] Houari Touati, «Les lecteurs des chroniques arabes», conférence présentée dans le colloque international Intitulé «lecteurs historiques des chroniques médiévales», organisé par l’Institut Français du Proche Orient de Damas, le 10-12-2003.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!