كَمَالُ الْمَلَكَاتِ الرُّوحِيَّة

كَمَالُ الْمَلَكَاتِ الرُّوحِيَّة

كَمَالُ الْمَلَكَاتِ الرُّوحِيَّة

بقلم: محمد عبدالرحيم الخطيب

يكاد يضارع “الإنسانُ” حجمَ الكون ضخامةً واتساعًا، ففي داخل ذلك “الإنسان” –الذرة مقارنةً بحجم الكون الشاسع- كون لا حدّ له من الملكات الجسدية والروحية والعقلية والنفسية. كما أن حدود كل مَلَكَة –وكلمة “حدود” غير دقيقة هنا- لا نهاية لها، فهي تزيد أشواطًا كلما نجح المرء في بلوغ أحد هذه الأشواط، فأسرار المَلَكَة الواحدة وقدراتها بعيدة الغور، ولا يَقدر شخص واحد على استيعابها من جميع وجوهها.

وإذا كان “الإنسان” قادرًا -في الملكة الجسدية- بالإرادة والرياضة والتدريب المستمر على أن يصل بـ”جسده” إلى درجة من درجات الكمال في نوع من أنواع “الرياضة”؛ فمن غير المستحيل عقلا وواقعًا أن يصل الإنسان كذلك بـ”روحه” إلى درجة عليا من درجات الكمال الروحي.

إن الإرادة الصلبة، والتخلي عن كل قبيح، ودوام المجاهدة، والتحلي بكل حسن، ودقة المراقبة، وديمومة التكرار؛ كفيل بأن يجعل السمو الإيماني طبعًا مركوزًا في النفس بعد أن كان تطبعًا، وسجية روحية بعد أن كان لحظات وقتية.

لقد خلق الله عز وجل “الإنسان” في أحسن تقويم، وبث فيه “روحًا” لا يعلم سره إلا الذي خلقه، وهذا “الروح” في الإنسان يزيد نورانية وصفاء وسموًّا باستنهاض الطاقة الإيمانية فيه عن طريق الرعاية والاهتمام والملازمة الدائمة والمتكررة لكل السبل التي تستبقي جذوة الإيمان متوقدة لا تخمد نارها ولا نورها.

وإذا ما أراد المرء لهذا القبس أن يظل مشتعلا متوهجًا، فعليه دائمًا أن يكون متنبهًا يقظًا لكل ما يمكن أن يكون سببًا في خُبُوِّ هذا القبس، وذبول تلك الشعلة. كما أن عليه ألا يكتفي باستبقائها مشتعلة، بل عليه أن يزيد من وقودها واضطرامها حتى تتوهج كل ذرة فيه. فبهذا وحده تسمو “الملكة الروحية”، وتنمو، وتبلغ الغاية والمنتهى، إذا جاز في “الملكة الروحية” من منتهى.

إن “الملكة الروحية” في المرء نفحة ربانية “وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ”، غير أن تعهد هذا الإيمان بالرعاية وزيادته ونمائه جهد شخصي “وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ”. إنها ابنة جهاد دائم مستمر لا يفتر مع كل العوامل والأسباب التي تقعد بالروح عن أن ترقى في معارج الكمال، ومراقي الإيمان.

إن سنن الله لا تتغير ولا تتبدل، ومن ذلك توفية كل مجتهد حقه، وهذه التوفية ليست مقصورة على مجال دون آخر، بل هي قاعدة عامة في كل شيء “ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ”.

والتاريخ خير شاهد على ما نقول، فكثير من المتزهدين والمتنسكين والمتصوفة بدءوا حياتهم في اللهو والمجون، إلى أن حانت تلك اللحظة الروحية التي طلقوا فيها كل ذلك اللهو والمجون، وعزموا على عدم العَوْد أبدًا، ثم أخذوا بأسباب النجاح، حيث التدريب النفسي المستمر على ملازمة الطاعة، وتعويدها على عدم مفارقة الصالحات.

وإذا كان العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، فإن تعويد النفس على ملازمة الطاعات والعبادات أمر ضروري حتى تصير سجية وسليقة، وتصبح المعصية أمرًا شاذًّا في مسيرة هذه النفس. فالتدريب المتواصل على الطاعات، وملازمتها، أمر مهم جدًّا، لا سيما في البدايات الأولى، حيث تعويد النفس على ملازمة ذلك يكون أصعب، وفطام النفس عن المعاصي والعادات السيئة أكثر إرهاقًا.

وخلاصة القول، إن “الملكة الروحية” في الإنسان تنمو بتعهدها ورعايتها، عن طريق الأخذ بأسباب هذا النمو، تمامًا ككل الملكات المختلفة التي تكمن في هذه المجرة الضخمة المسماة بـ”الإنسان”.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!