عُذْرًا رسولَ اللهِ: عن مرآتِنَا المُهَشَّمَةِ

عُذْرًا رسولَ اللهِ: عن مرآتِنَا المُهَشَّمَةِ
 
 
إشراقات (4)
 
 
عُذْرًا رسولَ اللهِ …عن مرآتِنَا المُهَشَّمَةِ
 
محمد التهامي الحراق
 
thamiherak
 
1
ماذا يمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنسبة لنا اليوم؟ سواء نحن المسلمين أو نحن العالمين؟ كيف يحضر رسول الله في تصوراتِنا وفي حياتنا؟ وكيف نجسدنُ، نحن المسلمينَ، انتماءنا لرسالته ودعوته بين أهل زماننا؟ إلى أي مدى نحن محمديين هنا والآن؟ كيف نستلهمُ من إسوتنا الحسنة ما به نكون إسوة حسنة للبشرية في زماننا؟ وهل يعكسُ المسلمون اليوم روحَ الرحمة العالمية بما هي جوهر البعثة المحمدية؟
يحتاج المسلمُ اليوم إلى طرح مثل هذه الأسئلةِ بقوة و جرأة ، ويحتاجُ إلى إعادة اكتشاف سيرةِ رسوله احتياجا خاصا؛ ذلك أن وضع المسلمين اليوم في العالم، علماً وتعليما واقتصادا واجتماعاً وسياسةً وتنميةً وسُمعةً؛ لا يستجيب لمقاصد الدعوة المحمدية ولقيمها، ولا يُنبِي عن عظمة الهداية وعالمية الرحمة اللتين يمثلهما رمزاً وحياة؛ دلالة وممارسة؛ آملا وواقعا؛ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
 
 
2
 
أين العطبُ؟ أين الخللُ حتى صارَ المسلمُ يضيقُ برأي أخيه المسلمِ فيبادِرُ إلى تكفيره وإهدارِ دمه؟ أين نحن من قوله تعالى لرسوله الكريم: “ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ” (النحل، الآية 125)؛ وتلك عادةُ الرسل في الأخذ بالقول اللين مع المُشْرِك: “اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى “( طه، الآيتان 43-44) ، فما بالك بالمسلمِ المُوحِّد؟ أين نحن من وصية المصطفى صلى الله عليه وسلم بالكفِّ عمن قال لا إله إلا الله “لا نكفرهُ بذنبٍ ولا نخرجهُ عن الإسلامِ بالعمل” (أخرجهُ أبو داود)؟ أين نحنُ من حِرْص الهديِ النبوي أن لا يؤدّي النهي عن “المنكر”، إن كان كذلك، إلى منكرٍ آخر؟ وأي مُنكرٍ أفظعُ من استباحةِ دمٍ حرمتُه عند اللهِ أعظمُ من حرمة الكعبةِ المشرفة؛ أليست مثلُ هذه الرعوناتِ هي التي حولت، عن زور وبهتانٍ، نبيَّ الرحمةِ إلى عنوانٍ للقتل و الدمِ و الرُّعبِ في المخيال الغربي العام؛ بل في مخيال جلِّ العالمِ من غير المسلمين!؟ أليستْ مثلُ هذه الانحرافاتِ عن روح الهدي المحمدي هي التي صيَّرتْ النبي الرؤوف الرحيم “رمزا” للتعنيف والهمجية و الوحشيةِ في أعينِ من يرون تعاليم نبي الإسلام في سلوك المسلمين !؟ ألا يكمنُ هنا الخللُ حتى نسينا ما أوحي إلى نبينا أن “مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا” (المائدة، الآية 32)؛ و ما أوصانا به حتى عند الاضطرار الأخير إلى صد الاعتداء بالقوة: “لا تقتلوا وليداً ولا تقطعوا مُثمِراً، ولا تخربوا عامراً، ولا تذبحوا بعيراً ولا بقرة إلا لمأكل، ولا تُغرقوا نحلاً ولا تحرقوه”،…إلخ؛ حتى صار هذا النبي الرحيمُ المتمم بمكارم خلق البشريةِ علامةً على سفك الدماء و حزِّ الرؤوسِ و إرهاب الأبرياء !؟ ماذا جرى للأفهام حتى انقلبت صورُ “الرحمةِ المحمدية العالمية” (“وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ” (الأنبياء، الآية 107)؛ وفي الحديث:”إنما أنا رحمة مهداة”..)، لتصيرَ “فزاعة عالمية”؛ وبدل أن تبتهج الإنسانيةُ بهذه الرحمة وتأخذ بقيمها الرحموتية وتنتهج أخلاقَها الكونية، تنزعجُ من “ممثليها” بهذه الدرجة أو تلك، وتسِمُهم أو تصِمُهم بنعوتٍ تخرجهم من دائرة الحضارة إلى غابة الوحشية وهامش الإنسانية !!؟
 
 
3
عُذرا رسول الله؛ أنتَ رحمةٌ جئتَ برحمةٍ فبدَّدناها برعوناتٍ لم نستطِعْ بعدُ أن نقَوِّمَها؛ بلَّغتَ الرسالةَ ففرطنا فيها بفهوماتٍ أطفأت روحَ كونيتِها؛ أديتَ الأمانة فما وفيناها حق الصونِ في شرائطِ زماننا؛ نصحتَ الأمة فما عملنا بنُصحكَ وما قمنا بتنزيل حقوق خيريتها الحضارية ضمن رهاناتِ لحظتنا التاريخية، (“كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ” (آل عمران، الآية 110))؛علَّمْتَنا كيف نؤمِنُ بالغيبِ ونجتهدُ وفقَ هديكَ، ووفق سليم الفطرةِ التي فطرها فينا ربنا، و بنور الحقِّ المودَعِ في عقولِنَا، فخلطنا الغيبَ بالخرافةِ، وخلَّت أهواؤنا بيننا وبين روحِ هديِك، فانطمست منا الفطرةُ الرحموتيةُ، وأظلمتْ منا العقولُ لما عطلناها، وشاخَت فينا القلوبُ لما نسينا وصيتَك بتجديدِ إيماننا.. فكان ما كان من سوء أحوالِنا..
 
 
4
أصغيتَ إلى لحظتِكَ التاريخيةِ، وأردتَ الكونيةَ بإصلاحِ الخصوصيِّ، والكلّي بالانطلاقِ من الجزئي، والسعيَ إلى العمومِ بالنظر في الخُصوصِ، وذاك سرٌّ من أسرارِ الوحي. وصَّيتَنا، و الأمثلة جمةٌ،، بالوالدين حُسنا، فبدأ الرهطُ منا يتخلصُ منهما بالإعراض أو الزج بهما في دار العجزة؛ بل قد ينسى الترحمَ عليهما وكأنهما لم يربيانه صغيرا؛ و وصيتَ الذكورَ بالنساءِ رِفْقا وخيراً، لكننا جارينا بعض فقهائها ضربا وامتهانا لهن؛ وأصغينا لذكورية مجتمعاتنا فاعتبرناهن أداةَ متعة أو آلةً للإنجاب.. حتى جعل منهن البعضُ منا في الحياة دونا؛ تَقوم الواحدة منهُن بخدمة الرجل ولا تُقيم إلى جواره نِدّا ونظيرا وشقيقة كما علمتَنا. لقد نهيتَنا عنْ وأدهِنَّ صغاراً فصرنا نئدهُنّ كبارا جِهارا؛ إما بالإهمال والنسيان، أو بالتشييء والتبضيع والاستهلاك المُتَعي… صرنا نئدهن كلٌّ على طريقته.. هذا بإغراقِهِن في السواد واستئصالِ حقهن في الابتسام، وتحويلهنّ إلى كائناتٍ شبحية تفصلهُن عن الحياة المدنية أفكار ٌمهترِئَة، وفهومٌ ذكورية جَنَت على الكلام الإلهي وجوامعِ كلِمِكَ بفهم سقيم، فحَرمتْ خدود َ “القواريرِ” من أشعةِ الشمس وندى النور، و وجودَهُن من الإشعاع علما وعملا؛ وذاك بتعريتهن باسم الحرية، وجعلهن مفاتنَ لا يُرى فيهن غيرُ معنى الإغراء و الإغواء.. حتى صِرنَ عنوانَ الاستهلاك ولا شيء غير الاستهلاك.. إثارةٌ في الصورِ واللوحات واللقطات الإشهارية؛ وأدواتٌ للموضة التي ما تفتأ تنسخ نفسها؛ وكائناتٌ من عريِ الشُّعاع باسم مستعار من الجمالِ عار منه؛ باسمٍ بهيٍّ مُنتحَل هو “الفن”.
 
5
كلا الفريقين يزيغُ عن إكرامكَ سيدي للمرأةِ، فلا يَدٌ منكَ امتدّتْ لضربها، ولا أبداً تزوجتَ قاصراً كما أشاعَ ذلكَ جهلةُ تاريخِ سيرَتِكَ العَطرة، ولا عينٌ منكَ رأتْ في المرأةِ ما يُدنِي بإنسانيتها، وحاشا لكمالكَ أن يسنِدَ إحدى الرؤيتينِ، فيما الفريقانِ القامعُ والمُعَرّي يرى في المرأة “عورةً”، الأول يريد أن يقمع شهوته إليها فيغلِّفها ويلفُّها في السواد حِدادا على جمالها حتى “لا يُفتَن به” فيُختبَر إيمانُه الضعيفُ وتنهار تقواه الهشة؛ والثاني يُحرِّك تلك الشهوةَ بشتى الطرائقِ حتى ينهبَ من خلالها الجيوب، ويَُسيلَ اللعاب فيتخدّر الضحايا لتندى منهم الأيدي، وما هم بأهلِ جودٍ ولكن الغَوى سحرَ أعينَهم، فأنفقوا على لذاتٍ ما تفتأ تتجدد، وطلبوا رُواء لعطشِ نفوسهم الأمارةِ بماء البحر، كلما شُرب يتجدد به الظمأ، وطلبوا الشِّبع بطعام ما يفتأ يقوى شهوةَ النهم… .عُذراً رسولَ اللهِ عن هذهِ وغيرهَا مِن غزيرِ هفواتناَ، وإن كنتُ سيدي أعلمُ مِن هديِكَ أن الخطََّاءَ ملزَمٌ بالتوبَةِ النصوحِ، فمتى نتوبُ، نحنُ المسلمينَ، من إساءتنا لهديِكَ؟ ومتى نُقَوِّمَ مرآتنا المُهَشَّمةَ التي تخونُ الأمانةَ حينَ لا تَعكِسُ عن وفاءٍ رحمَتَكَ للعالمين؟
 
 
 

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!