التصوف والسياسة

التصوف والسياسة

التصوف والسياسة 

بقلم: د.حفيظ هرّوس- المملكة المغربية

برز في الآونة الأخيرة بشكل لافت النقاش حول علاقة التصوف والصوفية بالعمل السياسي، وذلك بفعل مواقف العديد من المؤسسات الصوفية من طرق وزوايا أو مواقف بعض الشخصيات المحسوبة على التصوف من الأحداث السياسية التي أعقبت الحراك العربي “الربيع العربي” سلبا أو إيجابا، وهذه إجابة مختصرة على سؤال ملح يطرحه العديد من الناس بخصوص هذه المسألة وهو: ماذا لم يشتغل المتصوفة في العالم العربي بالسياسة؟

أعتقد أنه ليسهل علينا الإجابة على هذا السؤال يجب التمييز بين مستويات مختلفة في علاقة التصوف والصوفية بالسياسة، ومن هذه التمييزات التي يجب الانتباه إليها:

أولا: التمييز بين الصوفي الفرد وبين المؤسسات الصوفية: الزوايا والطرق التي ينتمي إليها هذا الصوفي.

فإذا كانت معظم المؤسسات الصوفية اليوم لا تمارس السياسة بشكل مباشر فإن الكثير من المنتسبين إليها يمارسون السياسة بشكل مباشر ويومي يتولون فيها الكثير من المهام الحزبية أو مسؤوليات الدولة، فوزير الأوقاف المغربي على سبيل المثال ينتمي إلى زاوية صوفية معروفة.

وهذا يؤدي إلى ازدواجية وجود الصوفي بين عالمين: عالم التصوف الخالص الذي يمارسه في إطار الزاوية أو الطريقة الصوفية وذلك عبر صحبة شيخ صوفي يتولى توجيهه في مدارج ومقامات السلوك الصوفية، وعالم السياسة التي يمارسها من خلال حزب سياسي ينضبط فيه لأحكام القوانين واللوائح، وهي معادلة يصعب تفسيرها للتناقض المبدئي الظاهر، لكن يمكن تبصّر بعض التأويلات فيما يلي:

-كون المؤسسة الصوفية لا تُلزم أتباعها برؤى سياسية تفصيلية بل تكتفي ببيان الأصول العامة وتترك لأتباعها حرية الاختيار بعد ذلك، أو أنها تنأى بصفة نهائية عن أية ممارسة سياسية سواء في الأصول أو في التفاصيل.

-إيمان الصوفي بازدواجية الوجود: عالم الملك وعالم الملكوت، يُدبر الصوفي الأمرَ في العالم الأول من خلال شهود التعدد في الزمان والتاريخ بما فيها الفعل السياسي، ويدبر الأمر الثاني من خلال شهود الوحدة في التعالي عن كل ما سبق ذكره.

ثانيا: التمييز بين الاشتغال المباشر بالسياسة والفعل السياسي العام غير المباشر.

أ-الاشتغال المباشر بالسياسة.

نجد في سلف الصوفية وطُرقها على العموم من اشتغل بالسلطة ومارس السياسية في التاريخ، وذلك عبر تجليات مختلفة سواء كانت عبارة عن مناجزة الظلم الداخلي أو عبارة عن مقاومة التدخل الخارجي، وقد اختلفت أنظار الباحثين في تحليل هذه الظاهرة التاريخية بين من يُرجع ذلك إلى طبيعة العمل الصوفي ذاته، وبين من يحمل ذلك على كونها حركات سياسية تدثرت بدثار التصوف لتحقيق مآربها السياسية.

أما المؤسسات الصوفية اليوم فإنها لا تمارس السياسية ولا تشتغل بالسلطة بشكل مباشر إلا عبر أفرادها كما أسلفنا أو إذا تحولت إلى مؤسسات سياسية فقط، ولعل أسباب ذلك تكمن فيما يلي:

-طبيعة التصوف والسياقات العامة التي أدت إلى انبثاقه تاريخيا، فالزهاد والنساك الأوائل وبفعل عوامل مختلفة دينية وسياسية واجتماعية آثروا هجر كل مظاهر البذخ والتوسع في الحاجيات الدنيوية والاشتغال بالصراعات السياسية مؤثرين على ذلك العكوف على العبادة والانقطاع عن كل الشواغل النفسية والمادية، وقد بقي التصوف وفيا لهذه النزعة الأولى رغم كل الاستثناءات التاريخية التي كانت تظهر هنا أو هناك.

-العمل على حفظ نقاء المقدس وصيانته عن التدنيس بكل ما هو دنيوي، بحيث أن الصوفي الحقيقي يتعالى عن معارك السياسة وخصوماتها التي لا تنتهي لما في ذلك من شَوب صفاء معينه الديني بما هو مدنس ونجس، وهذا يتحقق في المؤسسات الرسمية للتصوف ورموزها الكبيرة لكنه لا يشمل بالضرورة كل أفرادها والمنتسبين إليها.

-الخوف من النكبة التي أتلفت التجارب الصوفية التي حاولت تلمس طريق السلطة، وخاضت معارك السياسة، وهي نكبة مركبة في حالي الفشل والانتصار معا: ففي حال الفشل فقد طوى التاريخ بالفعل تجارب صوفية رائدة مثل تجربة الزاوية الدلائية، وفي حال الانتصار فإن السلطة تبتلع الصوفي وقيمه معا، وهذا مكر تاريخي عجيب.

ب-الاشتغال غير المباشر: ويتجلى ذلك في عدة مظاهر، أكتفي هنا باثنتين منها:

-كون الصوفي اليوم مثله مثل الصوفي قديما يمتلك رؤية لمجال السياسة وممارسة السلطة، سواء اشتغل بهما باعتبارهما معبران لتحقيق رؤاه الأخلاقية والسلوكية، أو لم يشتغل بهما باعتبارهما شواغل تمنعه من تحقيق تلك الرؤى. فالصوفي في كلا الموقفين واع بفعله مدرك لحركته.

-محاولة استغلال التصوف والصوفية من طرف الأنظمة السياسية الحاكمة في العالم العربي عن طريق “الاستثمار في المقدس” وذلك لاعتقاد هذه الأنظمة:

-أن التصوف يمكن أن يشكل درعا واقية لها سواء ضد المد السلفي خصوصا السلفية الجهادية أو ضد الإسلام السياسي.

-أن التصوف قادر على تقديم نموذج للتدين غير مسيّس تستثمره هذه الأنظمة بالطريقة التي تؤدي إلى تأبيد وجودها والمحافظة على شرعيتها.

فالمغرب مثلا قد أعاد الاعتبار للمكون الصوفي في خطة إعادة هيكلة الحقل الديني بعد تفجيرات الدار البيضاء، وذلك إلى جانب العقيدة الأشعرية والفقه المالكي، وتُفهم هذه الخطة في إطار ما أشرت إليه بالإضافة إلى أسباب أخرى.

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!