عبادة الحب

عبادة الحب

عبادة الحب

بقلم: محمد البرسيجي

الحبُّ علامة العُمران، الحبُّ سمتُ أهلِ العِرْفان، الحبُّ نفحةٌ من نفحاتِ الرحمن، وهل وُجد الإنسانُ إلا بالحب؟ وهل عُرف الرب إلا بالحب؟ فالحب سِرٌّ من الغيب، إن عرفته نلت الأسرار، الحب لا يناله سوى الأحرار، الحب بِذْرةٌ في القلوب، وحصاده النور والفرح والسرور.

قال الله تعالى: (يحبهم ويحبونه)، وهنيئًا لمن كان هذا قدره، وقال تعالى: (فإذا أحببته كنت سمعه) وقال الحبيب صلوات الله عليه: (أحِبُّوا الله) وقال أيضًا: (الحبُّ في الله من أوثق عُرَى الإيمان).

فالحبُّ لا يطرقُ إلا قلوب العارفين، الوالهين، المستكينين، العاشقين، المستورين عن عيون الخلق المعروفين عند الحق، لا يعرف الحبَّ المتكبرين، والمتظاهرين، ولا المتشبعين بما لم يعطوا، الحبُّ هبة السماء للقلوب الضارعة، الحب نسَمة تسري بين الجوانح الطامعة، طامعةٍ في لمحة من لمحات الحبيب، تتنسم في كل مكان عبقه، تبحث عنه في كل شيء في الجماد قبل الحي، وهل هناك جماد؟

كل شيء حي، فالحيُّ لا يُوجِد إلا حيًا، وكل كائن ناطق بما أودع فيه من صنوف الحياة التي لا يدركها إلا المبصر المحب. (وإن من الحجارة لما تفجر منه الأنهار وإن منها لما يهبط من خشية الله) (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله).

بالحب قامت السماوات والأرض، بالحب تستمر الحياة في السماوات والأرض، وبالحب يكون المستقر، لولا الحب ما كان شيء، فتأملوا في كل موجود تجده محبًا بما يناسب خلقته وطبعه، وبالحب أنزلناه وبالحب نزل، قال الحبيب: (المرء مع من أحب) فبالمحبة تُنال الصحبة، وفي هذا الحجة على كل قلب محروم.

الحبُّ شاهدُ الحق في الأرض، الحب عالم كله أسرار، الحب عبادة الأبرار، فإن لم يكن الحب عبادة فلا عبادة، فهو لبُّها وثمرتها، بالحب وصل الواصلون، وبالحب تأوَّه العاشقون، وبالحب طاف الطائفون، وبالحب تغنَّي المشتاقون، افتحوا قلوبكم لهذه الأسرار فبدونها لا مجال ولا وصال. عجيب هذا الحب، ألمه لذة، وعذابه نعمة، وكما قيل: من ذاق عرف، ومن عرف غرف، ومن حُرم انحرف.

منازل العاشقين بعيدة، ومن كتب عليه أن يرحل إليها فقد كتب عليه الغُربة، فالمحب غريب بين أهله، المحب لا يفهم الناس لغته، المحب حزين لانفصاله عن محبوبه، فلا هو يشبع من محبوبه، ولا يصبر عن البعد عنه، فهو متقلب في ألم دائم (تتجافي جنوبهم عن المضاجع) فلا راحة لهم هنا ولا هناء ولا سلام، يأملون في الوصل التام، ولكن شاءت الإرادة القديمة أن يكون ابتلاء وصبر ومحنة، فمن صبر ظفر، ومن يأس كفر.

قال العاشق:

هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل

وتلك نصيحة مجرب خبير، ولكن من يملك مصيره؟!! هيهات هي أقدار مكتوبة، نُساق إليها بمحض الإرادة، نظن أننا نحركها ولكننا لا نخرج عما هو في علم القديم الأزلي. فقد نصح العاشق ولكنها نصيحة لا فائدة منها، فمن يصاب بسهام العشق لا دواء له سوى الوصل، ولا وصل في تلك الديار، فسيظل هائمًا حيرنًا، يظنه الناس مجنونًا مخبولاً، وهم معذرون في ظنهم، فلم يصبهم هذا السهم الغريب، ولم يذوقوا هذا الكأس المريب.

قد تعتري المحب دهشة، أو غيبة، أو ربما جنون، فهذا الجسم المادي المحدود لا طاقة له على تحمل ما يمر به، فتراهم صُفرًا، ضعفاء، هائمين، تظنهم مرضى أو مصابين ببلوى، يبكون لأهون سبب أو بلا سبب، أجسامهم أرق من نسيم السحر، أرواحهم أصفى من الندى، يحسبهم الجاهل دراويش أو قادمين من زمن آخر.

ولما أراد الحق أن يأتي بقوم آخرين لم يأت إلا بالمحبين فقال: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) فجعل الحب ميزان الاختيار، ولم يكن سوى الحب، فمنه البداية وإليه النهاية، إن لمعت في قلبك لمعة المحبة أشرق وجودك، وطار بك الشوق إلى عليا المنازل، حيث لا أين ولا بين.

هي أذواق لا تدرك بالوصف، ومهما أطلت الشرح والوصف فلن أصل إلى المنشود، والمعوَّل عليه الرب ذي الكرم والجود.

 

 

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!