مسلمٌ يترجمُ المزامير

مسلمٌ يترجمُ المزامير

 مسلمٌ يترجمُ المزاميرَ

بقلم: خالد محمد عبده

(ذوات-يناير)

المزامير حوارٌ بين النفس وبارئها، حوارٌ لا يؤتى بمثله، فلكل نفس حوارها الذي لا يشترك معها فيه غيرها. لا شكّ أن المسلم والمسيحي واليهودي يتفقون على هذا المعنى، ويقبلونه، وإن وجّهت انتقادات إسلامية في كتب الجدل والدفاع الإسلامي لبعض المزامير، إذ رأى ابن حزم وغيره أنها محرّفة، لكننا نظفر بكبير عناية بالمزامير في التراث الإسلامي المبكر، فيخصص كاتب كان نصرانيًا فأسلم في خلافة المتوكّل العباسي فصلاً كاملاً في كتابه الدّين والدولة في إثبات نبوة النبي للمزامير هو عليّ بن ربّن النسطوري، إذ عدّ الكثير من المزامير حاملة لبشارات بالنبي الأكرم، تمامًا كما فعل المسيحيون مع المزامير، اعتمادًا على قول الإنجيل: (هذا هو كلامي الذي كلمتكم به إذ كنتُ معكم، إنه ينغي أن يتمّ كل ما كُتب عني في ناموس موسى وفي الأنبياء والمزامير. حينئذٍ فتح أذهانهم ليفهموا الكتب، وقال لهم: هكذا كتب، وهكذا كان ينبغي للمسيح أن يتألم)[لوقا 24: 41-45].

 وقد ناقش الأب متّى المسكين في شرحه للمزامير النبوات التي تحملها، وهناك مناقشات عدّة للمزامير ذكرتُ طرفًا منها في دراستي عن الجدل الإسلامي المسيحي في القرن الثاني الهجري، لكننا بعيدًا عن الجدل والنقاش نأتي في هذه المقالة على ذِكر ترجمةٍ هامة للمزامير في العصر الحديث هي ترجمة محمد الصّادق حسين، التي عاونها فيها الأب س.دي بوركي.الدومنكي.

قدّم الأب بوركي لهذه الترجمة بمقدّمة مبسّطة يشرح فيها أهمية المزامير بالنسبة للإنسان المتدين، ويوضّح نظرة المسيحي واليهودي والمسلم إليها، كما عرّج على الترجمات العربية القديمة للمزامير معتمدًا على مقالة هورفيتز في (دائرة المعارف الإسلامية) التي خصصها للحديث عن (الزبور) وهو الاسم الذي يُطلق في القرآن على مزامير داود: (ولقد كتبنا في الزَّبور من بعد الذِّكر أن الأرضَ يرثها عباديَ الصالحون)، (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً).

أقبل محمد الصادق حسين على هذا العمل ومعه دراية باللغة العربية وأساليبها وحرص شديد على القيم الدينية والشعرية التي لسفر المزامير، وكانت مشاركة الأب بوركي مراجعة الترجمة من أجل استقامة المعنى والوصول إلى أكبر قدر ممكن من الدقة في نقل النص إلى العربية، ثم بدأ نشر هذا النصّ في مجلة المعهد الدومنكي للدراسات الشرقية بالقاهرة (Mideo)، أتاح هذا النشر المتسلسل في المجلدات 4،و5،و6، وقد أتاح لهم هذا النشر أن يجمعا جملة من الآراء التي ساعدتهم في تقويم الترجمة والمضي قدمًا لإتمام هذا العمل.

محمد الصادق حسين، خريج مدرسة المعلمين في مصر، مارس التعليم زمنًا طويلاً، ثم ولي مناصب مختلفة في الحكومة المصرية، منها منصب المراقب العام لحسابات الحكومة بوزارة المالية، عُرف الصادق بانشغاله بالآداب والتاريخ واطلاعه على المؤلفات الأعجمية، ومما تفرّغ لترجمته سابقًا كتاب الأخلاق من تأليف صمويل سميلز (S.Smiles) ترجمه عن اللغة الإنجليزية ونشرته لجنة التأليف والترجمة والنشر عام 1924، والكتاب كما تصفه الأستاذة نعمات أحمد فؤاد في مقالها المنشور بعنوان (الأخلاق) في صفحة عيون التراث بمجلة (كل الناس) عام 1985، بعيد كل البعد عن النصائح، لكنه يضرب أمثلة عملية من الرجال والنساء الذين استقامت سيرتهم، وكان لهم مبدأ في الحياة.

لم يكن إنتاج الصادق مقتصرًا على الترجمة، بل كتب مقالات في فنون شتّى، وألّف في تاريخ الأسرات كتابًا لا يزال مرجعًا يعود إليه الكُتّاب والباحثون، هو كتاب “البيت السبكي بيت علم في دولة المماليك” نُشر الكتاب في دار الكاتب المصرى – القاهرة عام 1948 في 92 صفحة، تحدث فيه مؤلفه عن نسب البيت السبكي، والتعريف بأعلامه وأوضاع مصر في عهد المماليك، وقدّم فيه عدّة اقتباسات من كتاب معيد النعم للسبكي.

أما ترجمته للمزامير فقد نُشرت في صورتها الكاملة عام 1961، في (دار السلام، ودار المعارف) نقل فيها 150 مزمورًا، ولعل كافة التعليقات المذكورة على الترجمة، المصاحبة لكل مزمور تعود إلى الأب بوركي، إذ يذكر مع كل مزمور محلّ النصّ في الطبعة المعتمدة من الكتاب المقدس، ويحيل على استشهادات الأناجيل ببعض فقرات المزامير، وسنذكر هنا نموذج للترجمة.

المزمور 6

ربِّ لا تعاقبني في حال غضبك. لا تؤاخذني في حال سخطك!

لُطفَك يا ربِّ فلا حول لي. اشفني فقد تقوّضت عظامي!

استولى الاضطرابُ على نفسي. فإلى متى يا ربّي؟

تُبْ عليّ يا ربِّ ونجِّ نفسي. ومن أجل حُبّك أنقذني!

فبعد الموت لا مجال لذكرك. وفي مأوى الموتى من يحمدك؟

أنْهَكني أنيني، بالليل أروي مضجعي. بالدُّموعِ أُبلل فراشي.

أكل الدّمعُ عيني. هرِمتُ والباغون يكتنفونني.

أيّها المفسدون إليكم عنّي! فربّي سميعٌ لصوتِ نحيبي.

ربّي يُصْغي إلى تضرُّعي. ربّي يقبل دعائي.

 

لم تكن هذه المحاولة الإسلامية الوحيدة في العصر الحديث لترجمة سفر المزامير من قِبل مسلم عربي، فمؤخرًا قام منصف الوهايبي بتخريج وإعادة صياغة لبعض المزامير، نشر نموذجًا منها في تونس، مشيرًا إلى وقوفه في إعادة صياغته على شوابك القربى بين النصوص المقدسة كالإنجيل والتوراة والقرآن، ونذكر هنا صورة من تخريجه الذي بدا بالنسبة لي وضوح أثر اللغة القرانية فيه، وإن اختلف كلية عن النماذج القديمة التي قُدّمت في التراث الإسلامي من قِبل مسلمة أهل الكتاب، أو القصاص والإخباريين:

ما أزكى ما قسمتَ لي

يا لَهذه المأثرة!

أسبّحُ باسمك أنت الذي تهديني

وقلبي ناشئةَ الليل هو الذي أستفتي

الله، على الدوام، نُصبَ عيني.

أما وهو على يميني، فحاشا أن أتحيّر.

لذلك صدري منشرحٌ وروحي جذلي،

وأنا نعيم البالِ وجسدي في نوم سُبات.

لأنك لن تكلني لعالم الأموات يا الله

ولن تترك جسم حبيبك، يسترخي منه العظمُ، ويبيض اللحمُ.

أنت الذي تهديني سواء السبيل، وتشرح صدري

إذ أرى وجهك.

يا لَهذا النعيم الذي على يمينك، يا الله!

***

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!