تجربة الحب الإلهي عند الشيخ الحراق

تجربة الحب الإلهي عند الشيخ الحراق

 

 

تجربة الحب الإلهي عند الشيخ الحراق

بقلم: د. محمد شداد الحراق

 

 

هو واحد من أهل التصوف والعرفان، وأحد الذين أمضوا حياتهم سالكين السبل الموصلة إلى المطلق، واضعين خريطة الطريق المفضية إلى معرفة الحق. هو واحد من الذين عرجت أرواحهم عبر مدارج العاشقين ، فغاصت في أعماق الوجود، وطرقت قلوبهم الهائمة أبواب السماء، فانكشفت لهم الأسرار العلوية المنتقبة، وتعلقت أفئدتهم بالأنوار الملكوتية القدسية، فهامت حبا وعشقا للذات الإلهية، وفنيت أبدانهم في مقامات الوصال والمحبة.

هو شخصية علمية وصوفية مبدعة، تقاطعت في مداركه جلالة المحبة الإلهية وأحوالها بعظمة العلوم وأنوارها وبنبل الفنون وجمالها…مدّ جسور التواصل بين ضفاف المعارف، فسافرت المعاني وحلقت بعيدا واستعصت عن الإدراك، وتنقلت الرؤى والنظرات بلطف وطواعية على مراكب الكلمة والصورة والإشارة والرمز والإيحاء. فكانت عباراته عبّارات روحية تنتقل بين ضفاف المحبة الخالصة، وتجوب سواحل الوجود الممتدة، وتطارد الجمال المبثوث في طبقات الكون وتلاحقه وتستمد منه قوتها وسحرها.

 

ترسم تجربة الشيخ الحراق الشعرية مسار رحلته الروحية من عالمه النسبي المادي المحدود المقيد في اتجاه الملكوت المطلق المجرد اللامحدود، وتعبّر عن اللحظات العصيبة التي عاشها خلال رحلته الوجودية من أجل البحث عن الحقيقة والسعي إلى مرتبة الكشف التي هي غاية كل صوفي، والتطلع نحو الفناء والاتحاد مع الذات الإلهية/المحبوب المطلق. ولذلك ارتكزت تجربته الشعرية على معاني الحب الإلهي وما يقتضيه هذا الحب من معاناة مستمرة ومكابدة دائمة  وصراع عنيف مع الجاذبية المادية من أجل الانفلات من مغناطيس الجسد وتحقيق انعتاق الروح وتحريرها.

 

وقد كان عشقه عنيفا، ذاق فيه حلاوة المعاناة، وانغمس في بحرها اللامتناهي، فتخلص بفضل هذا الحب من شراك الواقع ومادياته، واسترخص من أجل هذه المتعة الغالية الدمع والدم والنفس والبدن، وتيقن أن موته شهيدا في محراب المحبة الإلهية أعز ما يطلب. يقول بلغة العاشق :

 

                              أحبتنا إن الغرام أصــابني

                                  وغيبني حتى تحيرت فيـــكم
فإن رمت نوماً فارق النوم مـقلتــي

                                      وإن رمت بسطاً خفَّ سلواي عنكـم
وإن كنت من أهلي قـريباً أخـــاف

                               أن تـروا من محب حالة البعد منكم
وإن كنت نـاء ٍ عنكم خلت أنـــني

                             أقصر عن نهج العبيـــــد لديكم
على كل حال ليس في الحب راحـة

                       أموت شهيــدا والسلام عليكم1

 

ويضاهي هذه المعاني العاطفية والوجدانية قوله في السياق نفسه، وقد استعار أساليب العذريين واستعان بالرمز الغزلي، فصاغ أسلوبا رقيقا عذبا يرسم المعاني رسما شبيها بسياق الحب الإنساني. فنجده يصرح بحبه، ويؤكد على استعداده للتضحية بكل ما يملك، حتى ينال شرف الوصال، مادام عشق المحبوب فرض عين:

هوى ذات المحاسن فرض عين

                                   ولو جرت على التسهيد عيني
وشبت في الحشـا بالتيه نارا

                               وحالت بين أهــوائي وبيني
وهبها قد رمت قلبي المعنى

                               بأعراض تذيب الجسم مني
فلم أبرح مقيمـا في ذراها

                       أعــلل من رضاهــا بالتمني

 

وفي رحلته الوجودية القاسية هذه، لم يكن الشيخ ينشد أقل من الانفصال عن الطين الذي يكبل إرادته، وعن الجسد الذي يعتقل روحه، في سبيل الوصول إلى عالم الحقيقة المطلقة والاتصال بالمحبوب الأزلي، لأن في الوصل والاتصال إعلانا عن اقتراب تحقق لحظة الكشف وإمكانية المشاهدة، وهو مطمح لا يتأتى إلا بعد مكابدة حقيقية قادرة على إزاحة الحجب واختراق الأستار ورفع الموانع. ولكن بالرغم من المكابدة  وكل أشكال المعاناة واسترخاص المهجة وإهداء الروح، فإن بين العاشق وبين تحقيق مطلبه مسافة طويلة لا يختزلها إلا الحصول على الإذن الإلهي والفوز بالقبول ونيل رضا المحبوب:

 

أهديت روحي لمن أهواه خالصة

                                       يوم النوى عله بالوصل يجزيها
فاستصغر روحي دون ما أردت بها

                                     وقال هيهات ما وصلي يساويها
فقلت قدرك عال قد علمت ولـــ

                       ـكن الهدايا على قدر مهديهـا

 

 وما أصعب أن يعيش المرء تجربة عشق جميلة على مستوى الخيال، يحقق فيها حلم الحضور، ويذوق فيها عذوبة الاتصال ولذة الفناء، ويكتشف بعد حين أنه كان ضحية وهْم قاتل، وأنه شهيد سراب خادع، وأنه ما يزال في بداية الطريق، ما برح مكانه بعد. وكيف تسلو نفسه ويغمض له جفن ويهدأ له نبض وهو يحس أن مسار الرحلة طويل، وأن سفينة الروح ما تزال متعثرة، وأن مطلب الاتحاد والاتصال حلم لم يتحقق بعد،. فلنستمع إليه وهو يخاطب المحبوب بنبرة العاشق المتذلل المنكسر المحبط، ويصف خيبته وسوء حظه، بعدما أدرك أن فناءه مطلب لم يتحقق فعلا، وأن اتصاله لم يكن إلا وهما:

كيف أسلو وأنتم الروح مني

                               ودمــائي حقيقة وعظامــي
وعزلت عن الوجود وجودي

                                بشهودي وجودكم في انعدامي
ثم بعد ذاك أيقظتمــوني

                             فانتبهت بفضلكم من منــامي
فإذا بالفنــاء قد كان وهما

                            قد عراني كســائر الأوهــام
فأراني بأنني كنت غيرا

              وتحولـــت بعد لمقـــامي

 

وفي قصيدة أخرى يرسم صورة دقيقة لنفسه المتيمة بحب الإله، وقد بلغ به الغرام حدا لا يستطيع مقاومته، فأرداه سقيما تائها فاقدا للصبر والوعي والإدراك، يقول فيها مخاطبا من تمادى في لومه وعتابه:

داء العضال وحالتي أودى بها

                              جلدي فلست على الحبيب بصابر
قطعت من وله الغرام مقاودي

                              وجعلت فيه مواردي ومصادري
فدع الملام فما على صبّ إذا

                           خلع العذار لأجل وصل الهـاجر
لو أبصرت عيناك ما أبصرت لم

                   تعتب عليّ وكنت حقا عاذري

 

وغير خفي على القارئ أن الشيخ الحراق استعان بصور العذريين، واسترفد من تجارب غزلية سابقة في بنائه لنصوصه الشعرية، فجاءت صوره محاكية لقصائد الغزل التراثية، حاملة لهويتها على مستوى المعجم والعبارات والصور، متماهية معها في رسم أحوال العاشقين وما يعتورهم من إحباطات متتالية وإخفاقات متوالية من أجل الظفر بالمحبوب، وما يستبد بهم من تباريح الغرام وألم الفراق وشغف الوصال وقسوة الهجر، وذل العشق وكشف الأسرار واعتلال الجسم وترصد الرقيب وحسد العاذل. وهذا ما جعل نيكلسون يقول في حديثه عن الغزل الصوفي:” إذا لم نقف بطريقة ما على غرض الشاعر لا نستطيع التمييز بين قصيدتين، إحداهما يتغنى صاحبها بالحب الإنساني والأخرى بالحب الإلهي”2.. كل تلك المعاني نجدها حاضرة في جسد القصيدة عند الشيخ الحراق، بل نجد أيضا حضورا للأسماء الأنثوية الدالة على المعشوقة،  استمدها من التراث الغزلي، وبث فيها روحا جديدة ودلالات بعيدة تتعالى على المرجع المادي، وتلبس زيا مغايرا، زيا رمزيا تفوح منه نسائم الروح وتنبعث منه ذبذبات العشق الإلهي.” لأننا في المجال الصوفي نتجاوز الوضعية المادية إلى وضعية أخرى روحية، وفي هذه الوضعية الروحية تقل الموضوعية لتفسح مجالا رحبا للرمز”3

وتحمل تائية الحراق الشهيرة نسائم الاتجاه الرمزي الروحي وذبذبات الفكر العرفاني، وتقدم نموذجا راقيا للشعر الصوفي، يقول في مطلعها:

أتطلب ليلى وهي فيك تجلت

                            وتحسبها غيرا وغيرك ليست
فذا بله في ملة الحب ظاهر

                           فكن فطنا فالغير عين القطيــعة
ألم ترها ألقت عليك جمالها

                           ولو لم تقم بالذات منك اضمحلت
تقول لها ادن وهي كلك ثم إن

                         حبتك بوصل أوهمتك تدلـــت
عزيز لقاها لا ينال وصالها

                      سوى من يرى معنى بغير هوية

لكن القارئ المتأمل لطبقات هذا النص يحس أن به جاذبية من نوع خاص تختلف كليا عن شعر الغزل الإنساني، إنها جاذبية معاكسة تتجه نحو الأعلى، تسمو معها الروح، ويرتقي بها الفكر، في رحلة وجودية روحية نحو المطلق. فآيات البعد الصوفي بادية، وآثار الخطاب العرفاني صريحة وواضحة منذ البيت الأول:( وهي فيك تجلت)/( وتحسبها غيرا وغيرك ليست).والأحوال المألوفة في التجربة الصوفية حاضرة في ثنايا النص: التجلي/الغير/الحب/ الوصل/ معنى…

 

 وحضور اسم(ليلى) في التائية ما هو إلا إسقاط عرفاني على التراث الفني واستثمار صوفي للذاكرة الشعرية. فهذه المعشوقة التاريخية التي تيمت الكثيرين واستوطنت قلوبهم وأخذت بألبابهم، تغيرت هويتها عند أهل التصوف، واكتسبت دلالة رمزية تحيل على المحبوب المطلق، وتحولت إلى جسر فني للعبور إلى مقام العشق المقدس للذات الإلهية. فالأنثى في هذا النص تجاوزت صورة المرأة الفيزيائية المادية المألوفة، وصارت وسيلة عرفانية تمكّن السالك من معرفة مولاه ومن عشق مبدعه وخالقه.

 

إن الأنثى/ليلى، في شعر الحراق،  تبرز بوصفها تجسيدا للحب الإلهي، فهي توحي إلى تجلي العلو والجمال في الصورة الحسية، أو إلى وجود انسجام تام بين الروحي والمادي، والمطلق والمقيد4 ، باعتبار أن جمال المخلوق انعكاس آلي لجمال الخالق، وأن عشق الكيان المادي المقيد هو في الأصل عشق للروح الأزلية المقدسة التي تستوطن ذلك الكيان الطيني العرضي، وهي جزء من روح الإله /النفخة الربانية التي كرم الله بها الكائن الإنساني عند بدء الخليقة. وعلى هذا الاعتبار صار الرمز الغزلي عنده عتبة للانطلاق نحو عوالم المطلق، وسفينة الروح لاختراق القشرة الخارجية للكون والانغماس في اللامتناهي. إنها رحلة من نوع خاص، رحلة من المادة نحو الروح، من العالم الحسي إلى العالم العلوي، من الأرضي إلى السماوي، من النسبي إلى المطلق، من الطارئ والمحدود إلى الأزلي واللامحدود.

 

ـــــــــــــــــــ

هوامش:

1-  ديوان  الشيخ محمد الحراق، مطبعة النجاح، الدار البيضاء.

2-  انظر: عدنان العوادي ،الشعر الصوفي، دار الرشاد ،سلسلة دراسات، وزارة الثقافة العراقية، 1979،ص:260.

3-  جودة نصر، شعر ابن الفارض: دراسة في فن الشعر الصوفي، دار الأندلس، ط1،بيروت، 1982، ص:144.

4-  جودة نصر ، الرمز الشعري عند الصوفية، دار الأندلس، ط1،1978، ص :147.

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!