قراءة في التجربة الصوفية للقرضاوي

قراءة في التجربة الصوفية للقرضاوي

 

قراءة في التجربة الصوفية للدكتور يوسف القرضاوي

                                                بقلم: الدكتور خالد التوزاني  

32685_2

 

تمهيد:

استقطب التصوف رجال الفكر والإبداع والعلم والفلسفة.. وأثار نقاشا كبيرا حول ماهيته وجوهره، وعرف الخوض فيه ممارسة ومدارسة انتقادا واسعا، فاختُلف في التصوف بين انتمائه للدين الصحيح وبين انحرافه، ومن ثم حرص بعض علماء الأمة الإسلامية على إخفاء هويتهم الصوفية والتستر وراء قناع السلفية، والانشغال بالفقه بدل البوح بحقائق الطريق، وظل سلوكهم في التصوف مستورا لا يستشفه إلا قلة من الدارسين للتصوف، ومن أولئك العلماء الذين عشقوا التصوف وتأثروا به ودافعوا عن صفائه وسموه يأتي الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي. فما ملامح التجربة الصوفية عند هذا العالم؟ ما آراؤه حول الصوفية؟ وكيف يرد على بدع القوم وانحرافات بعض المنتسبين للتصوف؟ ما الدافع لاخفاء صوفية العالم؟ تلك بعض التساؤلات التي ستحاول هذه الدراسة مقاربتها انطلاقا من تتبع آراء الدكتور يوسف القرضاوي حول الظاهرة الصوفية في حوار مطول أجرته معه قناة الجزيرة الفضائية.

 

 

مقدمة:

يقول العلامة الدكتور يوسف القرضاوي[1] في حوار أجرته معه صحيفة الشرق الأوسط: “كما أنني مع التصوف، فلا بد الأخذ من التصوف خير ما فيه كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم، فهما من كبار المتصوفين إلا أنهما رفضا من التصوف ما لا يليق وأخذا منه ما يليق، وأنا شخصيا أدعو إلى «تسليف الصوفية» و«تصويف السلفية»، فالمتصوف يأخذ من انضباط السلفية في عدم الأخذ بالأحاديث الموضوعة وعدم الأخذ بالشركيات والقبوريات، ونريد من السلفي أن يأخذ من الصوفية الرقة والروحانية وخشوع القلب ونعمل من هذا المزيج المسلم المطلوب” (العدد 11712- 22 دجنبر2010).

وعندما سُئل عن حقيقة الصوفية في حوار آخر معه مطول، قال: “ظهر هؤلاء الصوفية ليسدوا ذلك الفراغ، الذي لم يستطع أن يشغله المتكلمون ولا أن يملأه الفقهاء، وصار لدى كثير من الناس جوعا روحيا، فلم يشبع هذا الجوع إلا الصوفية الذين عنوا بتطهير الباطن قبل الظاهر، وبعلاج أمراض النفوس، وإعطاء الأولية لأعمال القلوب وشغلوا أنفسهم بالتربية الروحية والأخلاقية، وصرفوا إليها جل تفكيرهم واهتمامهم ونشاطهم”، ويضيف: “ولقد دخل على أيدي الصوفية المتبعين كثير من الناس في الإسلام، وتاب على أيديهم أعداد لا تحصى من العصاة وخلفوا وراءهم ثروة من المعارف والتجارب الروحية لا ينكرها إلا مكابر، أو متعصب عليهم”. وقبل عرض التجربة الصوفية للدكتور يوسف القرضاوي من خلال تتبع مواقفه بشأن التصوف والطرق الصوفية، لابد من استحضار بعض القضايا المرتبطة بالظاهرة الصوفية في عمومها وشموليتها.

 

 

التداخل بين الدين والتصوف

لاشك أن الاهتمام بالتصوف قديم، فقد تناوله المؤرخون والعلماء العرب والمسلمون مثل: الطوسي، والكلابادي، والقشيري، وغيرهم، كما ألف فيه الفلاسفة مثل: ابن سينا، والغزالي، وابن خلدون، وغيرهم، وتجادل فيه الفقهاء وعلماء الكلام، إضافة إلى جهود المستشرقين، أمثال: ماسينيون، ونيكلسون، وغيرهما. ولم يتفق هؤلاء على رأي واحد، حيث اختلفت الآراء وتباينت التصورات حوله، ومن ثم، غير مجد التطرق إلى تعاريف التصوف وتتبع مفاهيمه وإشكالاته، فهي كثيرة ومتشعبة، وقد استقلت بحوث بهذه المهمة[2].

يضاف إلى ذلك، أن “التداخل الذي تم بين الدين والتصوف في الثقافة العربية الإسلامية جعل معنى التصوف غير منفصل عن الدين”[3]، فالظاهرة الصوفية “دينية المنشأ”[4]، وهي عبارة عن تجربة دينية بالغة العمق، ترتبط بها ظواهر نفسية وتصرفات أخلاقية، وتنشأ عنها مواقف فكرية وإبداعات أدبية وفنية تجعل هذه التجربة وثيقة الصلة بالدين، الذي استلهمت روحه، وعبرت عن نفسها من خلال قيمه وتعاليمه[5]، وإذا كانت مفاهيم التصوف غير ثابتة، فهي تخضع لقانون التطور، ولعل ذلك ما يفسر استمرارها، وصمودها أمام تحديات الزمن، غير أن تطورها، لا يعني نوعا من الإضافة “الجديدة” إلى تعاليم الشريعة، وإنما يتعلق الأمر بتقديم “فهوم” جديدة في الدين[6]، لها صلة وثيقة بالبيئة المحلية للمتصوف وتشكلات هويته وثقافته ورؤيته للحياة والكون، ولذلك لا غرابة أن نجد بعض الاختلاف في نظرة الصوفية أنفسهم للتصوف فضلا عن غير المتصوفة. فما ملامح التجربة الصوفية لواحد من علماء الأمة الإسلامية عرفه الناس مفتيا وداعيا سلفي المنهج؟ ما الذي جعل هذا العالم الفقيه يتستر في ثياب الفقه ليخفي صوفية عميقة وراسخة؟

 

 

التجربة الصوفية للدكتور يوسف القرضاوي

أجرت القناة الفضائية “الجزيرة” لقاء مع الدكتور يوسف القرضاوي، خصص لمناقشة قضايا التصوف، وقد بث البرنامج في حلقتين ضمن السلسلة المشهورة: “الشريعة والحياة”، حيث كان عنوان الجزء الأول: تزكية النفوس والتصوف الطرقي[7]. وتم بث الحلقة يوم 21 مارس 2010. في حين خصص الجزء الثاني لموضوع: التصوف والطرق الصوفية[8]، وتم بثه على فضائية الجزيرة يوم 28 مارس 2010م.

وقد عرف البرنامج متابعة مكثفة من لدن المهتمين بالشأن الصوفي، خاصة وأن سماحة الدكتور يوسف القرضاوي قد تناول الموضوع بسجية وعفوية أظهرت كثيرا من أفكاره الشخصية، وتمثلاته الذاتية حول التصوف والطرق الصوفية، مما جعل حصيلة الحوار هامة جدا في سياق تعرف نظرة هذا العالم الجليل للتصوف. ومن ثم نستحضر قول العلامة الدكتور سعيد رمضان البوطي وهو يصف الدكتور يوسف القرضاوي قائلا: “القرضاوي صوفي مقنع يتستر بالسلفية”[9]. فهل  حقا القرضاوي صوفي متستر بالسلفية؟

الجزء الأول: تزكية النفوس والتصوف الطرقي

يركز الحوار على مفهوم التزكية في علاقتها بالتصوف، ويخلص إلى أنها من صميم التصوف، وتستهدف تطهير الإنسان من الرذائل ثم زرع الفضائل، وصولا إلى مكارم الأخلاق التي قام عليها الإسلام (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وفيما يلي نستعرض أهم ما جاء في هذا الحوار:

التزكية لها معنيان في اللغة؛ معنى الطهارة والنماء، فهي تطهير وتنمية، والصوفية يعبرون عنها بالتحلية والتخلية، فالتطهير أن تزيل الخبائث وتضع مكانها الطيبات، تهدم وتزيل الأنقاض ثم تبني على نور وبصيرة.

ثم يتوسع الشيخ القرضاوي في توضيح مفهوم التزكية من خلال استعراض بعض الآيات، من قبيل قوله عز وجل: “فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى”[10] ، فثناء المرء على نفسه مذموم وهو من الصدق القبيح.

لكي نحقق التزكية في حياتنا نحتاج إلى برنامج توجيهي تربوي عملي؛ لابد أولا أن تكون العقيدة على بينة، ثم بعد ذلك للعبادة قسمان: ظاهر وباطن، والتزكية باعتبارها علم السلوك، أو علم التصوف، تتعلق بالباطن، وهي هامة جدا، لأن ذرة واحدة من أعمال القلوب تساوي جبالا من الأعمال الظاهرة، شريطة وجود النية والإخلاص.

أما تعليق الدكتور القرضاوي على قول بعض الصوفية بامتلاكهم لعلم باطن لا يعلمه غيرهم، فقد أوضح أن الأمر يتعلق بالعلم اللدني الذي لا يعرفه علماء الظاهر ويعرفه بعض الصوفية، وهو مستمد من قصة الخضر مع موسى عليه السلام، لكن ما يؤخذ عليهم هو أنهم يبخسون قدر العلم الظاهر، بل منهم من لا يطلب العلم الظاهر بحجة أن العلم يحجبه عن الله، فهم يقولون أنهم يأخذون علمهم من الحي الذي لا يموت، مباشرة ودون واسطة أو بذل جهد. وهذا مرفوض؛ فكل الطرق مسدودة إلا من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم.

يقر الشيخ القرضاوي بوجود أشياء أفسدت التصوف، كالبدع والخرافات والتساهل في بعض الأمور، والثقة المطلقة في شيخ الطريقة وأخذ كل الأحاديث النبوية دون تحقيق ولا تمحيص، غير أنه ليس من الإنصاف أن نجعل التصوف كله في سلة واحدة ونحكم عليه كله، كما أنه ليس كل الحركات الإسلامية السلفية تنتقد التصوف؛ فالشيخ حسن البنا نفسه، بدأ صوفيا وكان ينتمي لطريقة “الحصافية” التي تعتبر من أسلم الطرق وأبعدها عن البدعة، ثم لما أسس جماعته وصفها بأنها: دعوة سلفية وطريقة سنية وحقيقة صوفية.

تركزت أسئلة المشاهدين على حكم الورد ولزومه للمريد، والموقف من التراث الصوفي المكتوب، ثم الكرامات. أما ما تعلق بالورد فيرى القرضاوي أن خير الأوراد ما جاء في الكتاب والسنة، فمهما كان الشيخ الصوفي مبدعا في اللغة لن يصل إلى مستوى الأسلوب القرآني وجوامع الكلم في الأدعية النبوية. كما أن الذكر من القرآن والسنة يحقق به الذاكر أجران: أجر الذكر وأجر الإتباع. المريد وإن بايع الشيخ على ورد معين فلا يكون ملزما به، لأنه لا إلزام إلا ما ألزم الله به. أما نظرة القرضاوي للتراث الصوفي، فهو يؤكد أن القوم لهم مصطلحات، وليست في كتبهم ألغازا لا تُفهم، وإنما شطحات وإشارات ومصطلحات، يمكن للمرء فهمها، إذا عرف هذه المصطلحات. أما الكرامات فلا يمكن نفيها، إلا أن هناك خرافات وأباطيل تشاع باسم الكرامة. و أهم من الكرامة الاستقامة.

يظهر من خلال هذه الحوار أن الشيخ القرضاوي يميل إلى التصوف السني الملتزم بالكتاب والسنة، البعيد عن البدع والشطحات والتماس الكرامات، بل إن التصوف حسب القرضاوي يمكن أن يبني ويعلم ويرشد الناس إلى مدارج الإيمان والهدى، إذا تخلص من الأشياء التي أساءت إليه. وهو بهذا الموقف يعبر عن وسطية في فكره اعتاد عليها القراء ومحبي الشيخ.

الجزء الثاني: التصوف والطرق الصوفية

ركز الحوار على أغلب الانتقادات التي وجهت للتصوف، حيث أكد الشيخ على ضرورة اتخاذ موقف وسط يأخذ من التصوف ما وافق الشريعة ويترك ما سواها وبتعبير القرضاوي: أن تكون سلفيا صوفيا، أي “أن نسلّف الصوفية ونصوّف السلفية”.

إن الذين يذمون التصوف ويزكون موقفهم بآراء شيخ الإسلام ابن تيمية قد ظلموا التصوف؛ فابن تيمية كان ربانيا وله مجلدان في التصوف والسلوك، لا يذم الصوفية بإطلاق ولا يقبلهم بإطلاق، يقول عنهم بأنهم طائفة من المسلمين كالفقهاء وغيرهم، منهم أناس صادقون ومنهم أناس كاذبون. وتلميذه ابن القيم له عدة كتب في التصوف منها مدارج السالكين.. ، فالذين يخرجون المتصوفة من الملة لا يُقبل منهم ذلك. فالخير يكون في المنهج المتوازن.

رد الشيخ القرضاوي على بعض الانتقادات التي توجه للتصوف؛ كالكرامات والرقص في حلق الذكر، وارتباط التصوف بالعزلة والتخاذل عن مقاومة الاستعمار.. حيث أكد على ضرورة إنصاف المتصوفة، والنظر إلى أعمالهم بعين النقد البناء، دون إغفال حسناتهم ودورهم في المجتمع الإسلامي. فأولياء الله ما كانوا يهتمون بالكرامة، لكن بعض الناس يشيعون أشياء لا أصل لها. أما الرقص في حلقات الذكر فلا أصل له في السنة ولم يفعله الصحابة. أما مواجهة الصوفية للمستعمر فقد قاوموا الاستعمار خاصة في المغرب العربي كالأمير عبد القادر الجزائري وعمر المختار..

بعد ذلك أجاب الشيخ عن أسئلة المشاهدين التي تركزت حول أسماء الله الحسنى، وهدم المساجد التي فيها قبور. حيث أوضح الشيخ أن أسماء الله الحسنى تفوق التسعة والتسعين، فهناك أسماء يعلمها بعض الناس ويجهلها آخرين، كما أن هناك أسماء استأثر الله بعلمها. أما هدم المساجد التي تضم بعض القبور فقد يحدث ذلك فتنة، والأولى عدم الهدم.

يقر القرضاوي بأن له نزعة صوفية ربانية، فقد تأثر بالغزالي وانتمى في مطلع حياته إلى طريقة صوفية تسمى بالخليلية كانت تقوم على أمرين؛ قراءة فصل من كتاب الإحياء، وبعض الصلوات والأذكار والأوراد. ثم ترك الطريقة وبقي الجانب الصوفي موجود عنده. وقد وصفه سعيد رمضان البوطي قائلا “القرضاوي صوفي مقنع يتستر بالسلفية”. وكفى بقول البوطي دليلا على أنه ما في الجبة إلا التصوف. ولعل ذلك ما يجعلنا نشك في مدى “سلفية” بعض علماء الأمة الإسلامية، ونعتقد بوجود وجه آخر يتمثل في الجانب الروحي المتعلق أساسا بالميل نحول التصوف والتأثر بمفاهيم الصوفية ونظرتهم للكون والوجود. فهل إخفاء الهوية الصوفية عند علماء عصرنا استمرار لظاهرة “الستر والحرص على إخفاء التجربة الصوفية” التي عرفها تاريخ التصوف ؟ أو أن طبيعة التصوف باعتباره تجربة ذاتية ذوقية يستمد حياته من الستر والإخفاء؟

لماذا يخفي بعض العلماء صوفيتهم؟

كان للصوفية حظ من القهر والتنكيل بهم، فعلى الرغم من أن عبد السلام ابن مشيش كان رأس أحد التيارات الصوفية الكبرى في العالم الإسلامي[11] وهو تيار الشاذلية، إلا أن المتضايقين به قتلوه سنة 625هـ[12].

إذا كان التضييق على هؤلاء الصوفية بلغ حد التصفية الجسدية مع ما عُرف عنهم من التزام بوسطية الإسلام، فكيف بالحلاج والسهروردي[13]، وغيرهما من ضحايا التصوف في العالم الإسلامي بالمشرق. وفي المغرب هناك زوايا تم طمس معالمها ومحو أثرها مثل الزاوية الدلائية[14]، أو نفي شيوخها مثل الزاوية العياشية[15]، ويضاف إلى ذلك، ما تعرضت له الدعوة الدرقاوية، بزعامة أحمد بن عجيبة، من مضايقات بسبب نهجها الإصلاحي الذي لم يرق أصحاب الرياسة وأرباب المصالح، فهدمت مراكزها وزواياها في تطوان، وطرد أحمد بن عجيبة من طنجة وأحرق منزله، واتهم بالمروق عن الدين، فاعتقل وأتباعه، وزج بهم في غياهب السجون[16]، ليبدأ مسلسل التعذيب والمضايقة والاضطهاد النفسي والجسمي بهدف إتابة درقاوة عن ما هم فيه أو تصفية حركتهم[17]. ومن ثم، لم يكن غريبا أن يلجأ الصوفية في أزمنة الحصار إلى عقد حلقاتهم ودروسهم بشكل سري في “غرف مقفلة لا يقبل فيها إلا من يوثق به”[18]، حيث كان الانتماء إلى الصوفية “جريمة” يعاقَب عليها، ومن المواقف التي يمكن استحضارها في هذا السياق، موقف الشيخ أبي مهدي وين السلامة ابن جْلِّداسْن[19] (ت 560هـ) فقد كان يتردد على رباط شاكر، فقال له أحد وعاظ هذا الرباط: “سيدي أبا مهدي، سمعت المريدين يتحدثون عنك بالعجائب”، فطأطأ رأسه حياء، فقال له: “أما تخاف من السلطان إذا بلغه ما يذكر عنك؟ فرفع رأسه وقال: “ما ينبغي أن يُخاف إلا من الله تعالى”[20]. فعلى الرغم من معاقبة السلطان لمن تُذكر عنه العجائب، إلا أن بعض الصوفية باح بالعجب العجاب وإن قُتل وصلب، فقد “ذُكر أن الخضر عليه السلام عبر على الحلاج وهو مصلوب، فقال الحلاج: هذا جزاء أولياء الله؟ فقال الخضر: نحن كتمنا فسلمنا، وأنت بُحت فمت، يا حلاج كيف أصبحت؟ قال: أصبحت لو طارت مني شرارة لأحرقت مالكا وناره”[21]، وعلى الرغم مما في هذه الحكاية من مبالغة مقصودة أو غير مقصودة، إلا أنها تحمل في طياتها تلذذا بالمعاناة واستمتاعا بالألم وإيحاء بنيل الرتب العالية في السلوك الذي لم يبلغه حتى الخضر عليه السلام؛ في القدرة على إحراق خازن جهنم، ويبدو أن إشاعة مثل هذه الحكايات الغريبة بين العامة، قد خلق مشاكل جمة لم يكن الصوفية في حاجة إليها، ولعل ذلك ما دفع عبد السلام الغرميني لإبداء قلقه من بعض شطحات الصوفية، حيث يقول: “وقد تقلق شطحاتهم العديد من الناس، ومن الحق الذي لا مراء فيه أن فيها فعلا ما يقلق وأن بعض شطحهم ينبغي أن يسكتوا عنه، وأن يظهروا شجاعة أكبر في تملك ألسنتهم إذا لم يستطيعوا امتلاك مشاعرهم”[22]، ومن الواضح أن شطحات الصوفية وإن كانت صادمة لعقل كثير من الناس، إلا أن التعامل العلمي معها في سياق البحث العلمي الموضوعي والجاد يقتضي دراستها انطلاقا من النسق الصوفي ذاته، بغية فهم عقلية المتصوف أو منتج الشطح، وتعرف مبرراته وتفسيراته لما يصدر عنه، فتلك الشطحات تختزن جانبا كبيرا من لاوعي الصوفي وتمثل منطقة التوتر والحيرة التي ينبغي تأملها جماليا ومعرفيا وذوقيا، دون أي إسقاط خارجي عنها، خاصة إذا كانت الغاية هي الفهم والتذوق لا الحكم واتخاذ موقف ما بشأنها.

هكذا يمكن أن نستشف بعض دوافع إخفاء كثير من علماء الأمة الإسلامية قديما وحديثا لنزعتهم الصوفية، فالبعض يخشى انتقاد العامة له أو عقاب السلطان نظرا لابتعاده عن ظاهر الشريعة، فيضطر للتقية والتستر وراء قناع السلفية والفقه الظاهر ليسلم من الأذى، وهو في العمق صوفي حتى النخاع. فهل يتناقض التصوف مع الفقه ليضطر العالم إلى إظهار الثاني وإخفاء الأول؟ أم أن الأمر له صلة بالرصيد التاريخي الكبير من “بدع الصوفية” وانحرافات كثير منهم، مما أساء للتصوف وجعل الوعي الجمعي ينفر منه؟ ومهما كانت الإجابات الممكنة يظل النزوع نحو التصوف قائما في نفوس كثير من كبار علماء الأمة الإسلامية، ليؤكد قوة التصوف ويعزز مكانته في الثقافة العربية الإسلامية فكرا وسلوكا، ويرسخ بعمق إمكانات التصوف في اقتراح حلول بديلة لمشاكل العصر وتحديات الواقع المؤلم وآمال المستقبل الغامض.

 

[1]  يعد الدكتور يوسف القرضاوي من أكثر الشخصيات الدينية المثيرة للجدل، ليس على مستوى العالمين العربي والإسلامي فحسب، بل على مستوى العالم أجمع. ولد بمصر سنة 1926م، درس بالأزهر الشريف حتى نال شهادة العالمية سنة 1954م ثم الدكتوراه سنة 1973. انتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين بمصر. ألَّف كثيرا من الكتب، وفي سنة 2009 تم اختياره ضمن أهم 50 شخصية مؤثرة على مستوى العالم الإسلامي، شغل عدة مناصب، منها رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

[2] ينظر على سبيل المثال: عبد الرحمن بدوي، تاريخ التصوف الإسلامي من البداية حتى القرن الثاني، وكالة المطبوعات، الكويت، ط:2، 1978، ص:5 وما بعدها. وكذلك: عبد العزيز بنعبد الله، معلمة التصوف الإسلامي، (3 أجزاء)، دار نشر المعرفة، الرباط، ط:1، 2001. وأيضا: عزمي طه السيد أحمد، التصوف الإسلامي: حقيقته وتاريخه ودوره الحضاري، المؤسسة العربية الدولية للنشر وللتوزيع، عمان، ط: 2، 2004.

[3]  خالد بلقاسم، أدونيس والخطاب الصوفي، دار توبقال، الدار البيضاء، ط:1، 2000، ص:101.

[4]  عيد درويش، فلسفة التصوف في الأديان، دار الفرقد، دمشق، ط:1، 2006، ص:8.

[5]  حامد طاهر، تمهيد لدراسة التصوف الإسلامي، مكتبة النشر للطباعة، 1991، ص: 705.

[6]  عبد السلام الغرميني، الصوفي والآخر: دراسات نقدية في الفكر الإسلامي المقارن، نشر: المدارس، الدار البيضاء، ط:1، 2000، ص: 39.

[7]  يمكن مشاهدة الحلقة من خلال الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=IFz8TGOg9t4

[8]  يمكن مشاهدة الحلقة من خلال الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=VAhnYoZ9qZ0

 [9] الموقع الرسمي للدكتور يوسف القرضاوي: http://www.qaradawi.net

[10]  سورة النجم، الآية: 32.

[11]  أحمد التوفيق، معلمة المغرب، مطابع سلا، مج: 7، 1995، مادة التصوف بالمغرب، صص: 2392-2395. ينظر كذلك: عبد الحليم محمود، القطب الشهيد عبد السلام بن بشيش، دار المعارف، القاهرة، د.ط،1997.

[12]  أحمد بنعجيبة، شرح صلاة القطب بن مشيش: سلسلات نورانية فريدة، جمع وتقديم: العمراني الخالدي عبد السلام، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، د.ط، د.ت، ص: 11.

[13] يحيى بن حبش، أبو الفتوح شهاب الدين السهروردي (ت 587هـ)، ينظر ترجمته في: وفيات الاعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان، شمس الدين أحمد بن محمد (ت681هـ)، تح: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1978، ج:2، ص:281. لسان الميزان لشهاب الدين ابن حجر العسقلاني (ت852هـ)، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط: 2، 1971، ج:3، ص: 156.

[14]  محمد حجي، الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي، مط. النجاح الجديدة، ط: 2، 1988، ص: 254.

[15]  عبد الله بنصر العلوي، أبو سالم العياشي المتصوف الأديب، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، فضالة، 1998، صص:70- 74، و86-87. وكذلك: نفيسة الذهبي في مقدمة تحقيقها لكتاب: اقتفاء الأثر بعد ذهاب أهل الأثر لأبي سالم العياشي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة رسائل وأطروحات رقم: 33، ط: 1، 1996، صص:32-33. وكذلك: خالد سقاط في مقدمة تحقيقه للرحلة العياشية المسماة “ماء الموائد”، لأبي سالم عبد الله العياشي (ت1090هـ)، أطروحة لنيل الدكتوراه، مرقونة بخزانة كلية الآداب – ظهر المهراز- فاس، (1998-1999)، صص: 59- 63.

[16]  عبد المجيد الصغير، إشكالية إصلاح الفكر الصوفي في القرنين 18 و19: أحمد ابن عجيبة، ومحمد الحراق، دار الآفاق الجديدة، ط:2، 1994، صص: 181-233. وحول رد القوم على ما اتهموا به، ينظر كتاب: الإرشاد والتبيان في رد ما أنكره الرؤساء من أهل تطوان، لمؤلفه محمد بن محمد بن عبد الله المكودي التازي (ت1214 هـ)، حققه: عبد المجيد خيالي، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، ط:1، 2007. ولصاحب البحث مشاركة متواضعة بعنوان: “اضطهاد صوفية المغرب من خلال كتاب: الإرشاد والتبيان في رد ما أنكره الرؤساء من أهل تطوان”، جريدة: نفحات الطريق، ع: 17، من 11 إلى 17 ماي 2012، ص: 9-10.

[17]  أحمد بوكاري، الإحياء والتجديد الصوفي في المغرب: الدرقاوية والإحياء الصوفي الشاذلي، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط، ط: 1، 2006، ج: 1، ص: 143.

[18]  كامل مصطفى الشيبي، صفحات مكثفة من تاريخ التصوف الإسلامي، دار المناهل، بيروت، د.ط، 1997، ص: 115.

[19]  وردت ترجمته في: التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي، ابن الزيات، أبو يعقوب يوسف بن يحيى التادلي، تح: أحمد التوفيق، منشورات كلية الآداب، الرباط، ط: 1، 1984، ص: 261-262.

[20] المصدر نفسه، ص: 263.

[21] علي الخطيب، اتجاهات الأدب الصوفي بين الحلاج وابن عربي، دار المعارف، القاهرة، د.ط، 1984، ص: 462.

[22]  عبد السلام الغرميني، الصوفي والآخر..، مرجع سابق، ص: 41.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!