المصطلح الإسلامي عند الغرب

المصطلح الإسلامي عند الغرب

المصطلح الإسلامي عند الغرب

محمود الفقي

 

لا حاجة بنا إلى القول بضرورة الإطلاع على مخرجات اللغويين الغربيين حتى لو كان بعضها أشبه بما نسميه “هرش المخ” مثل البرمجة العصبية اللغوية وأخواتها.

وذلك إنما يفيدنا لأن التداعي التلقائي في توليد الكلمات ليس عملا من أعمال العقل بل محض بيئة واستخدام وتكرار، وما تكرر تقرر.

وأظهر مثال على هذا أن فيلما واحدا يستخدم جملا مكررة على لسان بطله خاصة لو كان من النوع المضحك يُحدث من الآثار في لغة الشباب والشعب عموما ما ليس بوسع مجمع لغوي كامل أن يفعله ولو في سنوات، والفكرة هي الإشهار مما حدا بعلمائنا في السابق إلى التأكيد على أن المشهور الخطأ خير من الصحيح النادر.

لكن الأمر كله مربوط بالدقة والتحليل والمتابعة، وسأضرب مثالا هنا لاحظته من تتبعي لأدبيات الغرب السياسية في مقارباتها للإسلام والإسلاميين.

في كل الكتابات الإنجليزية نجد استخداما تمييزيا بين (Islamic) و (Islamist) و (Islamite) فأما الأولى فقد اصطلح الغربيون على أنها ما يتعلق بالإسلام بوصفه دينا (صفة مدح) و الثانية يعمدون بها إلى وصف ما يتعلق بالإسلام بوصفه أيديولوجية إما سياسية مثل الإخوان أو أصولية مثل القاعدة (صفة ذم)، وبالطبع لا أنسى أن أقول إن استخدامنا لكلمة أصولية ترجمة خاطئة غفر الله لمن نقلها هكذا للعربية لأن الأصولية يَحسن أن تكون صفة مدح لا ذم عكس ما يستخدمونها في الغرب، وأما الثالثة فمن النادر استخدامها، وهي على أية حال قريبة من الأولى دلالة ومعنى.

وهكذا يتعين علينا أن نجد مصطلحا إسلاميا خاصا بنا، وأن نفرق جيدا بين ما نترجمه حتى لا نروج غافلين ما يُراد لنا تمريره إلى مجتمعاتنا بتفكيك الإسلام إلى دين وفكر وذرائعية وعصبية ثم ربط الأربعة ببعضها البعض باعتبارها مكونات الإسلام، وهذا ما يستوطن كتابات الغرب حتى لو ادعوا الإنصاف.

يستوي هذا مع ما أكده علماء الأصول البارعون في تراثنا من أمثال الشاطبي والشافعي والغزالي والرازي في كل ما كتبوه في أصول الفقه (الموافقات، الرسالة، المنخول والمستصفى، المحصول على الترتيب) وما أفردوا له صفحات مما أسموه: تحرير المصطلح، والمعنى تحديد دلالته وضبط إشاراته حتى لا يلتبس بمعاني أخرى، والدليل على هذا أننا نجحنا في منع أدبيات الغرب من تكرارهم “المحمدية أو الدين المحمدي” خاصة وأن الكلمة مغلفة بطابع استشراقي خبيث يقصد إلى أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو مخترع القرآن وأن الإسلام أرضي لا سماوي (كما قال نصر حامد أبو زيد).

لماذا ذكرت “أبو زيد”؟ لأقول إن اللغة من الخطورة بمكان لدرجة أنها إن ساء تحليلها وفهم دلالاتها تحولت إلى فكر مشوه لا ينفك يحطم كل موروثاتنا الثقافية والدينية ويهيل التراب على كل تاريخنا، وسأعود لتفصيل ما ذكرت عن نصر في سياق آخر.

وأورد هنا مثالين لطيفين أحدهما شهير يضربونه على إمكانية تفادي إسقاط القنبلة الذرية على اليابان بما حدث من سوء فهم وترجمة بين ساتو ونيكسون، وقد ذكر المثال بالتفصيل تيلور إتش إم في كتابه “الإنجليزية واليابانية في تناقض.”

والثاني خروج معلمة للإنجليزية في هونج كونج من فصلها لزيارة بعض أصدقائها، وعندما التقاها بعض تلامذتها في الشارع سألوها: إلى أين أنت ذاهبة؟ فغضبت وشعرت بتطفلهم وقالت: ما شأنكم؟ فضحكوا لأن هذا السؤال في الثقافة الصينية لا يعني أكثر من “كيف حالكم”، والإجابة عنه حسب العرف الصيني لا يشترط أن تكون محددة، بمعنى أنها يصح أن تكون “هناك” “مشوار” “مصلحة” مثلما نقول بالعامية المصرية. (المصدر: فينج بينج باو من دراسة له بمجلة اللغة والدراسات اللغوية، المجلد الخامس، العدد 1 العام 2006).

ومن تداخل اللغة والتعبير بلغة الجسد والثقافة يذكر المؤلف السابق أن الأمريكيين يثبتون العين في وجه المحاضر، وأن البريطانيين كذلك يبحلقون في المُحاضر فيما العرب والإندونيسيون يستخدمون الأذرع والأصابع في التعبير عن مدى فهمهم وتواصلهم مع المحاضر ولا يثبتون العين كثيرا في عينه.

ومن الدلالات الثقافية أن تشبيك اليدين على الرأس في الثقافة الأمريكية يعني نوعا من النشوة بالانتصار وشيئا من الغطرسة بينما يعني الصداقة في الثقافة الروسية، ولذا غضب ملايين الأمريكيين من خروشوف لما فعل ذلك عقب وصوله الولايات المتحدة، الحديث ذو شجون والمصدر الذي اعتمدت عليه فيه كثير من اللطائف، كما لا يخلو كذلك من المبالغات مثل ما أفرده من صفحات طوال عن ثقافات السوفييت وكونها أدنى من الأمريكيين.

والحقيقة أنني أتغيا من قولي الإسراع إلى تخليق معجم عربي حديث يأخذ بعين الاعتبار كل ما يطرحه الغرب في رؤيته للإسلام والعرب والشرق بصورة عامة، ويضيف في ذات الوقت بُعدا تاريخيا للألفاظ العربية ومراحل تطورها وانتقالها من معنى إلى آخر تحقيقا لأدق درجات الفقه والفهم لمقاصد الألفاظ ودلالاتها، وما قلته هو أن التمييز بين (Islamic) إسلامي و (Islamist) إسلاموي الذي سجلته سابقا جوهري لأن وزن فعلوي الدخيل على الأوزان العربية ملون تلوينا سلبيا جدا والمقصود منه الذم، كما أن وصف العقل بكلمة إسلامي أمر غريب لأنك بهذا ستضطر إلى أن تقول العقل المسيحي والعقل اليهودي والعقل البوذي وهكذا، والأهم من هذا أننا لو حصرنا العقل الإسلامي في استخدام الإسلام كأيديولوجية ومطية سياسية لحجرنا بهذا واسعا لأن الإسلام بالأصل دين أثبت تاريخيا أنه بوتقة واسعة انصهرت فيها وتعايشت ثقافات شتى وملل ونحل وأفكار ورؤى ووجهات هائلة، والدال على هذا أول ما يتبادر إلى الذهن يأتي في العصر العباسي حيث يتعايش الأتراك والفرس والعرب والموالي من كل نوع والمسيحيون واليهود والصابئة والمجوس وغيرهم في انسجام لم يحدث في تاريخ المسيحية أو اليهودية.

وأزيد الأمر جلاء فأقول إن صناعة المصطلح –التي ألح على أهميتها- هي بحد ذاتها صناعة للفكر ومُعين على النهضة، وإن نحن ظللنا هكذا نستورد المصطلحات فلن يكون هناك أمل ألبتة في أية صحوة مستقبلية.

فكلمة إسلاموي أو لنقل وزن فعلوي يعني دلاليا (سيميائيا) أداء الشيء بتطرف أي بزيادة عن المطلوب أو القدر المعتدل. وفي مقال مصطفى أكيول (كاتب عمود في حريت التركية) عن علمانية تركيا ركز الكاتب جُلَّ اهتمامه على تحرير المصطلح في بيان ما يقصده أردوجان من تصريحاته عن العلمانية في مصر. وقد ميز الكاتب بين (secular) و (secularist) فأكد أن أردوجان يقصد الأولى بمعنى أن تطبق الدولة العلمانية على مؤسساتها لا أفرادها أي بترك الحرية للأفراد إن أرادوا التدين، لكن الأهم أن تبقى المؤسسات علمانية، لكن الكاتب كان يريد لتركيا أن تكون (secularist) بمعنى دولة علمانيين أي أن يكون الفرد والمؤسسة والروح وكل شيء مصبوغا بصبغة علمانية خالصة، أقول هذا لأن بعض الكتاب المتطرفين في علمانويتهم لا يضبطون المصطلح في الحديث عن مدنية الدولة أو علمانيتها، فعند الحديث عن المدنية يُوهمون القاريء أنهم يقصدون بها عكس الدولة العسكرية وهم في الحقيقة يقصدون بالمصطلح أن يكون مرادفا للادينية، ومن هنا وجب التفريق بين المصطلحات وتحديد الحدود وترسيمها بين الألفاظ بل ووضع حدود بين مستويات اللغة إكمالا للجهد الذي أتى به د. سعيد بدوي في كتابه “مستويات العربية في مصر” الذي لم ينل حظا من الشهرة مع الأسف.

وفي الكتابات العلمانوية (وزن فعلوية أقصد به متطرفي العلمانية) يبحث العلمانوي بإبرة عما يشين المسلمين وهو يقصد الإسلام لكنه أجبن من أن يصرح بهذا لأنه يدري أنه خائن للمنهجية لكونه انتقائيا يعتمد على معلومات شحيحة ليس متخصصا فيها ابتداءً.

وهذا يقودنا إلى الفرق بين المعالجة العلمانوية المتطرفة في مصر وبين المقاربات المنهجية في الغرب لليمين المتطرف فيها حتى في فرنسا نفسها حيث العلمانية غير متصالحة مع الدين عكس الولايات المتحدة، والسبب هنا أكرره وهو ضبط المصطلح وشفافية اللغة وترسيم الحدود بين الألفاظ في الإنجليزية، وما أسماه ابن جني تصاقب اللفظ والمعنى أي كونهما على نفس المقاس.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!