التصوف المعرفي والتصوف الطرقي

التصوف المعرفي والتصوف الطرقي

التصوف المعرفي والتصوف الطرقي

بقلم: عصام عيدو*

 

لا يكاد يذكر اسم التصوف في محفلٍ ما إلا وتتنازع الأصوات حباً ونقداً لهذا المفهوم ورجالاته وتاريخه ومساراته. وربما يكون النقد الأكثر حضوراً هو إشكالية الاسم “التصوف”، وبالتالي مغزى إطلاق كلمة “التصوف” على هذا المسار بالذات. فبينما يُفضِّل أغلب المنتقدين للتصوف إطلاق كلمة “الإحسان” على هذا المسار بدلاً من إطلاق كلمة “التصوف” أو “الصوفية” رغبةً في عدم الإحداث في الدين ما ليس منه والدخول في مفهوم “البدعة”، وبالتالي يصبح مفهوم الإحسان مفهوماً مطابقاً لفظاً ومعنى لما جاء في صحيح مسلم: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”، على الطرف الآخر، نجد أن المتصوفة يفضلون إطلاق كلمة “التصوف” على هذا المسار العرفاني رغبةً منهم في إبراز المنحى الصفائي والنقائي الذي يقوم عليه المصطلح نفسه.

احتفَت كتب التصوف بشكل عام ببيان المراد من هذا المصطلح وتأصيله ونشأته. ومن أهم الكتب التي تناولت ذلك في مقدماتها التعريفية كتابُ “اللمع” لأبي نصر السراج الطوسي ت378 “والرسالة القشيرية” لأبي القاسم عبد الكريم القشيري ت465، و”عوارف المعارف” لشهاب الدين عمر السهروردي ت632. وعلى رغم أهمية التعريفات التي قُدِّمت في هذه الكتب المؤسِّسة والتي يرجع سببُ تعددها واختلافها إلى قضية مركزية في هذا المسار العرفاني، وهي قضية أن التصوف يقوم على التجربة الذاتية، وبالتالي فإن كل تجربة تعكس فهماً خاصاً للتصوف. ومن هنا يمكن فهم المقولة المتداولة بين رجالات التصوف “عدد الطرائق بعدد أنفاس الخلائق”.

وإن كان هناك إضافة لهذه التعريفات الأساسية للتصوف، فإنه من المفيد أن نضع التصوف في نوعين أساسيين، هما: التصوف المعرفي (أو التصوف العرفاني) والتصوف الطرقي. وربما يضاف إليهما تصوف ثالث هو “التصوف الإحيائي”. هذا التنويع يحل إشكالاً عالقاً بين محبي التصوف وناقديه. فهناك مجموعة من النصوص التي يتجنب قراءتها أصحاب مدرسة التصوف الطرقي أنفسهم، وربما يحرمونها شانهم في هذا شأن منتقدي التصوف بشكل عام.

يحيل التصوف المعرفي أو العرفاني إلى مجموعة من النصوص الواسعةِ التلقي والامتداد. فهي لا تقتصر على النصوص الإسلامية فحسب وإنما تستقي الحكمة والعرفان من الفلسفات الإشراقية الأخرى وبالأخص الفلسفات الشرقية الممتدة على أرض وتاريخ الهند وإيران وما وراءهما. وتعتبر هذه الكتابات مصدراً ملهماً لعدد غير محدود من الكتابات والتيارات الفكرية والفلسفية والأدبية. ومن أهم نصوص التصوف المعرفي ديوان الحسين بن منصور الحلاج، وكتاب “منطق الطير” لفريد الدين العطار، و”المثنوي” “وفيه ما فيه” لمولانا جلال الدين الرومي، وكتابات الشيخ “محيي الدين بن عربي” وبالأخص “الفتوحات المكية” و”فصوص الحكم” “وترجمان الأشواق” و”ختم الولاية”، وكتابات السهروردي الشهيد “حكمة الإشراق” و”هياكل النور”، وكتابات صدر الين القونوي، وكتابات ملا صدرا الشيرازي “الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة العقلية” و”الحكمة العرشية” وغيرهما. يدخل عددٌ من هذه الكتابات في دائرة قوائم النصوص التي تحرم قراءتها لدى عدد من الاتجاهات والتي منها الاتجاه التقليدي وربما أيضاً اتجاه التصوف الطرقي. واللافت أن هذه الكتابات تعتبر مصدر إلهام ومعرفة فلسفية لدى فئات شديدة التنوع وربما التضاد. فيأخذ منها المسيحيون واليهود المتصوفة وخاصة القبالا، وأتباع الديانات الشرقية كالبوذية والهندوسية، واليساريون والماركسيون والتجديديون. ونجد الكثير من هؤلاء يمجدون الإسلام وتعاليمه نتيجة قراءتهم لهذه النصوص العرفانية في مسعى ربما ينتقص من كل التجليات الأخرى الحاضرة عبر المذاهب الإسلامية. شكلت هذه النصوص العرفانية بنية معرفية أساسية لما يُعرف اليوم بالعرفانيين الجدد أمثال رينيه غينون (عبد الواحد يحيى)، وفريتشه شيون (عيسى نور الدين أحمد)، ومارتن لينغز (أبو بكر سراج الدين)، وسيد حسن نصر، ووليم شتيك وآخرين.

من أكثر الانتقادات التي توجه للتصوف المعرفي قضية “الحلول والاتحاد” أو قضية “وحدة الوجود” القضية التي من أجلها يعزو كثير من الباحثين سبب مقتل الحلاج وغيره. وربما يضاف إليها قضية التخفف من التشرع والمسار التأويلي الذي تتبعه هذه الاتجاهات. على سبيل المثال، يصف الشيخ محيي الدين بن عربي مذهبه بأنه ظاهري، ولكن من زاوية هذا المسار العرفاني يبدو أن ظاهريته ليس لها علاقة بصورة المذهب الظاهري المعروف. فالظاهرية هنا تَسِم أصحابها بأنهم “أهل الكشف” في حين تَسِم الآخرين وبالأخص المذاهب الفقهية السائدة بأنهم “أهل الرسم”. أهل الكشف وأهل الرسم هنا مصطلحان يلعبان دوراً مهماً في سلطة التأويل، فبينما أهل الرسم يتبعون مجاز الكلام بغية حرف الكلم عن مواضعه وتحريف مقصد الإسلام، يتبع أهل الكشف حقيقة الكلام المراد من قبل الله. وبتحديد أكثر دقة، بينما يفهم أهل الرسم من الخطاب في هذه لآية “يا أيها الذين آمَنوا آمِنوا” بأن المراد ازدادوا إيماناً، يفهم أهل الكشف بأن المراد هو حقيقة الإيمان، وأن المقصد من هذا الخطاب هو إصلاح الإيمان المزيف لهؤلاء المؤمنين. وبالتالي، فإن أهل الرسم ومنهم أتباع المذاهب الأربعة التقليديين حرفوا مقصد الإسلام وزيفوه، وهُم المقصودون بهذا الخطاب “آمِنوا”

في الجهة الأخرى، يقوم التصوف الطرقي على اتباع المذاهب الإسلامية والنظر إليها على أنها الجزء الذي لا يتجزأ في مسار العلاقة مع الله. حيث يقوم هذا التصوف على ثنائية مهمة هي التشرع والتحقق. والتشرع اتباع أوامر الله المنصوص عليها في القرآن والسنة والمفسَّرة من قبل فقهاء الإسلام، والتحقق هو النظر إلى المخلوقات على أنها تجليات صفات الخالق. ولا يقوم التصوف الحقيقي إلا بالجمع بين هذين الركنين، وبالتالي، فمن تشرَّع ولم يتحقق فقد تفسَّق، ومن تحقق ولم يتشرع فقد تزندق. في هذا النوع من التصوف هناك عدد من النصوص المؤسسة التي لا بد للسالك من قراءتها واستيعاب ما فيها، وأهمها الكتابات التي ذُكِرت آنفاً للطوسي والقشيري والسهروردي.ويضاف عليها كتابات أبي الحسن الشاذلي وحكم ابن عطاء الله السكندري الشهيرة، وأبي العباس المرسي وكتابات عبد الوهاب الشعراني وابن عجيبة وأحمد الرفاعي وعبد القادر الجيلاني وغيرها.

يحتل التصوف الطرقي جغرافية واسعة من أرض الإسلام كونه يعتبر حالة مدرسية منظَّمة تقوم على علاقة ثابتة بين الشيخ ومريديه ضمن نظام واضح من العلاقات بين كلٍ من الشيخ ومريديه، والمريدين أنفسهم والمريدين مع عموم الناس. وهناك عدد من الطرق التقليدية المعروفة في بلاد الإسلام التي تتبع هذا النوع من التصوف كالطريقة الشاذلية والدرقاوية والقادرية والرفاعية والنقشبندية وغيرها من الطرق المنتشرة في بلاد الشام ومصر وشمال أفريقيا. وربما يجدر أن نشير إلى ظاهرة ما يعرف بالتقليديين الجدد المتنامية في بلاد الغرب. وهي ظاهرة تعبر عن مجموعة من المسلمين الغربيين المتمسكين بالمذاهب التقليدية وفي الوقت نفسه يتبعون الطرق الصوفية. وتسميتهم بالجُدد نظراً لكونهم يطرحون خطاباً جديداً في مسعى يقوم على إعادة بناء التقليد الإسلامي من جديد.

أخيراً، تأتي كتابات حجة الإسلام أبي حامد الغزالي في حياته المتأخرة لتعطي طابعاً متميزاً لمنهجه الصوفي المفصَّل في كتابه “إحياء علوم الدين” الكتاب الذي يعكس تجربة ذاتية خاضها الغزالي نفسه ويعكس رؤية شاملةً للمسلك الروحي الذي ينبغي للمسلم أن يعتمده. يعكس كتاب “إحياء علوم الدين” في سياقه وتاريخه وبنيته العرفانية رؤية منهجية مهمة في المسلك الصوفي الإسلامي العام. ومن هنا فالكتاب -على الرغم من الانتقادات الموجهة للمجموعة من النصوص الحديثية التي استدل بها الغزالي والتي هذبها وبيَّن صحتها المحدث العراقي- يعتبر مصدراً مهماً لعدد من المذاهب الفكرية والفلسفية والصوفية المتنوعة.

 

  • * : عصام عيدو محاضر زائر للدراسات الإسلامية في جامعة شيكاغو، كلية اللاهوت، وباحث زائر في معهد نويباور كوليجيوم، جامعة شيكاغو. سابقاً، باحث زائر في منتدى الدراسات العابرة للأقاليم في برلين، ومحاضر في كلية الشريعة، جامعة دمشق.

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!