
وحدة الوجود عند المتصوّفة
بقلم : محفوظ أبي يعلا
إن أصل تسميّة التّصوّف مختلف فيها بين العلماء والدّارسين . فالبعض قال أن التّصوّف كلمة مشتقة من الصفو , والبعض الآخر قال أنّها مشتقة من الصّفاء … ويبقى رأي الكثيرين مثل ابن خلدون و الطوسي و غيرهما هو أن كلمة الصوفيّة اسم يرجع إلى الصوف , إذ إن المتصوفة اشتهروا بلباسهم الصوفيّ الّذي يدل على الزّهد و التّقشف .
وقد تناول ابن خلدون في كتابه العمدة المقدمة موضوع التّصوّف واعتبره علماً كان أصله طريقة السّلف في العكوف على العبادة و الانقطاع إلى الله و الإعراض عن زخرف الدّنيا وزينتها والزّهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذّة و مال وجاه , والانفراد عن الخلق في خلوة للعبادة [1] . ثم صار بعد أن كتب فيه كثيرون مثل المحاسبي والغزالي … علماً صناعياً يحتاج إلى بيان وتعليم [2] .
هكذا إذن أصبح التّصوّف علماً يُدرس, أي أنّه أصبح مدرسة علميّة قائمة بذاتها . مدرسة لها أعلامها مثل ابن عربي والجنيد والغزالي والجيلاني ..إلخ . ولها مفاهيمها الخاصّة مثل الحال و المقام و الحلول و الاتّحاد و وحدة الوجود و الفناء و البقاء ..إلخ .
في هذا المقال سنحاول أن نسلط الضوء على مفهوم وحدة الوجود . فما الّذي نعني به؟ وكيف دخل هذا المفهوم للصوفيّة؟ ومن أخذ به من المتصوّفة؟ ثم ما هي الانتقادات الموجهة إليه؟
هذه الأسئلة , و غيرها , سنحاول أن نجيب عنها.
عبارة وحدة الوجود مبنية على كلمتين , الأولى : الوَحدة و مصدرها وَحَدَ الّذي يعني الانفراد , و الوجود الّذي يعني كلّ ما هو موجود أو يمكن أن يوجد . فهكذا يظهر أن وَحَدَة الوجود تعني أن الوجود واحد . بمعنى أن الله و العالم حقيقة واحدة . أو بعبارة أوضح : إن الوجود الحقيقي هو وجود واحد و هو وجود الله , أمّا وجود الخلق فمجرد ظلّ لصاحب الظلّ , فالخلق بهذا الاعتبار شبح . و عليه , فإن ثنائية حق و خالق ثنائيّة موهومة زائفة . لأن العقل لا يدرك إلا التّعدد و هو عاجز عن إدراك الوحدة الشاملة . إن الحقّ و الخلق , حسب مذهب وحدة الوجود , وجهان لحقيقة واحدة [3] . و القول بوحدة الوجود يؤدي إلى ضرورة القول بقدم المخلوقات , إذ إن وجود الله لا بد أن يكون مساوياً في الوقت ذاته لوجودها [4] . كذلك فإن وحدة الوجود تجعل البعض يخلط بينها و بين الحلول الّذي يعني أن الله يحل في شخص بعينه حلولاً كلياً أو جزئياً . و هذا الخلط وقع فيه الكثير من العلماء أمثال الشهرستاني في كتابه الملل و النّحل و ابن تيمية حين استعمل عموم لفظ الحلول للدلالة على مفهوم وحدة الوجود [5]. و سبب هذا الخلط هو كون وحدة الوجود تطور لفكرة الاتّحاد و الحلول و انتقال فكرة تأليه الخلق من طور التّأليه الخاص في شخص بعينه إلى طور التّعميم , فأصبحت الفكرة ذات طابع عام بعد أن كانت ذات طابع خاص [6] .
و وَحدَة الوجود مذهب قديم , فكّر فيه الفلاسفة قبل المتصوفة * . فأول فلاسفة المدرسة الإيليّة و هو اكسانوفان كان من القائلين به . و ينقل أرسطو نصاً هاماً يقول فيه : ” إن اكسانوفان حين أشار إلى مجموع العالم , قال إن الواحد إله ” . فالعالم إذن واحد , و الواحد إله . فنحن هنا أمام مذهب وحدة الوجود الّذي لا يميز بين الله و الطبيعة فكلاهما واحد [7] . فإذن نظرية وحدة الوجود قديمة . أخذت بها أيضاً البراهماتية و الرواقيّة و الأفلاطونيّة الجديدة و الصوفيّة [8] . و قد دخلت في التّصوّف الإسلامي عن طريق دخول مفاهيم الشعوب القديمة و شعائرها و نظرتها للوجود , خاصّة بعد إنشاء بيت الحكمة و إقبال المسلمين على ترجمة الفلسفة اليونانيّة الّتي اشتملت أيضاً على التّصوّف الفلسفي . و ممن اشتهر من متصوفة الإسلام بالقول بمذهب وحدة الوجود نجد ابن عربي و بهاء الدّين الآملي و غيرهما.
و الحقّ أن الإسلام لا يتفق مع مذهب وحدة الوجود , لأنّ في هذه العقيدة انتقالاً من التّوحيد في عبارته ” لا إله إلا الله ” إلى عقيدة التّصوّف الفلسفي الّتي تعني ” لا موجود في الحقيقة إلا الله ” . و سياق كل عقيدة منهما , كما يشير علي سامي النّشار , ينتهي بنا إلى نتائج مخالفة أشد المخالفة لنتائج الأخرى , و هذا ما أدى إلى اشتعال نزاع بين بعض الصوفيّة و الفقهاء و المتكلّمين [9] .
غير أن الكثير من أهل التّصوّف يفسرون وحدة الوجود بوحدة الشهود الّتي تعني شهود صفات الخالق في مكوناته و مخلوقاته [10] . أي أن الصوفيّ يغيب عن العالم فلا يشهد إلا الله سبحانه [11] . و كما أن بعض منتقدي وحدة الوجود خلطوا بين الوحدة و الحلول , فإن البعض الآخر لم يستطع فهم ما يقصده المتصوّفة بوحدة الشهود , فاعتبروا أن وحدة الشهود تعني وحدة الوجود .
فإذن هناك سوء فهم صادر عن بعض السّامعين أو القارئين للمتصوّفة , سوء فهم جعلهم يعتقدون أن المتصوّفة يقولون بوحدة الوجود في حين أن الكثير منهم كان يقول بوحدة الشهود كما هو الحال مع ابن الفارض في قصيدته الشهيرة الّتي يقول فيها :
تراه إن غاب عني كل جارحة
في كلّ معنى لطيف رائق بهج
في نغمة العود و النّاي الرّخيم إذا
تألّفا بين ألحان من الهزج
و في مسارح غزلان الخمائل , في
برد الأصائل و الإصباح في البلج
و في مساقط أنداء الغمام , على
بساط نور , من الأزهار منتسجِ
…
فما أراد قوله ابن الفارض في قصيدته ” ما بين معترك الأحداق و المُهج ” الّتي نقلنا منها هذه الأبيات هو أن الأشياء كلها صادرة من الحقّ جلّ جلاله , و ليست هي الحقّ ذاته , و من ثمة فهي مظهر بل مرآة لصفاته السّنية و أسمائه القدسيّة [12] . فالإله باعتباره الجمال الكلي المطلق , موجودٌ في كلّ جميل , من نغم و طعم و رائحة و صورة … [13] , إنه في كلّ ” معنى لطيف رائق بهجِ ” لأنّه جميل و خيرٌ أسمى .
و أمّا ابن عربي الّذي اشتهر بالقول بوحدة الوجود , فمن المرجح أنّه قال بها في مرحلة ما من حياته , لأننا نجد له الكثير من العبارات الّتي تدل على أنه كان يرى بالوحدة . مثل عباراته الّتي يتحدث فيها عن الإله بأن ” الكلّ له , بل هو عين الكلّ ” , ” الكلّ لله و بالله , بل هو الله ” , ” فهو الكون كلّه ” , ” كل شيء “[14] . لكن من المحتمل أنه تراجع عن القول بالوحدة بدليل فحوى الأبيات التّاليّة :
وجدتُ وجوداً لم أجد ثانياً له
و شاهدتُ ذاك الحقّ في كلّ صنعة
و طالبُ غير الله في الأرض كلّها
كطالب ماء من سراب بقيعة
فهذه الأبيات تبريء ابن عربي من القول بالوحدة . لأن ما يفهم منها أن الوجود الذّاتي الحقيقي إنّما هو وجود الله وحده . و أمّا وجود ما عداه من الموجودات فبإيجاد الله إياها .
و الجدير بالذكر هنا أن ما يحدث لبعض المتصوّفة فيجعلهم يقعون في القول بالوحدة هو ذوبان صور الموجودات الظليّة أو التّبعية من أحاسيسهم , فتتحول الأغيار عندهم إلى أخيلة و أطياف , فيستسلمون لهذا الحال و يعبرون عنه , و ينسبون بسبب ذلك إلى القول بوحدة الوجود , و لكنهم سرعان ما يعودون فيحطون على أرض الواقع ليثبتوا الخلق و المخلوق و الخالق و يفصلوا بينهما [15] . و لعلّ هذا ما حدث لابن عربي (!) .
خلاصة القول : إن وحدة الوجود مذهب فلسفي و صوفي يقوم على توحيد الله و العالم , و أنصار هذا المذهب يزعمون أن كلّ شيء هو الله . و قد دخل مفهوم الوحدة للتصوّف الإسلامي بعد انفتاح المسلمين على الشعوب المخالفة لهم , و بعد اشتغالهم بترجمة ” علوم الأوائل ” الّتي كانت تتضمن إلى جانب الفلسفة اليونانيّة شيئاً من التّصوّف الفلسفي . و قد تعرض أنصار مذهب وحدة الوجود لنقد كبير من طرف خصومهم , لأن مذهب الوحدة يخالف العقيدة الإسلاميّة ,غير أنّ بعض المتصوّفة يفسرون وحدة الوجود بوحدة الشهود الّتي تعني , كما قدمنا , شهود صفات الخالق في مخلوقاته . و قد عبرت الكثير من قصائد المتصوّفة و كتاباتهم عن هذه الوحدة الّتي أساء فهمها جمع كبير من العلماء .
هوامش :
1 ـ ابن خلدون , المقدمّة , المجلد الخامس , تحقيق : عبد السّلام الشدادي , خزانة ابن خلدون بيت الفنون و العلوم و الآدب , ط : 1 , ص : 219
2 ـ ابن خلدون , نفسه , ص : 220
3 ـ أشرف حافظ , مفهوم الألوهيّة , دار كنوز المعرفة العلميّة للنشر و التّوزيع , ط : 1 , ص : 104
4 ـ عمر عبد الله كامل , التّصوّف بين الإفراط و التّفريط , دار ابن حزم , ط : 1 , ص :236
5 ـ أشرف حافظ , مرجع سابق , ص : 105
6 ـ نفسه , ص : 164
* نسجل هنا أنه يصعب الفصل أو التّفرقة بين ما هو فلسفي و صوفي في بدايات التّفكير الفلسفي الأوّل . فالكثير من المدارس الفلسفيّة كانت ذات روح صوفيّة كالفيتاغورية و غيرها …
7 ـ علي سامي النّشار , نشأة الفكر الفلسفي عند اليونان , منشأ المعارف ـ الاسكندرية , ط : 1 , ص ص : 36 ـ 64 .
8 ـ جميل صليبا , المعجم الفلسفي , ج 2 , دار الكتاب اللّبناني , ط : 1 , ص : 569
9 ـ علي سامي النّشار , نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام , ج 1 , دار المعارف , ط : 9 , ص 53
10 ـ عمر عبد الله كامل , مرجع سابق , ص : 236
11 ـ نفسه , ص : 251
12 ـ نفسه , ص : 241
13 ـ آرثور سعدييف , توفيق سلّوم , الفلسفة العربيّة الإسلاميّة , دار الفارابي ـ بيروت , ط : 1 , ص : 325
14 ـ نفسه , ص : 320
15 ـ عمر عبد الله كامل , مرجع سابق , ص : 237
شكرا جزيلا للشرح الوافي والسلس