رحلة مع كتاب الشّيخ ماء العينين مفيد الرّاوي على أنّي مخاوي

رحلة مع  كتاب الشّيخ ماء العينين مفيد الرّاوي على أنّي مخاوي

 

من الطريقة إلى الطّريق

رحلة مع  كتاب الشّيخ ماء العينين مفيد الرّاوي على أنّي مخاوي[1]

بقلم: خالد محمد عبده

 

بداية ليست هذه القراءة هي الأولى لهذا السفر العظيم الغرض، فقد سبقته قراءات عدّة، منها قراءة الأستاذين ماء العينين النعمة علي، وأحمد بومزكو، وكذلك قراءة الأستاذ محمد بن المبارك، وهما قراءتان جيدتان، لكني في هذه الورقة أشير إلى بعض الأمور التي خلت القراءات السابقة لهذا السِّفر الهام منها.

1- مفيد الراوي على أني مخاوٍ – متابعة من حيث البناء لطريق الأولياء ، فالولي العصامي ابن عربي -حسب تعبير كلود عدّاس-  كان قد كتب كتابًا على هذه الصورة – نصًّا وشرحًا- نظم النّص وقدّمه وشرحه بنفسه، أشير هنا إلى (ترجمان الأشواق وشرحه: ذخائر الأعلاق).

2- إن ما انتهى إليه الطريق الصوفي في أيامنا هو ما انتهى الطريق إليه في وقت الشيخ إلزامٌ دون التزام، وأذكار عدّة دون أن يتفاعل الذاكر مع الواقع، وصنمية في التشبث بالطريقة، وبُعدٌ عن طريق السعة واستيعاب الآخرين على ما ارتضوه من صور للذكر والعبادة والتوجّه إلى رب العالمين، فالطريقة الصوفية اليوم لا تختلف عن مثيلاتها من مذاهب التيارات السلفية الحديثة، أدرك أن البعض قد يرى في هذا التمثيل مبالغة أو يرفضه إلا أن هذا حقيقة بادية للعيان، فإذا كان الشّيخ هناك مقدّس لا يمسّ ولا يزاد على ما قاله فهو هنا كذلك، كلمة الشيخ تقدّم دون مراجعة لأصل ما يقوله الشيخ من كتاب وسنّة، وهذا ما رفضه الشيخُ ماءُ العينين ورفضه من قبله غيره من مشايخ الصوفية القدامى.

3- إذا كان شيخنا (سلفيًّا) فإن سلفيته في التماسه طريق النّبوة السمح الذي لا يفرّق بين أبناء الجسد الواحد، فهو وإن كان سلفيًّا في التخلّق بأخلاق النبي الأكرم، فهو كذلك وارث لسعة والده الذي كان يتحلّى بأخلاق الواسع إذ يرى والده عدم الإلزام بورد دون ورد أو التقيّد بشيخ ليشرب من يده دون أن يرى الماء في يد غيره ويمسك عن شربه مع عذوبته.

يقول الشيخ: (ما كنتُ أظنُّ إلاّ أن طرق أهل الله شيء واحدٌ، لأنّ شيخي-رضي الله عنه وأرضاه- ما ذكر لي تفرقة بينهم). [مفيد الراوي ص 43] . فالطريقة عند ماء العينين واحدة كما هي لأشرف ذوي الأنفاس لثبوتِ أخوةِ أهلها بالكتاب وعمل المصطفى عليه السلام.

وفي السلوك الذي يريد الشيخ تثويره من إعطاء الأوراد لأهل الطرق الأخرى سعة وانتشار لقيم التصوف، في وقت نحتاجه اليوم، كما كانت الحاجة تدعو إليه في وقته من اتحاد وتكاتف.

إن السلفية أو اتباع السابقين ليست في ترديد أن فلانًا يعتقد في صحة التصوّف المتشرّع أو التّصوفِ السنيِّ وكفى، بل السلفية الحقّة أن تكون معالم التصوف وروح النبي متجسدة في أفعال الداعي إلى طريق الله.

4-يمكن قراءةُ كتاب مفيد الراوي على أني مخاوي في مجال أوسع من محيط الطرق الصوفية في المغرب، إذ الدرس الذي يوجّهه الشيخ أكبر من أن ينحصر في نطاق زماني أو مكاني ويمكن تنزيله في جميع السياقات الزمنية والمكانية ليجمع أطراف النسيج الذي هلهلته مشائخُ زماننا بفعل العصبية التي نبذها الإسلام الأول في لحظة تأسيس النبي للجماعة المؤمنة الأولى، هذا مع عدم غضّ الطرف عن السياق الذي ألّف فيه الشيخ هذا النصّ الجامع وعدم غض الطرف أيضًا عن الروح الصوفي الكوني الذي تحلّى به مؤلف الكتاب.

5- من نقد الصوفية إلى تجديد البناء الصوفي: لم يكن الشيخ مهاجمًا لأحد أو منشغلاً بشخوص بعينها في نصّه الذي أحب أن أصفه بالجامع ليس تزيّدًا ولكنه وصفٌ دقيقٌ لما يود الشيخ أن يفعلَه واقعًا ويؤصّلَ له..فلا ترد أسماءُ شيوخ بعينها أو طُرقٌ، بقدر ما يتكرر السلوك الذي لا يحبه الشيخ ويرفضه ويتكرر البديل الذي يطرحه .. ونقد السلوك من باب إصلاح العيوب (سنة رسولية) وكذلك متابعة لطريق الأولياء السابقين، ومن يطالع مدونات التصوف القديمة بدءًا من القشيري في رسالته والطوسي في لمعه والهجويري ومرورًا بسيدي أبي الحسن الشّاذُلي واليوسيّ، وغيرهم ومن التصوف العربي إلى التصوف الفارسي عند العرفاء الذي اتصل الشيخ بنصوصهم كما يظهر اعتماده واطلاعه الواسع على نصوص الكبراوية ويظهر نفس سنائي في أكثر من موضع من كتاباته – وانتهاءًا بالشعراني الذي يجلّه الشيخ ويقتبس منه مرارًا عديدة – نجد نقدَ السلوكِ الصوفيِّ من أجل البناء لا ينشغل فيه المؤلف بالشخص بقدر ما ينشغل بفكرته ودرسه الذي يودّ إلقاءه على مريديه متخلّقًا هو به وداعيًا إليه، وهو سلوك وإن قلّ اليوم إلاّ أن الشيخ يضرب مثالاً على أصالته وأهميته بكتابه هذا.

إذا قرأنا هذا الكتاب ضمن فكرة نقد الصوفية للتصوف الشائع لأفدنا منه الكثير مريدين وشيوخًا ومحبّين لهذه المساحة الصوفية التي تسع جميع الخلائق[2].

6- اعتمادًا على الملاحظة السابقة يمكن مقارنة فكرة النص الأولى بأن الطرق إلى الله واحدة وإن تعددت بنص نجم الدين كبرى عن أن الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق – كما ذكر ذلك وشرحه في الأصول العشرة للطريق ورسالة السلوك، إذا يقول فيه: “الطرق إلى اللّه تعالى بعدد أنفاس الخلائق، فطريقنا الذى نشرعُ في شرحه، أقرب الطرق إلى اللّه، وأوضحها وأرشدها. وذلك لأن الطرق مع كثرة عددها، محصورةٌ في ثلاثة أنواع؛ أحدها: طريق أرباب المعاملات، بكثرة الصوم والصلاة و الزكاة والحج و الجهاد وتلاوة القرآن، وغيرها من الأعمال الظاهرة؛ وهو طريق الأخيار، فالواصلون بهذا الطريق في الزمان الطويل أقل من القليل.

وثانيها: طريق أصحاب المجاهدات والرياضات في تبديل الأخلاق وتزكية النفس وتصفية القلب وتجلية الروح والسعى فيما يتعلّق بعمارة الباطن؛ وهو طريق الأبرار، فالواصلون بهذا الطريق أكثر من ذلك الفريق، ولكن الوصول من ذلك، من النوادر. كما سُئل ابن منصور عن إبراهيم الخواص في أي شيء تروّض نفسك؟ قال: أروّض نفسي في مقام التوكل منذ ثلاثين سنة! فقال: أفنيت عمرك في عمارة الباطن، فأين أنت من الفناء في اللّه.

وثالثها: طريق السائرين إلى اللّه والطاهرين باللّه، وهو طريقُ الشّطّار من أهل المحبة، السالكين بالجذبة؛ فالواصلون منهم في البدايات أكثر من غيرهم في النهايات. فهذا الطريق المختار مبنيٌّ على الموت بالإرادات-كما قال النبى عليه السلام: «موتوا قبل أن تموتوا»”[3].

 ومن الفواتح في رسالة الشيخ للوهلة الأولى نتذكّر ما يقوله سنائي الغزنوي عن أن الطريق واحد ليس على مستوى صور الإيمان فحسب بل الإنكار أيضًا ! وفي خواتيم رسالة الشيخ ماء العينين نلحظ تأثّرًا واضحًا بسنائي إذ بقليل من النظر ندرك ذلك في قول الشيخ: “اعلم أن الحضرة الإلهية والواصلين إليها تمثل بمدينة كبيرة، بل بمكّة خاصة، شرّفها اللهُ، تأتي إليها الناس من كلّ فجّ عميق، وفيها من حاجة كلّ أحدٍ ما لا يوصف، وأهلها يعرفون كل أحد لكثرة ورود أهل الآفاق إليها بكل ما يوصف”[4]. حينما نقرأ قول سنائي: الإلحاد والإيمان يسيران معا علي طريق الرب (….) هناك طرق كثيرة للبحث لكن غاية البحث واحدة دائما. ألا ترى أن الطرق إلي مكة مختلفة كثيرا، واحد يأتي من بيزنطة، الآخر من الشام، أخرى في البر أو البحر؟

الطرق مختلفة، والهدف واحد، وعندما يصل الناس إلي هناك تحل كل الخلافات أو النزاعات أو التباينات التي حدثت في الطريق. وأولئك الذين كان بعضهم يقول لبعض في الطريق ‘أنت مخطيء’، أو ‘كافر’ ينسون خلافاتهم عندما يصلون لأن القلوب هناك تكون في انسجام.

 7- إن نصّ الشيخ مغضبُ ومزعج، ومن الإزعاج تتغير الأوضاع فلا تغيير في هدوء، وهو وإن كان مزعجًا إلاّ أنه إزعاج ينتج إيجابيات لا سلبيات .. من الذي يغضب؟

الذي يغضب هو الذي يفرح بالغثاء والكثرة العددية ويتباهي بأن طريقته بلغت مليونًا أو عشرة ملايين ..   فمثله لن يرضى لأتباعه أن ينتقلوا من ورده لورد غيره وهو وإن كان مزعجًا – لمن يتمهل أو يتدبر – إلا أنه سيحقق له مراده دون أن يدري فالذي يوسّع على عباد الله تقبل عليه العباد أكثر ونلحظ ذلك اليوم في إقبال الكثيرين على دروس حضرة مولانا جلال الدين الرومي لأنه لا يناشد إنسانًا معينًا بل يناشد الإنسان أيّما كان بأن يأتي فحسب وفي المكان متسع لوجوده وكما يقبل أهل الأديان والملل المختلفة اليوم على دروس مولانا الحاضر نصًا وروحًا وتعاليمًا وشرقًا وغربًا أقبل على الشيخ ماء العينين من أهل الأديان الأخرى ما شهد به الجميع.

8- في حديث الشيخ عن مغبة التفريق بين عباد الله، شبّه من يفرّق بين أولياء الله بمن يفرّق بين الأنبياء، وضرب لنا مثلاً باليهود والنصارى، ووصفهم بالملعونين والمبعدين من رحمة الله، على اعتبار أن اليهود وإن آمنوا بموسى إلاّ أنهم لم يؤمنوا ببقية الأنبياء كعيسى ومحمد عليهما السلام، وكذلك فَعَلَ المسيحيون في كفرهم بالنبي الأكرم محمد. ويمكن الاندهاش نوعًا ما من موقف الشيخ من اليهود والمسيحين إذ يظهر من كلامه التشدد لا التسامح، في وقت يدعو فيه إلى التسامح ويحمل ابناء البناء الواحد رغم تفرق طرقهم على الاجتماع؛ لكن سرعان ما يتبدد هذا الاندهاش حينما نعلم أن للشيخ كتابًا يحمل عنوان “هداية من حارا في أمر النصارى” وضّح فيه وجهة نظره الخاصة بالتعامل مع النصارى، ويمكن من خلال مراجعة الكتاب أن نتبيّن أن معنى الكلمة عنده الأجنبي والمعتدي، لا الكتابي من أتباع عيسى عليه السلاّم.

9- يمكن إعادة النظر في تراث الشيخ، خاصة ما يتعلق بمفاهيم الآن تبدو مضطربة في أذهان العامة، كمفهوم الولاء والبراء، وهل هناك من يُحبّ وهناك من يُعادى؟! كذلك يمكن القطع في التعامل مع أشخاص ينتسبون لدين ما واستخدام مصطلحاتهم التي يتواصلون بها دينيًا، كالحياة الأبدية والولادة الجديدة والأب الراعي مرادفًا للإله. يمكن كذلك إعادة النظر في فكرة الرهبانية كما تحدث عنها القرآن وكما تتجسد في الواقع وغيرها من الأفكار التي نلحظ وجودها في تراث الشيخ.

أخيرًا لا أودّ أن أطيل على حضراتكم في هذه الجلسة، وأشكركم على هذه الفرصة الطيبة، والسلام يشملنا جميعًا.

 

[1] : ملخص المداخلة التي ألقاها الباحث في الملتقى الدولي الأول للتصوف عند الشيخ ماء العينين تحت شعار:”الشيخ ماء العينين رمز التسامح والمخاواة” بأكادير يوم الجمعة 16 ماي 2014.

[2]: يبدو أن الاتجاه إلى نقد التصوف، وتأثره بالدوافع الموالية والنزعات المعارضة، قد بدأ من قديم، واقترنا بعصر التدوين لعلم التصوف والتأليف فيه، بل لعلهما كانا من بين الأسباب الباعثة على التدوين والتأليف. راجع في ذلك: (موسوعة التّصوف الإسلامي) الصادرة عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر، فصل (نقد الصوفية للتصوف) بقلم الشيخ الصوفي الجليل حسن الشافعي ص 746.

[3]: انظر فوائح الجمال وفواتح الجلال لصانع الأولياء نجم الدّين كُبرى، نشرة القاهرة ص 90.

[4]: انظر: مفيد الراوي على أني مخاوي للشيخ ماء العينين، تحقيق محمد الظريف، نشرة مؤسسة الشيخ مربيه ربّه، المغرب، ص 69.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!