أثمار مولانا

أثمار مولانا

أثمارُ مَوْلانا*

بقلم: خالد محمد عبده

كُنتُ ثلجًا وتحت أشعّتك ذُبْت

الرومي

عُرف جلالُ الدين الرومي أكثر ما عُرف عن طريق كتابه العظيم الشأن “المثنوي”؛ وعلة ذلك هي أن معلومات المولوي ومعرفته الواسعة الفريدة تموج في ثناياه وخلال أبياته. إن من الممكن عدّ المثنوي كتابا تعليميا بما فيه من تعاليم خلفها جلال الدين محمد في أواخر عمره بطلب وإلحاح من حسام الدين الجلبي لمريديه الكثرين.

إن فيه شيئا من كل شيء: فيه قرآن، وتفسير، وحديث، وحكمة، وتصوف، وفلسفة عالمية شاملة، وأمثال، وحكايات كثيرة يستند إليها لتوضيح الموضوعات وتأييد أفكاره، حتى إن الإنسان يتصور أن ليست هناك حكمة أو موعظة أو فكرة في المجتمع الإسلامي في ذلك العصر لا تجد آثارها في المثنوي([1]).

ربما يعتبر القارئ الغريب عن نصوص مولانا أن محبّيه “قد بالغوا في تعظيم المثنوي حتى سمّوه القرآن البهلوي أي قرآن الفارسية”([2]).  فلا يمكن للبعيد عن النصوص الصوفية أن يدرك بعقله ما فتن عقول الآخرين ولمس قلوبهم. يتحدث مولانا عن أشهر كتاب له، قائلاً: “هذا كتاب المثنوي؛ وهو أصول أصول أصول الدين، في كشف أسرار الوصول واليقين، وهو فقه الله الأكبر، وشرعُ الله الأزهر، وبرهان الله الأظهر، مثَل نوره كمشكاة فيها مصباح، يُشرق إشراقاً أنورَ من الإصباح… وهو جنانُ الجنان، ذو العيون والأغصان…، الأبرار فيه يأكلون ويشربون، والأحرار فيه يفرحون ويَطربون وهو كنِيل مصر شراب للصابرين، وحسرة على آل فرعون والكافرين”([3]).

من شرب من نيل مصر يعود إليه مرة أخرى، يؤمن المحبّون بذلك، فالنيل رمزٌ للعطاء ومصر دومًا بلدٌ تنتج الحكمة والعلم والمعرفة، الذي لم يزر مصر لا يعرفها جيّدًا، ويمكن أن يلخّصها في بعض الأحداث التي تخبرنا بها وسائل الإعلام، لكنك تعرف من زوّار هذا البلد الذي لا يسكن توتره ولا يتوقف نبضه أخبارا عن أماكن مجهولة وأحلام غربية وطباع لم تعتدها في حياتك، تقبل بعضها، تندهش من بعضها، تنكر بعضها، لكن السمع لا يغني عن المعايشة والتجربة.

المثنوي كمصر يحتاج منك أن تزوره مستكشفًا بنفسك ستجد أن ما يقوله مولانا عنه حقيقي بالفعل، ستجد الحكمة والنور، سيحصل قلبُك على كثير من السرور، ستستمع أحيانًا إلى الموسيقى تُعزف دون آلات، سترى عيناك الكثير من الصور البديعة التي تستحضرها مع كلمات الرومي التي تنقلك مباشرة من المحسوس إلى المعنوي الشفاف (يا أخي اجعل عقلك معك لحظة واحدة .. إن بك في كل لحظة خريفًا وربيعًا .. وانظر بستان قلبك أخضر ريّان نضرًا، حافلاً ببراعم الورد والسرور والياسمين) ([4]).

  يُقال لك إن المثنوي كتابٌ عاديٌّ ومن تخبّط الصوفية يطلقون عليه (قرآن الأعاجم) ومن ضلالاتهم أنهم يعدّونه (أصل أصول الدين) كما قال صاحبه! ما يقوله الصوفية حقٌّ وما يُقال عن المثنوي حقٌّ كذلك! لكن ليست كل عين مبصرة! إن بصرنا يعاني الكثير من العلل فاذهب وافنِ بصرك في بصر الحبيب.. عندما قُيّدت الأرواح بأمره تعالى (واهبطوا) صارت أسيرة الغضب([5])! والغضب من المخالف يُنسينا ما لديه من حقائق ظاهرة، فمن يُراجع المثنوي مراجعة سريعة لا متأنية سيعرف أن المثنوي صورة من صور تفسير القرآن الكريم، وترجمان له، سيقرأ من أحاديث الرسول الأكرم الكثير، سيعرف ساعتها أن المثنوي شرعُ الله الأزهر، وبرهان الله الأظهر، إذ يجسد فيه صاحبُه قيم الإسلام ببيان وجمال متمثّلا فيه القرآن، تلمس عنده الإحساس الصادق، والعاطفة الجياشة، والعقل المعلّم، والنفس الصافية، التي تستطيع أن تبثّ الصفاء في نفوس الآخرين، وتشيع فيها البهجة، وتصحبها معها في رفق وأناة في دروب من التأمل العميق، وآفاق من الفكر الرفيع تعينها على تحقيق حياة أسمى، والطموح إلى غايات أعلى من تلك الغايات المادية التي يعنو لها البشر في الحياة([6]).

 الأحرار والبسطاء في المثنوي يفرحون ويَطربون، فمولانا يلتقط من الحياة العامة ومفرداتها ما يجعل القارئ سعيدًا أنه يفكر معه ويعيش معه حياته اليومية البسيطة فالمرأة التي تطبخ طعامًا لصغارها لن يعجزها إدراك فحوى قصة المرأة والقدر، ولن تخرج من القصة دون أن تستنبط درسًا عن النفس الإنسانية، لنقرأ معًا جزءًا من هذه القصة، كما ترجمها الأستاذ كفافي([7]) تتحدث المرأة مع حبة الحمص التي تقوم بطهيها قائلة:

“إنني أغليك بالنار لا لأني أكرهك، ولكن لأني أريد أن أجعلك سائغة الطعم .. فتصبحين بذلك غذاء يختلط بروح الحياة. فمثل هذا العذاب لا يهبط بك. … لقد فُصِلتِ عن بستان الأرض، وستصبحين بذلك طعامًا يدخل جسم الحي فيغدو غذاءً وحيوية وفكرًا. لقد كنتِ عصارة نباتية، والآن تصبحين من أسد الغاب. لقد كنتِ جزءًا من السحاب والشمس والكواكب، والآن تصبحين نفسًا وحركة وحديثًا وفكرًا”.

من الذي لا يضحك وهو يقرأ في المثنوي، فقد جاءت بعض الأمثلة بشكل فكاهي استخدم فيها مولانا السخرية والتهكّم لتحقيق أهدافه الفنية في صياغة شعره، وتحقيق أهدافه التعليمية بأمثلة تقرّب الفكرة للجمهور، تستطيع أن تتخيل لوحة (كاريكاتير) وأنت تقرأ بعض القصص مرسومة أمام عينك، وأنت تضحك من صورتها، وفي المشهد التالي ما يؤكد لك ذلك:

كانت ذبابة على عود قشٍّ فوق بول حمار، وقد رفعت رأسها كربّان السفينة! وقالت: “إني أسميها بحرًا وسفينة، وهذا ما استغرق فكري فترة من الزمن! فانظر هذا البحر وتلك السفينة، وأنا فوقهما الربّان البارع الحصيف الرأي!” فكانت هذه الذبابة تسير سفينتها على صفحة البحر، وقد بدا لها هذا القدر ماءٌ لا يُحدُّ.. لقد كان هذا الماء يبدو بلا حدود بالنسبة لها، ومن أين لها ذلك النظر الذي تراه على حقيقته؟ إن عالمها يمتد إلى المدى الذي يدركه بصرها، فعلى قدر العين يكون مدى بحرها([8]).

ومن الذي لا يطرب وهو يقرأ شعرًا يجسد وجْد مولانا وشوقه وعشقه، إذ يقول:

  هذه الدار لا تفتر فيها الألحان.. سل ربّها أي دارٍ هذه؟! إن كانت الكعبة فما صورة الصنم هذه؟ وإن كانت دير المجوس فما هذا النور الإلهي؟ في هذه الدّار كنزٌ يضيقُ به العالم.. وإنما هذه الدار وهذا السيد (ربّ الدار) فعلٌ وذريعة.. لا تضع على الدار يدًا فما هي إلاّ طلسم، ولا تُكلّم السيد فقد أفنى الليل سُكرًا.

ترابُ هذه الدار وقمامتها مسكٌ وعنبرٌ وعطرٌ. كلّ سطحها وبابها شعر وألحان. فمن وجد سبيلاً فيها فهو سلطان الأرض وسليمان الزمان.

 أيّها السيد أطلّ علينا من الشرفة مرة! فإن في خدّك الجميل أمارة من الإقبال.

 أقسم بروحك أن ما عدا رؤية وجهك – ولو كان مُلك العالم – خيال وخرافة..

تحيّر البستانُ أيُّ ورقٍ وأي زهر! وولهت الطير أيُّ شبكٍ وأيُّ حبٍّ!

هذا سيد الفلك كالزهرة والقمر، وهذي دار العشق لا حدّ لها ولا نهاية ([9]).

أختم هذه الكلمة عن المثنوي بكلمة للعلامة بديع الزمان فروزانفر ، الذي صرف عمره لقراءة وشرح وتصحيح آثار مولانا، لا سيما المثنوي المعنوي، يقول: “إنني دائماً في تدبّر معاني أبيات المثنوي كنت أواجه العديد من المشكلات والصعوبات، وبعد الفحص والسؤال الكثير حصل في قلبي على حكم وقع في قلبي حكمة؛ فكما أن القرآن يفسّر بعضه بعضاً فتيقّنت أن لمعرفة أسرار المثنوي يجب أن أرجع إلى المثنوي نفسه، وسائر آثار المولوي، فقمت بمطابقة المثنوي مع آثار مولانا كلّها، وكتاب فيه ما فيه فحلّ الكثير من مشكلاتي”([10])

إن المثنوي سيسود وينتشر من بعدنا وسيصبح مرشد المريدين .. تلك نبوءة قالها مولانا قبل قرون عدّة تجعلنا أمام مهمة جليلة، تقتضي منّا حسن قراءة تراثه، فرغم كون المثنوي أثراً شعرياً إلا أن الذوق الشعري والتأمل الظاهري لألفاظه غير كافٍ، بل لا بد من المعرفة الروحية، بغية الوصول إلى مراد مولانا واستخراج جواهره ولآلئه ([11])، لننتقل في حديثنا التالي إن شاء الله عن كتاب فيه ما فيه.

 

الهوامش 

*تمثل هذه الكلمة جزءًا من محاضرات ألقيت في المنامة عاصمة البحرين عن الرومي والمولوية، 1 سبتمبر 2016.

(([1] علي دشتي، رحلة في ديوان شمس تبريزي، مجلة الدراسات الأدبية، عدد 19، ص 138.

(([2] عناية الله إبلاغ الأفغاني، جلال الدين الرومي بين الصوفية وعلماء الكلام، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 1987، ص56.

([3]) مولانا جلال الدين الرومي، المثنوي المعنوي، مقدّمة الجزء الأول، ترجمة كفافي.

(([4] المثنوي، مجلد أول، أبيات رقم 1897 ترجمة العلامة كفافي.

(([5] المثنوي، مجلد أول، قصة الأرنب والأسد، ص 908.

(([6] محمد عبد السلام كفافي، دراسة موجزة عن جلال الدين الرومي، نشرة جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، القاهرة 2009، ص22.

(([7] مثنوي مولانا، المجلد الثالث.

(([8] مثنوي مولانا، المجلد الأول، أبيات رقم 1087.

(([9] راجع: عبد الوهاب عزّام، فصول من المثنوي، القاهرة 1946ص24.

([10]) جلال الدين الرومي، فيه ما فيه، المقدمة، ص ج.

([11]) راجع العلامة فروزانفر، من بلخ الى قونية، ص 250.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!