فصولٌ في التصوّف

فصولٌ في التصوّف

 

فصولٌ في التصوّف للشيخ حسن الشافعيّ، رئيس مجمع اللغة العربيّة بالقاهرة، والرئيس الأسبق للجامعة الإسلاميّة في باكستان. يُعرف الشيخ الشافعيّ في الوسط الثقافيّ بهاتين الصفتين. وقد سجّل الشافعيُّ جزءًا من مشاركته في العمل السياسيّ المصريّ في مذكراته المنشورة بعنوان (شهادة أزهريّ معاصر على مسار التحوّل الديمقراطيّ في مصر) ونشر كتابه في دار الغرب الإسلاميّ في بيروت. كما سجّل كثيرًا من تفاصيل حياته الفكريّة والروحيّة في سيرته الذاتية (حياتي في حكاياتي) التي سعد بها طلاّبه والمهتمّون بدور عالم خدم العلم الشرعيّ والإسلام شرقًا وغربًا.

اهتم الجمهور العربيّ بالشيخ الشافعيّ. وظهرت المقالاتُ في السنوات الأخيرة عنه وعن جهوده وموقفه السياسيّ. ولم يقارب أغلب من كتبوا عنه شيئًا من إنتاجه الفكريّ. كُتبت المقالات عن موقف الشيخ من الثورة المصريّة، حينما جلس الشيخ في الجامع الأزهر يستكمل دروسه التي بدأها قبل سنوات مع مشروع إحياء دروس الأزهر. لم يناقش المهتمّون بالشيخ كتابًا يشرحه أو علمًا ينشره إلّا فيما ندر! لكن كثيرين ممّن تتلمذوا على الشيخ في السلوك كتبوا عنه قبل سنوات بعيدة، وأجمعوا على اختلاف مشاربهم على أنّه من أنبل من عرفوا خلقًا. عُرِف بدقّته في أمور البحث والكتابة[1]. ويشهد للشافعيّ أيضًا بتمكّنه في المعرفة من يختلف معه في المشرب والوجهة. ومن ذلك ما نجده عند عبد المجيد الشرفيّ في كتابه الإسلام بين الرسالة والتاريخ. عند حديثه عن المؤلفات الكلاميّة في العصر الحديث. إذ اعتبر كتاب الشافعيّ المدخل إلى علم الكلام من أفضل الكتب المرجعيّة، الذي لا يقارن بغيره من الكتب الصادرة في هذا المجال.

ويحسنُ بنا أن نذكر تعريفًا بمؤلفات الشيخ حسن‌ الشافعيّ وهي ستة مؤلّفات رئيسيّة: كـتب‌ المـدخل‌ إلى‌ دراسة علم الكلام‌، مقدّمة‌ فـي الفلسفة العامّة، فصول‌ فـي التصوّف، في فكرنا الحديث والمعاصر، لمـحات من الفكر الكلاميّ، شهادة أزهريّ معاصر على مسار التحوّل الديمقراطيّ في مصر. ويضاف إليها بعض الكتب التي ألّفها بالاشتراك‌ في المنطق ومناهج البحث، وتحقيقاته لنصوص علم الكلام الأشعريّة، مثل: غاية‌ المرام‌ في علم الكـلام، والمبين فـي معاني ألفاظ الحـكماء والمتكلّمين لسيف الدين الآمديّ، الذي زوّده بـمقدمة ضـافية عن المصطلح العلميّ والكلاميّ في التراث الإسلاميّ، فصّل القول‌ فيها عن‌ المـؤلّفات‌ العـامّة‌ في المصطلحات المستخدمة‌ في كافة العـلوم الإسلاميّة وعلوم اللغـة العربيّة. وتحقيقه الأخير الذي قدّمه شيخ الأزهر أحمد الطيّب لكتاب اللمع للأشعريّ.

للشيخ الشافعي ثلاث ترجمات عن الإنجليزيّة تاريخ التشريع الإسلاميّ، لكولين، وتطوّر الفكر الفلسفيّ في إيران لمحمّد إقبال، ونحو علم اجتماع إسلاميّ. وله‌ أبحاث‌ عديدة بالإنجليزيّة والعربيّة نذكر منها ما كتبه عن مبادئ علم‌ أصول الفقه وكيف يفاد الاقتصاديّون المسلمون منه، والقاضي في ظلّ دولة الإسلام، وتقسيم العلوم الشرعيّة، وابن رشد الفقيه.

فصولٌ في التصوّف

كثيرة هي الكتابات المصريّة عن التصوّف الإسلاميّ والتصوّف المقارن. منهم من اكتفى بنشر بعض مباحث متعلقة بالتصوّف في المجلات كالرسالة والمقتطف والمجلة وغيرها، ومنهم من طوّر بحوثه ونقّحها وجمعها في كتاب، أيّد الفكر الصوفيّ كثير من الكتّاب، وعارض بعضهم هذا الفكر لأثره على المجتمع والعلوم الفلسفيّة، وشهدت المجلات المصريّة معارك فكريّة تمخّضت عنها كتابات ساهمت في إثراء التصوّف والتعريف به واستمرّ هذا الاهتمام حتّى وقتنا هذا.

ألّف في التصوّف قبل الشيخ الشافعيّ أساتذة الجامعات المصريّة من أمثال محمّد مصطفى حلمي، وأبي العلا عفيفي، وأبي الوفا التفتازانيّ، وأبي ريّان، والنشّار، وعبد الرحمن بدويّ، وتوفيق عيّاد، وإبراهيم بسيونيّ، ومحمد كمال جعفر، وغيرهم. فما الحاجة إلى مثل هذا المدخل مرة أخرى؟ يجيب الشيخ أنّ ثمّة دوافع قوية متجدّدة ومتنوّعة تدعونا إلى أن نعيد النّظر، ونقلّب الرأي ونتابع البحث في قضايا التصوّف، بعضها يرجع إلى طبيعة الموضوع، وبعضها يرجع إلى طبيعة نفوسنا ذاتها، وبعضها يرجع إلى ظروف العصر من حولنا، والبعض الآخر يرجع إلى اعتبارات دينيّة وثقافيّة وتاريخية تعني المثقّف المسلم بوجه خاصّ، ولكنّها جميعًا تمثّل حاجة فكريّة ومعنوية وروحيّة لا يسعنا إهمالها[2].

استهلّ الشيخ الشافعيّ كتابه بأنشودة النّاي لمولانا جلال الدين الروميّ: استمع للناي كيف يقصُّ حكايته وهو يشكو آلام الفراق قائلاً: إنّني منذ قُطعت من منبت الغاب، والناس جميعًا يبكون لبكائي! إنّني أنشد صدرًا مزّقه الفراق، حتّى أشرح له ألمَ الإشتياق. فكلّ إنسان أقام بعيدًا عن أصله، يظلّ يبحث عن زمان وصله. لقد أصبحتُ أنوح فى كلّ مجتمع وناد، وصرت قرينًا للبائسين والسعداء. وقد ظنّ كلّ إنسان أنّه قد أصبح لي رفيقًا، ولكنّ أحدًا لم ينقّب عما كمن فى باطني من الأسرار! وليس سرّي ببعيد عن نواحي، ولكن أنّى لعين ذلك النور، أو لأذن ذلك السمع الذي به تُدرك الأسرار[3].

في مقدّمة الكتاب يحضر الرّوميّ بشكل لافت، فحنين النفس الإنسانيّة إلى معدنها الأوّل يتجسّد في الصورة التعبيريّة التي صاغها الروميّ في أنشودته، لكنّ الشيخ لا يستشهد بالروميّ مفضّلا مدرسته على غيره من الصوفيّة، بل يجمع في تناغم واضح بينه وبين الصوفيّة السابقين، بل وخصوم التصوّف أيضًا!

فيسبق ابن تيمية ابن عطاء الله السكندريّ، ويجاور ابن القيّم الرّوميّ، ويجتمع الغزاليّ بمارتن لينجز، ويتأخّر ظهور الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر الذي أحيا تراث الصوفيّة الأوائل، وأحيا نموذج الصوفيّ القديم بتجسيده لسلوكه وأعماله، فالتصوّف: ليس عملًا علميًا، ولا بحثًا نظريًّا، إنّه لا يُتعلّم بواسطة الكتب على الطريقة المدرسيّة، بل إنّ ما كتبه كبار مشايخ الصوفيّة أنفسهم لا يُستخدم إلاّ كحافزٍ مقوٍّ للتأمّل، والإنسان لا يصير بمجرد قراءته متصوّفًا.

 يؤكد الشيخ الشافعيّ عبر استناده إلى ما كتبه حجّة الإسلام الغزّاليّ في كتابه المنقذ من الضلال والمفصح عن الأحوال على أنّ التصوّف لا يغني في معرفته، معرفة حقيقية كاملة، مجرد القراءة عنه، أو الدراسة النظريّة له. لكنّا على أيّة حال لا نطلب من وراء هذه الكتابة إلاّ المعاونة على حسن الفهم والإدراك للظاهرة الصوفيّة، كما بدت في محيطنا الثقافيّ[4].

فصولٌ في التصوّف مكوّن من أربعة أبواب، الباب الأول في معنى التصوّف (ما التصوّف؟)، والثاني نظرة عامّة إلى تاريخ التصوّف، والثالث: من تجليات الأدب الصوفيّ، والرابع: في نقد التصوّف.

يقسّم الشيخ الباب الأول ما التصوّف؟ إلى أربعة فصول (21-116) الفصل الأوّل: التصوّف، ظهوره، ومعناه اللغويّ، ويؤكد مع محمّد كمال جعفر على أنّ البحث عن الأصل الذي جاءت منه كلمة التصوّف هو مجرد إشباع للفضول، فضلًا عن كونه قليل المحصول. لكنّه اقتداء بسنّة الأقدمين حرص من خلاله على تعريف القارئ بمقدّمة هذا العلم وتحدّث عن ظهور التصوّف وبدايات إطلاق المصطلح في التاريخ الإسلاميّ، وخلص في نهاية الأمر إلى أنّ الكلمة ظهرت ثمّ شاعت ثمّ غلبت على غيرها من ألقاب هذه الفئة من المسلمين (الصوفيّة) التي تميّزت بمذاق روحيّ في فهم الدّين، ومسلك عمليّ خاصّ في تطبيقه[5].

وينتقل الشيخ للحديث عن المعنى اللغوي، ملخّصًا الاتجاهات المختلفة في بيان أصل الكلمة لغويًا على النحو التالي:

  • ليس لها أصل عربيّ اشتقت منه، بل وضعت هكذا وضعًا جديدًا لتمييز هذه الفئة من النّاس.
  • استعيرت الكلمة من لغة أخرى هي الإغريقيّة ولا أصل لها في العربية.
  • اتجاه يحاول تحديد الأصل اللغويّ للكلمة في ضوء اعتبارات دلاليّة، دون اهتمام بالجانب اللفظيّ وتوافقه مع قواعد الاشتقاق والنسب اللغويّة. ويعرض الشافعيّ لهذه الاتجاهات ويناقشها معتمدًا ما يقوله التراثيّون والمحدثون في شأن الكلمة.

وفي الفصل الثاني من هذا الباب يتحدّث عن خصائص التصوّف مستندًا إلى ما تقوله الباحثة الغربية إيفلين أندرهل، التي ذكرت خصائص أربع للتصوّف الإسلاميّ، ويشفع ذلك بما يقوله أبو الوفا الغنيميّ التفتازانيّ (أستاذ الفلسفة والسالك الصوفي وشيخ مشايخ الصوفيّة في وقته) عن خصائص التصوّف بمعناه الإنسانيّ العام. وللشيخ الشافعيّ رؤية خاصّة به إذ يحدد خصائص التصوّف الإسلاميّ في محدّدات ثلاث: 1-الارتباط بعقيدة التوحيد مبدأ ونهاية. 2-التعلّق بالذّات المحمديّة والمحبّة الغامرة لشخص مُحمّد صلّى الله عليه وسلّم المبلّغ رسالة ربّه إلى الخلق والوليّ العارف بالحقّ وبوصفه الإنسان الكامل. 3-التصوّف ظاهرة سُنّية ظهر في الأوساط السنيّة، ولم يُعرف عن الشيعة اشتغالهم بالتصوّف إلا مؤخرًا!

وفي ختام هذا الفصل يعرض الشافعيّ لعلاقة التصوّف بالعلوم الشرعيّة من حيث المنهج والموضوع، ويبين لنا أنّ مهمة التصوّف ليست الرواية وتحقيق مصادر الحكم الشرعيّ، كما هو الشأن عند المشتغلين بعلوم القرآن وعلوم الحديث، ولكنّه يتلقّى نتائج هذين العلمين عن رجالهما المتخصصين، ولا ينسى الشيخ أن يشير إلى أنّ أكثر طرق الرواية في العصر الحديث ترجع إلى شيوخ التصوّف. كما يشير إلى العلاقة بين علم الكلام والتصوّف من خلال اهتمام العلمين بالمسائل الإلهيّة وإن اختلفت الوظيفة. وفي الفصل الثالث من الكتاب يتحدث الشافعيّ عن أصل التصوّف ومصدره، معتمدًا ما يقوله المتصوفّة الأوائل، من كون التصوّف منذ البداية ولد في حِجر الإسلام ونما في أحضانه، مشيرًا إلى ما انتهى إليه ماسنيون في درسه للتصوّف ومصطلحاته، ومؤكّدًا رأيه. ثم يناقش ما يراه العلماء والباحثين القائلين بأنّ التصوّف نشأ وتطوّر بالمؤثرات الأجنبيّة، فناقش مسألة المصدر الهنديّ للتصوّف، معتمدًا في حججه على ما قدّمه البيرونيّ. كما ناقش ما قيل عن المصدر اليونانيّ والفارسيّ والمسيحيّ.

وخصّص الفصل الرابع للحديث عن حقيقة التصوّف والتعريفات الواردة في كتب القوم والدارسين. ورأى أنّ التعريفات تنقسم إلى قسمين كبيرين، يتضمن كلّ منهما فروعًا جزئية، النوع الأول: يركّز على الناحية العمليّة، والثاني: يتوجّه بصفة خاصة إلى الناحية الرّوحيّة. وعرض لنماذج تمثّل هذين القسمين من كتابات الجنيد وابن تيمية والهجويريّ وفريد الدّين العطّار وأبو الحسين النوريّ[6].

وفي الباب الثاني قدّم (نظرة عامّة إلى تاريخ التصوّف) تتبّع التصوّف في التاريخ الإسلاميّ من خلال نظرة على معالمه الرئيسية وتطوراته الكبرى مميزًا بين مراحل خمس في تاريخه، هي: 1-مرحلة الزهد والنشأة. 2-مرحلة النّضج والتّربية. 3-مرحلة الازدهار الفكري والعملي. 4-مرحلة الفتور والتّقليد. 5-مرحلة النّهضة الحديثة. وفي مرحلة النشأة لم يفته التنبيه على مدرسة الزهد والتصوّف في مصر التي غفل الباحثون ذكرها وهم يتحدثون عن الزهد في مكّة والمدينة وخراسان والبصرة. وأكّد على شهرة مدرسة مصر بأمثال الليث بن سعد الفقيه الزاهد، وذي النون المصري العارف، وحيوة بن شريح التجيبيّ، والحسن بن خليل، وغيرهم. ويحيلنا الشافعيّ في هذا الصدد على مرويات ابن الجوزيّ في صفة الصفوة، ومصطفى كامل الشيبيّ في دراسته عن الصلة بين التصوّف والتشيّع. وختم الشافعيُّ حديثه عن هذه المرحلة بأستاذ السائرين الحارث المحاسبيّ ورابعة العدويّة[7].

وفي مرحلة النضج والتربية تحدّث الشافعيّ عن الجُنيد، والغزّالي، وسهل التُستَريّ، والحكيم الترمذيّ، وابن خفيف الشيرازيّ. واعتبر الشافعيّ أن من آثار تلك المرحلة الأعمال العظيمة التي حاول أصحابها أن يدوّنوا تاريخ التصوّف فيها، رجاله ومدارسه وأفكاره، ولا تزال أعمال هذه الفترة مراجع أساسية في علم التصوّف، مثل كتاب اللمع للسرّاج الطوسيّ (طاووس الفقراء)، والرسالة القشيريّة لأبي القاسم القشيريّ، وقوت القلوب لأبي طالب المكيّ، ورسائل أبي سعيد الخرّاز ومنها كتابه الصدق، وكتابات السُّلمي في التصوّف، والديلميّ علي بن محمد صاحب عطف الألف المألوف على اللام المعطوف. فإذا وُصفت هذه المرحلة بأنّها مرحلة نضج فذلك ما تدعمه كتابات الصوفيّة.

وفي مرحلة الازدهار الفكريّ والعمليّ تحدّث الشافعي عن الطرق الصوفيّة. وركّز على مكانة مصر التي أعطتها التطورات التاريخيّة ومقوماتها الذاتية مركزًا خاصًّا بين بلاد العالم الإسلاميّ. ولعل من أسباب هذه المكانة ما تحقّق من تزاوج بين التصوّف والتقاليد الأزهريّة بين علماء القاهرة[8].

وفي مرحلة الفتور والتقليد تحدّث الشافعيّ عن أحمد السرهنديّ وآثار دعوته في الهند. وذكّرنا بجهود حيدر بن علي الآملي أبرز علماء العرفان الشيعيّ (ت794 ﻫ) في توحيده بين التصوّف والتشيع في كتابه جامع الأسرار. كما أشار إلى صوفيّة آخرين من الشيعة كبهاء الدين العامليّ ووالده زين الدين.

وفي المرحلة الأخيرة تحدّث الشافعيّ عن صوفيّة في مصر، وضرب مثلًا بالشيخ الدردير العالم الأزهريّ، والشيخ حسن العطّار شيخ رفاعة الطهطاويّ ذي المشرب الروحيّ والفكر المستنير، الذي أيّد المفاهيم الصوفيّة، وأسهم في نشرها في مطالع القرن التاسع عشر. وذكّرنا بصوفيّة الإمام محمّد عبده التي منحته الاعتدال والتوازن، وختم الشيخ هذا الفصل بالحديث عن جهود العرب في دراسة التصوّف في العصر الحديث.

وفي الباب الثالث من تجليات التصوّف الأدب الصّوفيّ اعتبر الشافعيّ الأدبَ الصوفيَّ أجمل زهرات الحركة الصوفيّة، والتحفة النبيلة التي قدّمتها هذه الحركة للحضارة الإسلاميّة والتراث الإنسانيّ. وقد بدت بوادرها، وأينعت بواكيرها وسمعت ألحانها ومزاميرها منذ الصدر الأول، ولكنّها بلغت أوجها وشارفت كمالها فى القرن السابع وما بعده. ويعرض الشافعيّ للعوامل التي أدّت إلى نشوء هذا الأدب وازدهاره والخصائص التي تفرّد بها، ومنها: طبيعة التجربة الصوفيّة نفسها، فالصوفيّ في سفره الروحيّ يتجاوز هذا العالم الماديّ إلى الملأ الأعلى ليحصل على ميلاد جديد، وهنا تنضج تجربته الروحيّة وتبلغ غاياتها المنشودة، ولا يسعه بعد ذلك أن يتوقف عن الحركة أو يخلد إلى الهدوء، أو يقنع بالصمت والسّكون فيبوح وينفّس عن ذاته، ويبشّر بما ناله من نعمة الشهود. عامل آخر: هو الحبُّ الذي يتغلغل في كافة مراحل التجربة الصوفيّة، فالحبّ منبع كلّ شعر عظيم في تاريخ الإنسانيّة. إنّ الذي يتكلم عن الله لا يملك إلّا أن يكون شاعرًا، لأنّ ما يعجز الوصف عنه لا يمكن التعبير عنه بمفاهيم لغويّة، ولا بالأسباب والمسبّبات ولا بالحقائق المرتّبة[9].

ثمّ تحدّث الشيخ عن خصائص الأدب الصوفيّ، من صدق التجربة وعمق المعاناة وقوّة العاطفة والشعور والرمزية في التعبير.  وعرض لأجناس هذا اللون الرمزيّ، وخصّ الوصايا الصوفيّة ببحث ختم به هذا الباب. ويأتي (نقد التصوّف) كخاتمة لأبواب الكتاب. عرض الشيخ فيه ألوانًا من النقد الموجّه إلى التصوّف من الصوفيّة أنفسهم، باعتباره صورة من النقد الذاتيّ الداخليّ له قيمته ومغزاه. وقد اعتمد فيه على ما كتبه الطوسيّ في اللمع بشكل أساسي. كما استند إلى كلام الغزاليّ في المنقذ والقشيريّ في الرسالة. ثم عرض لنماذج من النقد الخارجيّ. أي نقد خصوم التصوّف ومعارضيه لأفكار التصوّف ومسالك الصوفيّة، مع محاولة لإبداء وجهة نظر محايدة لما يبديه كلّ من الصوفيّة وخصومهم.

 

خالد محمّد عبده 

 

 

[1]: كمال محمد دسوقيّ، كلمة المجمع في استقبال الشيخ الشافعيّ، مجلة مجمع اللغة العربيّة، مصر، جمادى الآخرة 1417- الجزء 79، 229- 234.

[2]: حسن الشّافعيّ، فصول في التصوّف، (القاهرة: دار البصائر، 2008)، 8.

[3]: جلال الدّين الرّوميّ شاعر الصوفيّة الأكبر، المثنوي، ترجمة محمد عبد السلام كفافيّ، (بيروت: المكتبة العصريّة، 1966)، 36، 73-83.

[4]: حسن الشّافعيّ، فصول في التصوّف، 16-18.

[5]: حسن الشّافعيّ، فصول في التصوّف، 26.

[6]: حسن الشّافعيّ، فصول في التصوّف، 92.

[7]: قليلة هي البحوث العربيّة عن مدرسة الزهد والتصوّف في مصر. فلم نقف في حدود بحثنا على دراسة واسعة للتصوّف في مصر وأعلامه إلّا على كتاب لمحمّد عبد المنعم خفاجيّ، التراث الروحيّ للتصوّف الإسلاميّ في مصر، (القاهرة: دار العهد الجديد، 1957). وبعض الدراسات التي خُصّصت لشخصية من شخصياته أو فكرة من فِكره مثل ما قدّمه علي صافي حسنين في دراساته عن الأدب الصوفيّ في مصر وبصورة خاصة في الصعيد.

[8]: حسن الشّافعيّ، فصول في التصوّف، 187.

[9]: حسن الشّافعيّ، فصول في التصوّف، 223-224.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!