باولو كويلو والرمزية الصوفية

باولو كويلو والرمزية الصوفية

باولو كويلو والرمزية الصوفية

لبنى المقراني

 

قد يفضي بنا الحبّ إلى الجحيم أو إلى الفردوس، لكنّه يفضي بنا إلى مكان ما يجب أن نتقبّله، لأنّه هو الذي يغذّي وجودنا، وإن تهرّبنا متنا جوعا، أمام أعيننا ترفل الأغصان بثمار شجرة الحياة، لكنّنا لا نجرؤ على القطاف…. باولو كويلو (على نهر بييدرا هناك جلستُ فبكيت)

 

يظهر باولو كويلو في مقدّمته لسلسلة رواياته الصّادرة باللّغة العربية تأثره بالموروث الصّوفي الإسلامي وبفكرة اعتماد القصص والرّوايات في نقل المعرفة، ومن ثم يذكر قصّة على لسان أحد كبار المتصوّفين تتمحور حول فكرة التعلّم من كلّ شيء في الحياة، من السّحب والأشجار والأنهار والحيوانات، أن تكون تلميذَ الحياة ولك فيها آلاف المعلّمين. يروي هذا المتصوّف الكبير وهو يحتضر لتلميذه كيف تعلّم من لصّ عدم اليأس والمثابرة، ومن كلب مواجهة الخوف، ومن طفل أن الإنسان يحمل في قلبه ما دعاه “النّار المقدّسة”.

ما يميّز روايات باولو كويلو أنّها تخاطبك، تنظر إليك بعيني موناليزا حيث كنت، تحاورك، تغوص في أعماقك وتناديك إلى رحلة داخلية تجعل لحياتك معنى. لعل هذا ما يفسّر إقبال القرّاء على كتاباته وترجمتها إلى العديد من اللغات.

بدأت مع باولو كويلو كما بدأ معظم القرّاء مع رواية “الخيميائي” التي تميّزها الرّمزية والبساطة في آن. بطلها راعي أغنام إسباني يسعى لتحقيق حلمه في إيجاد كنز مدفون عند الأهرامات في مصر، فيبيع جميع أغنامه وينطلق لتحقيق “أسطورته الشّخصيّة”. يصادف خلال رحلته بائع الكريستال الذي تخلّى عن حلمه فأصبحت حياته بلا معنى، خالية من المغامرة وحزينة. يتعرّض للسّرقة مرّتين ويشهد حروبا بين القبائل ومخاطر، ثم يجد تلك العراقيل تذلّل ليرى كل شيء حوله، حتى الصّحراء والشّمس والرّياح تسعى معه لتحقيق هدفه.

الرّحلة الدّاخلية ليست دائما واضحة ولا هي دوما محور الرّواية. يغوص الكاتب في أعماق النفس البشريّة ويبحر إلى جزرها النّائية، مثلما نجد في رواية “الزّاهير”، التي تتناول الأفكار الثّابتة التي تسيطر علينا حتى تصبح هاجسا. يلتقي خلال الرّحلة الطّويلة التي يقطعها بطل الرّواية (الذي يبدو أنّه باولو كويلو نفسه) بحثا عن زوجته بمجموعة من الاستعراضيين في أحد المطاعم، يمارسون طقوسا غريبة يطرحون خلالها أسئلة على المشاهدين من روّاد المطعم، أسئلة تضع بعضهم وجها لوجه أمام ما يهربون من مواجهته في أنفسهم. يلتقي بطل الرواية أيضا بمتشرّدين سكارى لديهم فلسفة ونظرة مغايرة تماما للعالم، فهم أناس متحرّرون من كلّ القيود ومن عبودية المال والشّكل، ومن الاهتمام بنظرة الناس إليهم.

تحرير النّفس من القيود بشتّى أنواعها لتنطلق خفيفة شفّافة محور رواية “الزّاهير”. يصل البطل في الأخير إلى العالم الذي هربت إليه زوجته بحثا عمّا يجعل لحياتها معنى، عالم بسيط بين أحضان الطبيعة، وجدها تعمل في حياكة السجّاد تاركة وراءها حياتها السّابقة ومكانتها المرموقة.

في نفس السّياق تقريبا، تبحث بطلة رواية “الزّانية” التي تعيش حياة مثالية مع زوج محبّ وطفلين جميلين ومال وفير عن الحبّ المفقود والشّغف والمغامرة، في ظلّ خوف مزدوج من بقاء حياتها على تلك الحال وفقدانها للنّعم التي تستشعرها في كلّ لحظة وتتساءل عن مدى استحقاقها لها. الحبّ، وهم الحبّ، الخوف من المجهول، فقدان الشّغف بالحياة هي الأفكار الرّئيسية التي دارت حولها هذه الرّواية. تتعلّم البطلة خلال رحلة قصيرة بالمظلّة في السّماء من صقر كان يحلّق أمامها فعاشت حالة التوحّد مع الكون لتتغيّر كليا نظرتها إلى الحياة. لا شيء يملأ ذلك الفراغ الرّوحي الذي جعلها تنجرّ وراء حبّ قديم سوى حبّ عظيم يغمر القلب فيشمل الكون.

الرّحلة الداخلية عند باولو كويلو لا تعني بالضّرورة الوصول إلى الله، ولكن الوصول على حالة من التّوازن يغذّيها الحبّ وشعور بقيمة الحياة.

رواية “عند نهر بييدرا هناك جلست فبكيت” لا تبتعد عن هذا المحور الجوهري في روايات باولو كويلو. بين حياة هادئة وحياة المغامرة تحتار بطلة هذه الرّواية. وتجدر الإشارة إلى معنى المغامرة عند كويلو، فهي لا تعني العبثية والانطلاق نحو المجهول بلا أهداف، بل على العكس تماما، للمغامرة والمجازفة معنى التحرّر والبحث عن الحياة الحقيقية، بعيدا عن حياة الأموات. تستشعر بطلة الرواية عودة الطّفل داخلها، الذي يعني عودة الشغف بالحياة والاندهاش وحب الاستكشاف.

أختم برواية “إحدى عشرة دقيقة”  التي تتميّز بواقعيّتها، فبطلتها حقيقية مومس جاءت من البرازيل إلى سويسرا للعمل كراقصة، ثمّ تصبح بغيّا لصالح النادي اللّيلي الذي كانت تعمل فيه. رغم ذلك فإنّ لهذه الفتاة حلما جميلا لم تتخلّ عنه يوما وتسعى جاهدة لتحقيقه، وهو شراء مزرعة في بلدها وتكوين أسرة وإنجاب أطفال والعيش بسلام. وجود هذا الحلم كان كفيلا بإخراجها من مستنقع الدعارة. الرّواية تتمحور حول الجنس والفلسفة التي شكّلتها بطلة الرواية عن هذا الموضوع بحكم مهنتها، ولكنّ باولو كويلو لا يريد فقط أن يحدّثنا عن الجنس من خلال روايته وإنّما يرغب في تصحيح نظرتنا السطحية للأشخاص، فلتلك البغي روح عذراء وإرادة قوية جعلتها تلتزم بالفترة الزّمنية التي قدّرتها لجمع المال الكافي لشراء المزرعة. لم تسرق الدّعارة روحها الجميلة الشفّافة التي استطاع رؤيتها أحد الرسّامين فأخذ يرسم ملامح روحها قبل وجهها.

باولو كويلو لا يوصّف حالات اختلال التّوازن التي يمر بها أبطاله، ولكنّه أيضا يصف الدواء، ويجعلك تثق في نجاعته حين تراه يتداوى بوصفته ويتعافى. هو حاضر بقوّة في كلّ رواياته، يشعر القارئ أنّها ليست مجرّد قصّة للمتعة فقط وإنّما لها غاية ونابعة عن حاجة، هي حاجته أيضا.

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!