كيف تتماثَل الأفكار؟

كيف تتماثَل الأفكار؟

 

________________________________________________________________

 ملاحظة: أثيرت بعض الأسئلة تعقيبًا على دراسة الدكتور محمد شوقي الزين (الفلسفة الرواقية في الفكر الإسلامي: نموذج ابن عربي)، ولما كانت مفيدة للقارئ المتابع رأيت أن أنقلها بعد طرح نصّ توضيحي كتبه الدكتور محمد شوقي الزين.

________________________________________________________________

كيف تتماثَل الأفكار؟

محمد شوقي الزين

 

389934_204636206287551_1271249925_n

 

 

 

 

 

 

 

معرفة كيف تتماثَل الأفكار هي معرفة كيف “تتشاكل” ولا “تتشابه”، حتى نستبعد التعسُّف في سوء الفهم من جرّاء الإجراء القديم والعقيم في التأثير والتأثر.
مثال بسيط. نقرأ عند المايستر إكهرت ما يلي: “يقول القديس أغسطين: إن هذا الميلاد (الأزلي) لا يزال قائما (أو يحدث دائماً)” (Der heilige Augustin sagt, diese (ewigen) Geburt geschehe immer)؛
Meister Eckharts Mystische Schriften, Berlin, 1903, p. 13
وعند ابن عربي: “فالبدء حالة مستصحبة قائمة لا تنقطع” (الفتوحات، ج2، ص55).

12196274_920791654671999_7155742842578241838_n

 12243509_920791878005310_9222850625769833778_n

في الصورتين: المايستر إكهرت والشيخ الأكبر ابن عربي

 

 

 

 

 

 

 

 

من التعسُّف أن نقول أن المايستر إكهرت نقل عن ابن عربي الذي هو الآخر نقل عن أغسطين، مثلما قلنا في دراسات أكاديمية مجحفة أن ديكارت استنبط عن الغزالي الشك المنهجي، وكأن مسألة المعيش (حُرقة السؤال قبل حِرفة التساؤل) هي قضية مصطنعة، يكفي أن نستعير فيها المضامين لنغلّفها بقشور ونقول أننا ظفرنا بالمطلوب. ليست الأمور بهذه السهولة المبتذلة. معرفة كيف “تتشاكل” الأفكار هي معرفة كيف تسافر بدون جواز السفر، ومن وجهة نظر ليبنتز (فكرة المونادا)، معرفة كيف أن الداني والقاصي يجتمعان حول فكرة دون أن يقرأ أحدهما الآخر أو حتى يعرف بوجوده. مثلا، “وحدة الوجود” هي فكرة مشتركة بين الماديين كالرواقيين والروحانيين كأفلوطين؛ بين المسلمين (ابن عربي، ابن سبعين) والمسيحيين (الكاردينال نيكولا الكوسي) واليهود، عرفانيين كانوا (أبراهام أبو العافية، إسحق لورية) أو فلاسفة (سبينوزا). ليعلّل مسألة كيف أن ابن طفيل صاحب “حي بن يقظان”، ودانيال ديفو صاحب “روبنسون كروزو”، وبالتازار غراثيان مع شخص “أندريينو” يجتمعون حول قصة تتماثل في الحبكة، اهتدى أوجينيو دورس Eugenio D’Ors في “الباروك” (Lo barroco) إلى فكرة “الأيون” (eon) الذي استلهمه من اليونان القدامى، زمن عابر للتواريخ، يجعل أشكال الفكر أو الثقافة تتماثل دون أن تتشابه: المثيل أو النظير لا يعني الشبيه أو المطابق (يمكن قراءة “التكرار والاختلاف” لجيل دولوز في هذا المضمار).

هذا لا ينزع عن فرادة كل كينونة أصالتها الذاتية، كما يُقال في الميتافيزيقا الوصفية (métaphysique descriptive) التي تدرس الموضوعات الأنطولوجية (les objets ontologiques)؛ تكمن قيمة “التشاكُل” في مجاوزة ادعائين: 1- الادعاء الأول أن ثمة خصوصية راديكالية خاصة بكل ثقافة: على أثر هذا الادعاء أينعت المركزيات وتفتّقت العنصريات من كل لون؛ 2- الادعاء الثاني أن ثمة كونية كاسحة تقوم بصهر الكل في مادة منعدمة التمييز (indifférenciée): على أثر هذا الادعاء شقت الإمبريالية طريقها وأيضاً النوازع الشمولية (totalitarismes). “التشاكُل” هو تقريباً ما سماه ميشال دو سارتو “الوحدة في الاختلاف”، مثل الوحدة البشرية في البنيات والوظائف واختلافها في الوقت نفسه: هذا الشخص يماثلني ولا يماثلني في الوقت نفسه، أو في صيغة ما سماه محي الدين بن عربي “هو لا هو”. التشاكل هو التعارُف، التشاكل هو التعايُش. وعلى أثر هذا “التشاكل” تنبني معظم كتاباتي.

 

تعقيبات : 

فرعون حمو:  الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي عارفٌ بالله وصوفي مفتوح عليه من الحضرة الألهية. ولا علاقـة له بالفلسفة إلا بما تواتر واتفق عليه الفلاسفة مع اهل الله الصوفية.
كيف يقول cruz hernandez miguel إن ” ابن عربي لم يكن سوى شاذلي متنور”؟
محمد شوقي الزين: لأن Cruz Hernandez Miguel بقي في التصوف المحض. لماذا تطوّر التصوف المسيحي نحو استخلاص نظريات أنطولوجية (هايدغر بالمقارنة مع المتصوف الريناني المايستر إكهرت) ونظريات نفسية (جاك لاكان بالمقارنة مع القديسة تيريز دافيلا)، ويقي التصوف الإسلامي في المحتوى الأخلاقي/الطرقي المحض؟ أعزو ذلك لنقص قراء يستخلصون منه نظريات يمكنها أن تكون ثورية على مستوى الفكر. لذا أوافق أحد المتخصصين في التصوف المسيحي ميشال دو سارتو Michel de Certeau الذي اعتبر أن كل حداثة تنطلق من التصوف، وأن كل ابتكار نظري يجد بعض مفاهيمه وأساليبه في التصوف: يكفي أن نقرأ المايستر إكهرت Meister Eckhart في التصوف الريناني أو إسحق لورية Isaac Louria في التصوف اليهودي، لنفهم الهيكل العظمي للفكر المعاصر مع هايدغر أو دريدا.

 
فرعون حمو: اتفاق الرواقيين مع الشيخ الأكبر في بعض الحقائق لا يعني أن اللاحق قد اخذ حتــمًا من السابق كما هو تحليل النظريات التطورية والنشوئية والتاريخية، بل باعتبار وحـــدة الأصل والحقيـــقة وفق نظرة ونظرية أهل العرفان والمعرفة والعيان.
محمد شوقي الزّين: لم يختف ابن عربي بوجود نظريات أفلاطونية أو رواقية. لقد استفاد من مناخ أندلسي متطور فكرياً وكانت تسافر فيه الأفكار اليونانية بكثافة. ما طرحتُه هو “التشاكل” الكائن بين أنماط الفكر، وليس فقط جدل التأثير والتأثر. البعضيتقزز لأن الأفلاطونية والراقية أخفت أفكار ابن سينا أو ابن عربي، لكنه ربما يكون الأول ليصفّق بأن ديكارت، في شكه المنهجي، أخذ عن الغزالي، وأن إيمانويل كانط استنسخ، في العقل الخالص والعقل العملي أفكار الغزالي في “محك النظر” و”ميزان العمل”. فإما ننفي التأثير والتأثر عن الجميع، وإما نصدّقه للجميع. أما أن نغتمّ بأن الفكر الإسلامي هو فكر يوناني مستنسخ، ثم نسبشر بأن الفكر الحديث (ديكارت وكانط) هو مستنسخ عن الفكر الإسلامي، فهذا اعتباطي وغير عادل !

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!